وسطية القوش الجيوسياسية واليوم التاريخ يعيد نفسه



الكلام او الكتابة تجسيد حي لما في دواخل الشخص من إصالة وعمق وأبعاد ، ولأسباب لم توصل الى كنهها  تغمرني نسمة سعادة حينما اكتب عن القوش ، رغم ان القوش لم تعد القوش التي اعرفها او التي قضيت فترة الطفولة والشباب في ازقتها ومنعطفاتها الضيقة ، او في بيادرها وشعاب جبلها الأشم .
في القوش انسى تاريخ ميلادي او بالأحرى احاول ان اجعل من تاريخ الميلاد شيئاً ثانوياً لا يعكر صفو اللحظة التي اعيشها ، في الحقيقة في القوش فقط ، ولا ادري اين يكمن السبب ؟ تتيح لي الفرصة الذهبية لكي ابحث وأقابل عن ذلك الأنسان المدعو ( أنا ) وأقرأ في تلافيف وجهه آثار السنين والتي تشير الى تلك المسافة الزمنية او المكانية وأبعادها تربو الى ما بين الأرض والقمر .
اجل انه واقع يمتد بين الأمس واليوم حروفه مكتوبة بوهج من النار ، ويشكل سداً منيعاً لا يمكن تجاوزه ، وفجأة يتوهج نار الكلمات امامي لتقول ، محلك يا رجل ! فأجمد بمكاني ، كمن يفاجئه وحش مفترس في غابة شائكة .
اجل .. ان الإرادة قوية عند ذلك المدعو (انا ) ، لكن قوانين الطبيعة دائبة التربص لمن يتجاوز تلك القوانين .
وإن كان ينبغي التسليم لقوانين الطبيعة ونواميسها ، فلا بد من العودة  الى السياسية ومتاهاتها ومشاغلها ، اليس عنوان المقال عن الجغرافية السياسية لألقوش ؟ سوف نخالف محمد عبدة حينما طلق السياسة ثلاثاً وقال كلمته المشهورة : اعوذ بالله من السياسة ، ومن لفظ السياسة ، ومن معنى السياسة ، ومن كل حرف يلفظ من كلمة السياسة ، ومن خيال يخطر ببالي عن السياسة .. ومن كل ارض تذكر بها السياسة ، ومن كل شخص يتكلم او يتعلم او يجن او يعقل في السياسة ، ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس ..
كلا نحن سنتكلم بالسياسية والفلاسفة الأغريق قالوا ان الأنسان حيوان سياسي . فلا بد من سلوك هذا الطريق لضمان حقوقنا في الغابة التي نسير فيها .
في غمرة تضارب المصالح كانت القوش تجذبها شتى التيارات ولم تكن يوماً بمنأى عن تلك الصراعات في المنطقة ، في زمن كانت مقراً لبطاركة الشعب الكلداني ، يوم امتدت الفتوحات الكنسية الى اقاصي الشرق نحو الهند والصين ، وحينما كانت هنالك ضجة في صف الكنيسة بجهة العودة الى احضان الكنيسة الكاثوليكية الجامعة ، كانت البطريرك يوحنان سولاقا قد اختير من بين رهبان دير ربان هرمز في القوش .
وفي العهد العثماني وفي عصر حكم الجليليين بالذات في ولاية الموصل ، كانت القوش محل صراع بين إمارة بهدينان المتمركزة في عمادية وبين ولاية الموصل ، وكان النتيجة ان اصبح دير الربان هرمز وممتلكاته ، تابعاً لأمير العمادية ، ومدينة القوش تابعة للموصل .
أجل ان القوش كانت تطالها الحملات والغزوات بسبب التعصب الديني الأسلامي ، وكانت مسرحاً لكثير من تلك المظالم ، منها حملات نادر شاه الفارسي الذي عمل فيها القتل والتنكيل ، واستراح قرب تل صغير شرق القوش ، ودعي ذلك المكان بـ ( طلشا) اي تل شاه .
اما الأمير الراوندوزي ، الملقب بالأمير الأعور ، والذي كانت حملته عام 1832 ، فقد كتب عن تلك الحملة الهمجية السوداء الكثير من كتابنا .
في ستينات القرن الماضي حينما اندلعت الثورة الكوردية ، كان لألقوش حصة كبيرة من المظالم والأنتهاكات بسبب موقفها المؤيد للثورة وبسبب انخراط عدد كبير من ابنائها في هذه الثورة ، كما ان القوش هي المدينة الوحيدة المتآخمة لأقليم كوردستان والتي لم يتطوع ابناؤها في قوات ( الجتا) ، بينما بينما الأكراد انفسهم كانوا ينقسمون بين متطوع في صفوف قوات البيشمركة وبين منخرط في صفوف قوات الجتا الحكومية ، وهذه الحالة لم تجد لها اذناً صاغية في القوش .
إن هذا الموقف جلب سخط الحكومات المتعاقبة على القوش . في عهد صدام حينما فرض حصار اقتصادي الى منطقة كوردستان نصبت نقطة سيطرة وتفتيش بالقرب من القوش ، مهمتها لم تكن فرض ضوابط الحصار الأقتصادي فحسب ، فالحصار كان شكلياً ، فعن طريق الرشوة كانت تعبر حتى القنابل ، لكن بالدرجة الأولى كانت تلك السيطرة منصوبة بغية إذلال واحتقار اهل هذه المدينة المسالمة ، وتروى قصص عجيبة وغريبة من تصرف ازلام تلك السيطرة ، إضافة الى تصرفاهم اللااخلاقية ازاء نساء وبنات المنطقة ، وقد حدثني احد الزملاء وهو استاذ اكاديمي ، كان قد راجع دائرة الجوازات في الموصل ، ويقول ان نظرة الكثير الموظفين الى المسيحيين لا زالت تتسم بعنجهية ، وإن بعضهم يسلك سلوك غير مؤدب مع النسوة المراجعات .
