نزهة كوردية في رياض موطن الأبطال / محمد مندلاوي

 

في أواسط السبعينات من القرن الماضي, ذات يوم وفي إحدى عصريات صيف بغداد القارض, كنت و مجموعة من الأصدقاء, نسير مشياً على الأقدام في شارع الرشيد متوجهون نحو شارع أبي نواس للتنزه على ضفاف نهر دجلة, وأثناء سيرنا في الشارع المذكور مررنا بمكتبة ما, إذا لا تخونني الذاكرة, كانت مكتبة (مكنزي) المعروفة, وأثناء بحثنا بين آلاف الكتب التي احتوتها المكتبة بطريقة غير منسقة وغير مفهرسة في جذاذات أو دفاتر, وبعد البحث والتحري في ثنايا الرفوف العديدة التي غطت جدران المكتبة وقع نظري على ديوان لشاعر العرب الأكبر (محمد مهدي الجواهري), بما أنني كنت من أشد المعجبين بشعر الجواهري وقتها, دفعت ثمنه واقتنيته, وإذا به يضم بين دفتيه رائعة الجواهري, تلك القصيدة العصماء ((كوردستان يا موطن الأبطال)) وجدت في هامش الكتاب, أن الجواهري دون كلمة مقتضبة بخط يده, لا زالت كلمته عالقة في ذاكرتي ولا تغادرها رغم مرور أربعة عقود عليها, وكانت كالآتي:” ألقيت هذه القصيدة في مؤتمر طلبة الكُرد في أوروبا سنة (1963) عندما كان القتال دائراً بين الثوار الأكراد الأبطال و جلاوزة الحكم في العراق”. إن التاريخ المدون في أسفل القصيدة أكد لي أنها نظمت في حقبة سوداء من حقبات تاريخ العراق الدموي,وهي عام (1963) عندما استولى حزب البعث المجرم مع الجِلواز عبد السلام محمد عارف وبإيعاز ودعم مباشر من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية المعروفة اختصاراً بـ ” سي.آي.إي – C.I.A” على زمام السلطة السياسية في جمهورية العراق بانقلاب دموي عنصري؛ الذي عُرف فيما بعد بانقلاب (8) شباط الإسود. وترأس الجواهري عقب الانقلاب المذكور, حركة الدفاع عن الشعب العراقي, وعلى أثرها أصدرت سلطات الانقلاب العنصري في بغداد قراراً بسحب جنسيته العراقية!. استنكر حينها قطاعات واسعة من الشعب العراقي من هذا القرار القرقوشي, وتساءل بعفوية, كيف يتم سحب الجنسية من شخص عملاق بوزن الجواهري؟ الذي تاريخ ولادته يسبق تاريخ تأسيس مملكة العراق بإحدى وعشرون عاماً!, ويؤكد لنا هذا, تاريخ ولادته المثبت في وثائقه الشخصية ألا وهو عام (1899), بينما ما سمي بمملكة العراق تأسست عام (1920) من قبل بريطانيا العظمى, واستقرت على حدودها السياسية الحالية عام (1925) بعد أن احتلت بريطانيا مملكة جنوب كوردستان وألحقتها رغماً عن إرادة شعبها الكوردي بالكيان العراقي المستحدث بريطانياً. إذاً, أن تاريخ ولادة (محمد مهدي الجواهري) يوضح لكل ذي عينين, أنه أكثر أصالة وعراقة من الكيان العراقي, صنيعة بريطانيا. حتى أنه – الجواهري- ذات يوم سخر من قانون إصدار الجنسية العراقية لعام (1924) عندما طالب المشرع العراقي في القانون المذكور من المواطن في هذه الديار, أن يثبت عثمانيته – أي تركيته- حتى يقبل به مواطناً عراقياً!!. دعونا الآن نذهب إلى بيت القصيد في مقالنا, ألا وهو القصيدة التي ذكرنا عنوانها أعلاه, والتي بدأها متنبي العصر أبا فرات على طريقته المثلى بتعظيم وتمجيد موطن الأبطال ((كوردستان)) الأبية, حين هدر كالسيل الجارف وأجهر بصوته الجهوري:” قلبي لكُردستان يُهدى والفم … ولقد يجود بأصغريه المعدم” في هذا البيت الشعري, يكشف ملك الكلام, عن مكمن قلبه الذي يحوي مكنوناته, أي كل ما هضم في مسيرة حياته التي قضاها في عالم الشعر والأدب, يظهره للعيان ويضعه بكل تواضع وخشوع من خلال أصغريه – الذي هو القلب