والتقيت بعبوسي في مشيغان

كل يوم أتاكد أكثر من أنني أنتمي لجيل لعب معه القدر لعبته القذرة ، جيل

هزّ أكتافه ورقص الجوبي وصفّق البصراوي ” ونزل للكاع ، وبزخ ” على

أغان لاعلاقة لها بالإنسانية لامن قريب ولا من بعيد ، استمدت روحيتها

من الضواري والحيوانات المفترسة ، فرض ثقافتها النتنة فكران رجعيان

بعثي في العراق وديني في إيران ، منها ( إحنا مشينا للحرب – وهمة إجو

للموت محّد جابهم –  هاولكم وين يادجالين – تقدّم وحنة وياك إثنين

جيشين لصدام حسين – ياكاع ترابج كافوري وغيرها من المبتذلات ) بل

حتى أغاني الأطفال الشعبية لم تسلم هي الأخرى وأذكر :- طلعت الشميسة

على وجه عيشة ، عيشة عراقية بنت القادسية .

أنتمي إلى جيل بائس لاعلاقة له بالمسرح ، ولا وقت له لاستيعاب الفنون

، خضع للإعلام والثقافة الموجهة ويكفر بالسماء والأرض إن حصل

تشويش على إذاعة مونتيكارلو ولندن ، المنفسين الوحيدين لسماع أخبار

لايقرؤها أزلام المقبور قبل بثّها .

لم نعرف التنوع الفكري يوماً ، ولم يُسمّح لعقلنا بالتحليل لتكوين رأي حرّ

، ولا نفْقه أبعاد معاني بعض الكلمات وإنما نرددها فقط مثلاً ” الاختيار ،

الابداع الحر ، الرأي الحر ، العدالة ، الجميع تحت القانون ، نزاهة حكّام ،

الكرامة ، عزة النفس ، وغيرها ” لأن الجميع معرضين للإهانة والذل في

كل مكان وزمان .

عندما أجتمع مع الخمسينيين وما قبل من أجيال أشعر بأنني من عالم آخر

وكأنني لست إبن هذا البلد الرائع …

إنها اجيال سمعت السمفونيات وتأملت مع الكلاسيكيات وقرأت لكتاب

أحرار وتبنّت أفكاراً مختلفة وطبعت الحوادث والأسماء في ذاكرتهم .

يتكلّمون عن ثورات وعن مظاهرات كحقائق حدثت وليس كأمنيات تشبه

تبادل التهاني في الأعياد …..

لذا ، عندما تسمح لي فرصة ان ألتقي بمبدع عراقي من الرعيل القديم

ينتابني شعوران ، الأول هو الفخر والاعتزاز والثاني هو الألم كونهم

مدرسة ، إن وجد فيها طلاب فلا يتجاوزون أصابع الكف الواحد ، لأن دور

حزب البعث الرجعي والدموي هو سحق العراق وتدميره ، وغالبية

أعضائه الكبار لديهم عقدة النقص من كل ماهو مميز ، لذا حاولوا جاهدين

تحجيمهم وتصفيتهم متى ما اقتضت الحاجة لأن والحقيقة تقال بأن اكثرية

المواهب والطاقات المبدعة العراقية كانت تنتمي أو تتبنى الأفكار

اليسارية….

في الثالث من حزيران 2011 دعى الاتحاد الديمقراطي العراقي في

مشيغان الشخصية الجميلة والمحببة والقريبة لقلوبنا حمودي الحارثي

والمعروف بعبوسي ، ولكوني محظوظ أحياناً وأسكن في وندزور ، المدينة

الصغيرة التي تحدّ ديترويت ، ومن أجل صديقة عزيزة غادرت العراق قبل

أكثر من ثلاثين سنة ولم تزره غير مرة واحدة بعد سقوط الصنم ، فقد كان

إصرارها للذهاب إلى الندوة كطفلة تبحث عن حظن يدفئها ، فقررت الذهاب

ودفعنا  أول  ثمن  عندما  مكثنا  ساعة  ونصف  ونحن  نقطع  الحدود .

موعد اللقاء كان في السابعة والنصف مساءً بحسب التوقيت العراقي الذي

يقبل الزيادة فقط ، وأنا والصديقة العزيزة خرجنا من وندزور قبل الثانية

والنصف ظهراً وعدنا بعد منتصف الليل … الغريب في الأمر بأن رفيقتي

في هذه الرحلة تعاني من اوجاع في الظهر تمنعها من الجلوس لساعتين

دون تمدد ، إلا أنها قضت أكثر من سبع ساعات ثم عادت نشطة ، وكأن

الدواء في مثل تلك  الاجتماعات  الدافئة .

والتقينا بعبوسي ، وكانت ساعات من الروعة أدونها كنقطة مشرفة في

تاريخي ، شخصية متواضعة جداً وواقعية وصريحة ومثقفة . نحات

وممثل ومخرج ، وأكثرنا لم يكن يعرفه سوى ممثل ، له جواب لكل سؤال

، أمتع الحضور بإسلوبه الشعبي الجميل ومزحاته الذكية ، ورغم كرهي

للتصفيق إلا أنني فعلتها وبحرارة أكثر من مرة ، لأنه لم يكن تصفيقاً

لشخص يسعى لنيله بل لموهبة سخّرت من أجل شعب برمّته . عبوسي

فنان قريب للقلب مازلنا وسنبقى نردد عن ظهر قلب الكلمات الساخرة

والتعابير المضحكة التي قالها في مسلسل تحت موس الحلاق الشعبي

الشهير .

وأحتراماً للجهات الإعلامية المخولة بتغطية اللقاء لن أذكر في هذه المادة

المتواضعة ماذكره في تلك السويعات الطيبة .. وليسمحوا لي زملائي بأن

أبشّر كل العراقيين بأن عبوسي قد وعدنا بتقديم عمل مسرحي قريباً ولن

يمنعني عن مشاهدتها عند العرض الأول سوى المستحيل …

تاج على رأسي عبوسي ، وشكراً لكل من اهتم بحضوره إن كان اتحاد

الفنانين العراقيين الكنديين أو إخوتنا في الإتحاد الديمقراطي العراقي في

مشيغان الممثلة بشخص نبيل رومايا … لهم منّي كل احترام .

You may also like...