القوش كما اراها اليوم تتقدم عمرانياً وخدمياً ، وفي الحقيقة فأن أزمة الكهرباء الأزلية ليست في القوش فحسب ، لكن في القوش تأثيرها سلبي جداً ، حيث اناقش بعض الأشخاص عن سبب تصميمهم على الهجرة ، فيكون الجواب ان انقطاع التيار الكهربائي في مقدمة الأسباب ، وفي الحقيقة لا اخفي معاناتي خلال اشهر الصيف التي قضيتها في القوش هذا العام ، إنها كمعركة طارق بن زياد التي اشتهرت بأن العدو امامك والبحر ورائك ، هكذا نحن في القوش ( وأقول في القوش ) لآن المقال هو حول القوش ، إذ ان المدن الأخرى ليست افضل حالاً باستثناء مدن اقليم كوردستان حيث ينعمون بكهرباء كاف .
حينما لم يكن في القوش كهرباء ، لا احد يشكو الحالة ، ولكن بعد ان اصبح الكهرباء متطلب رئيسي في الحياة ، اصبح فقدان هذه النعمة كارثة حقيقية ، إن الكهرباء في العراق حالة عجيبة ، إذ تخصص الأموال الطائلة لتوفير الكهرباء ، لكن تلك الأموال تختفي قبل ان تصل الى الشركات التي تقوم بتأسيس المولدات .
إن كان عدم توفر الكهرباء بسبب الفساد المستشري ، فإن حكامنا القادمين عن طريق الديمقراطية هم حكام فاسدين ، وإن كان هؤلاء لا يسرقون تلك الأموال لكنهم لا يستطيعون توفير الكهرباء رغم توفر القوة البشرية والأموال ، فإن حكامنا سنضعهم في هذه الحالة في خانة الحكام الفاشلين ، فإما هو فاسدين وإما فاشلين .
هموم العراق هي كثيرة فأعود الى القوش ، حيث تقوم الأدارة الحكومية بتبليط بعض الشوارع في منطقة (خيبرتا )، وهنالك جهود من البلدية في تنظيف البلدة يمكن وصفها بأنها جيدة .
هذا من جانب الحكومة المركزية ، اما اقليم كوردستان فقد وضع محافظ دهوك السيد رمضان تمر الحجر الأساس لطريق القوش بيندوايا ، كما ان اقليم كوردستان يقوم حالياً بتنفيذ مشروع مهم في القوش وهو إنشاء قناة متطورة لمياه الأمطار وغيرها في القناة الرئيسية في القوش والتي كان سبباً لركود المياه الآسنة وانتشار الحشرات والأوبئة ، إضافة الى ذلك فإن اقليم كوردستان يقوم بتوسيع وتبليط الطريق بين دير السيدة ودير الربان هرمز ، ولا بد للاشارة ايضاً الى الطريق الذي يجري تنفيذه بين القوش ودير السيدة .
لكن اهم من كل ذلك ثمة خطة لربط القوش مع محطة توليد الكهرباء في باعذري ، والمشروع في طريقه الى الأنتهاء وثمة خطة لتغذية القوش من هذا المشروع المهم ، يفيد بعض المطلعين ان القوش ستتمتع بحوالي 18 ساعة كهرباء يومياً .
في لقائي مع احد المسؤولين الأكراد وحين الحديث عن القوش والمناطق المتنازع عليها قلت له ان كسب ود اهالي القوش لا يتم عن طريق التثقيف او الدعاية الحزبية ، إنما يمكن كسب ودهم بتقديم الخدمات وبناء البنية التحتية .
ثمة طريقان امام القوش ، يمكن ان تناصب العداوة للطرفين ، للعرب والأكراد ، على مدى استيعابي للعمل السياسي كانت القوش دائماً تشغل مكان المعارضة لأي حكومة مركزية ، وهكذا بقيت القوش قرية مهملة بل مغضوب عليها .
اليوم تختلف المعادلة يمكن ان يكون الواقع الجيوبوليتكي عام خير لألقوش وهذا متوقف على اهالي القوش ونخبها وعقلائها ، فيمكن ان يكون لهم سياسة متوازنة مع الجميع وتستفيد من الطرفين ، لا شك اقليم كوردستان ، يتطور بسرعة قياساً الى بقية اجزاء العراق ، وهكذا يكون نصيب القوش قسطاً من هذا الخير ، ولا شك ان ما تقدمه كوردستان لالقوش حالياً من الخدمات والبنية التحتية يمكن اعتبارها جزء من الوفاء لألقوش ، إذ ان القوش وقفت مع كوردستان في اصعب ايامها ، وكما يقال ان الصديق يعرف اثناء الضيق فألقوش كانت اوفى الأصدقاء ، وها هي كوردستتان تعيد الوفاء لأصدقائها .
يجري الحديث مع اصدقاء من عنكاوا عن انفتاح عنكاوا وانغلاق القوش وتقدم عنكاوا ، وعدم تقدم القوش من الناحية الأقتصادية والخدمية ، فتكون خلاصة الكلام تأييد الأخوة في عنكاوا لآنغلاق القوش .
كلمة اخيرة اقول لأبناء القوش المنتشرين في انحاء المعمورة ، إذ اقول لهم اينما كانوا في اوروبا او امريكا او آستراليا ان يقوموا بزيارات الى مدينتهم الكلدانية الوفية القوش وأن لا ينسوا هويتهم وقوميتهم الكلدانية ، إن زيارة القوش يشكل صفحة وفاء لمدينتنا العزيزة القوش .

حبيب تومي / القوش في 07 / 08 / 11

You may also like...