واللسان – على ثرى موطن الأبطال في حضرة قائده ومفجر ثورته الكبرى, الخالد ملا (مصطفى البارزاني). حقاً إنك شاعر العرب الأكبر, بل تستحق أن توصف بشاعر العالم الأكبر, لأنك أبدعت في كل قصائدك و طرقت جميع أبواب الشعر العربي, ونظمت القافية, فكنت خير من أجاد علم القافية, علم موازين الشعر على أكمل وأتم صورة. وفي بيت شعري آخر جاء في القصيدة التي نحن نتناوله في هذه المقالة, يعتبر ذروة الشعر العربي, يقدم الجواهري نفسه في هذا البيت قرباناً لذاك الولي الصالح؟, قائلاً: “نفسي الفداء لعبقري ثائر … يهب الحياة كأنه لا يفهم” كان يعني بذلك العبقري الزعيم الكوردي ملا (مصطفى البارزاني) وصفه الجواهري بالعبقري الذي يعني في معاجم اللغة, أنه فائق الذكاء, نادر زمانه, له قوة الخلق والإبداع الخ. وقال في الشطر الثاني من البيت, أنه يهب الحياة, أي أن البارزاني يفدي الحياة, من أجل عدالة قضية شعبه المناضل, إلى حد كأنه لا يعرف مدى الخطورة التي يقدم عليها. إن هذا القطب الكبير, الذي جاوز بقامته ذُرا جبال كوردستان, ظهر في أيامه قزماً منبوذاً حاول مستميتاً أن يبلغ قامته, لهث ورائه كثيراً, وفي النهاية لم يبلغ شسع نعاله. وفي بيت آخر يتحفنا الجواهري قائلاً:” سلم على الجبل الأشم وعنده … من أبجديات الضحايا معجم” مَن غير الجواهري يستطيع أن ينظم مثل هذا الكلام الكبير شعراً؟ ومَن من شعوب العالم ألف معجماً من ضحاياه في مسيرة التحرر الوطني غير الشعب الكوردي العظيم؟, الذي ضحى بكل شيء, ولم يبخل أبداً بتقديم القرابين على مذبح الحرية والاستقلال. يقول أبا كفاح في صدر البيت: “سلم على الجبل الأشم” اتخذ الجواهري من اسم الجبل رمزاً لكوردستان. يقول بفصيح العبارة, لكل من تطأ قدماه أرض كوردستان, قف بخشوع وإذعان, أنت أمام وطن وبين شعب تحدى جبابرة العالم وانتصر عليهم بأيدي خالية. وفي عجز بيت آخر يقول:” حتى الرضيع بفقد أم يسهم” أن أبي فرات في هذا البيت جعل من نفسه مرآةً عكس للعالم معاناة الشعب الكوردي و مدى الوحشية والسادية التي تعرض لها على أيدي حكام بغداد القتلة. إن القارئ لهذا البيت الشعري, يرى بكل وضوح, أن الرضيع الكوردي لم يفقد أمه بحادث سيارة, أو بسبب انفجار قنينة الغاز في المطبخ, بل أبيدت الأم حرقاً بقنابل النابالم التي كانت تلقى من قبل الأوباش على القرى الكوردستانية دون رحمة ودون تمييز بين الإنسان والحيوان, وبين الطفل الرضيع والشيخ المسن والمقعد. وأكد على هذه السادية بتعذيب الأبرياء في بيت آخر حين قال: ” ستصب لعنتها الحوامل تفتري … والدور تحرق والقرى تتهدم”. لسنا نحن فقط نصف حكام بغداد بالوحوش الكاسرة, هذا هو الجواهري الكبير في نفس القصيدة وفي إحدى أبياتها يصف حكام بغداد بأخزى الوحوش, حين يقول بألم وحسرة: ” أخزى الوحوش كواسراً وأذلها … وحش بلحم بني أبيه يطعم” يصفهم بأكلة لحوم البشر. أنه يقول لنا, أن هؤلاء الحكام القابعون في بغداد وحوش كاسرة بجلود بشرية.  بعد أن نال في هذه القصيدة العصماء من الحكام الديكتاتوريين المتسلطين على رقاب الشعب بالحديد والنار توجه إلى أولئك المثقفين الذين يسيرون أقلامهم الصفراء في خدمة السلطان, كأن ليس لهم عيون ترى ما جرى للشعب الكوردي في وطنه كوردستان من مآسي وويلات, ولم تؤنبهم ضمائرهم يوماً ما, فصرخ في وجوههم الكالحة: “وتفرج المتفيقهون فلا دم … يغلي ولا قلم يذود ولا فم” وبعد هذا البيت مباشرة يصف محتلي كوردستان, أعداء الشعب الكوردي بالأوغاد الأدنياء, قائلاً:” لم تنفي خجلاً عيون أبصرت … وجه الكريم بكف وغد يلطم” وفي نهايات القصيدة الطويلة يناشد الجواهري كوردستان الأبية بغُصة:” يا موطن الأبطال مهما أسفرت … نوب تسيء حكومة أن تحكم … مهما ارتمت ذمم وهانت عفة … وهوت مقاييس وأوغل مجرم” بهذين البيتين وضع الجواهري حكام بغداد في الحضيض, لم يبقي لهم كرامة وماء وجه, تماماً كما هجاهم (مظفر النواب) في قصيدته “تل الزعتر” التي نظمها بعد قصيدة الجواهري بعدة عقود شاكياً فيها إلى ربه من جور الحكومات الملوطة قائلاً: “يا رب كفى حكاماً مثقوبين؟؟” عزيزي القارئ, إن الدول الاستعمارية البغيضة, انتقاماً من الشعب الكوردي الذي قارعها في ساحات الوغى قديماً وحديثاً, وأفشل مخططاتها الجهنمية, قامت بعد ظفرها في الحرب العالمية الأولى بتمزيق كوردستان وإلحاقها قسراً بعدة كيانات عميلة لها أوجدتها خدمة لمصالحها الإستراتيجية, ونصب على رأس هذه الكيانات الهزيلة أناساً مذمومين تاريخهم إسود قاتم مثل وجوههم. أ ترى, في الوقت الذي يصف القادة الكورد بالسادة العظام ويحلق بهم إلى عنان السماء, نراه يهجو آخر حكام العراق قبل التحرير ويشككه بنسبه الدنيء: “سل مضجعيك يا ابن الزنا … أأنت العراقي أم أنا”. في نهاية ملحمته الشعرية ” كوردستان يا موطن الأبطال” التي ساند وعاضد فيها الشعب الكوردي وأنصف قائدها المبجل (مصطفى البارزاني) لقد ظهر في أبياتها الأخيرة نبوءة أبا (فرات) الشعرية, لما لا, ألم يقال أن جميع الاختراعات و الإبداعات التي حدثت في التاريخ كانت رؤى شاعر؟ وهذا هو شاعرنا الكبير أبا فرات يتنبأ بهذا اليوم المشهود الذي حقق فيه الشعب الكوردي في جنوبي كوردستان حلمه وأمنيته القومية رغم كل التحديات والصعاب التي واجهته, حيث ينعم اليوم بالأمن و الاستقرار وسيد نفسه, وهذا ما تنبأ به الجواهري الكبير قبل عدة عقود في الأبيات التالية:” يا موطن الأبطال مهما ديس من … حرم لديك وما استبيح محرم … فلسوف يجزوك الكفاح بغاية … لك عندها عن ألف عزم مغنم … ولسوف تنزاح الخطوب وينجلي … لون السماء وتستضاء الأنجم … ولسوف ينكشف المدى عن واحة … خضراء عن غدك المؤمل تبسم … فهناك سوف يحس جيل أنه … مما ابتلى جيل تعذب ينعم … وهناك يعرف ما الحياة وما الردى … وهناك يفهم ما السلام وما الدم”. وهكذا هدر أبا كفاح كالسيل الجارف مدافعاً باسلاً مقداماً عن الشعب الكوردي وقضيته الوطنية العادلة, محذراً محتليه الأوباش بأنكم قد تتحطمون الدنيا بجرائمكم وإرهابكم, ألا أن الشعب الكوردي لا يتحطم, بل يواصل مسيرته رغم الصعاب حتى الوصول إلى النور الذي في نهاية النفق, وعنده يتجلى نبوءة الشاعر الذي قال بكل ثقة ويقين وبغير تردد :” شعب دعائمه الجماجم والدم … تتحطم الدنيا ولا يتحطم”. إن هذا البيت الأخير في القصيدة يذكرني بقول مأثور لا أعرف من الذي قاله أول مرة, وهو كالآتي: “كوردي وصخرة وبرنو فليأتي العالم جميعاً” أو قول الشاعر الكوردي الخالد (محمد البدري) حين حاور في إحدى قصائده مدينة السليمانية في جنوبي كوردستان:” سليمانية, أنتِ الأمينة والوفية مع الكورد… سليمانية, الكورد باقون كبقاء جبال كوردستان, ومستمرون في مسيرة الحياة حتى وجود الهواء على هذا الكوكب الدوار”.

تحية حب وتقدير ووفاء وإخلاص لكل من ناصر ويناصر الشعب الكوردي في مسيرة نضاله من أجل الحرية والاستقلال

محمد مندلاوي

18 10 2015     

 

 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *