مِنْ وحي الميلاد العجيب

تُرى، هل كان صدورُ مَرسوم من القيصر الروماني أوغُسطُس في ذلك الزمان بإحصاءِ سكان الإمبراطورية صُدفةً؟ إذ لم يُصدِرْ أيٌّ من القياصرةِ الذين سبقوه أمراً كهذا؟ لا لم يأتِ الأمرُ صدفةً بل أتى بتدبيرٍ إلهي ليكون أولَ إحصاءٍ يُسجَّل كُلُّ فردٍ في بلدتِه التي وُلدَ فيها، وهكذا تحتَّمَ على يوسف أن يذهبَ من مدينة الناصرة بمنطقةِ الجليل الى منطقةِ اليهودية الى مدينةِ داود المدعوَّة “بيتَ لحمَ” لأنَّه كان مِن بيت داود وعشيرتِه ليتسجَّل هناك هو ومريمُ  خطيبتُه وكانتْ حاملاً. نعم كان الأمرُ بوحيٍ من الله لتلِدَ مريمُ إبنها يسوعَ في مدينةِ “بيت لحم” كما وَرَدَ على لسان الأنبياءِ. وإذْ لم يَجِدا مَوضِعاً في المضافةِ لَفَّت مريمُ إبنَها بقماطٍ وأنامَته في مذودٍ.

 

ماذا يعني اسمُ ” بيتَ لحمَ ” يعني بَيتَ الخُبز، ولهذا أرادَ المسيحُ أن يُولدَ فيها، ليُعطينا جَسَده خبزاً سماوياً ليتناولَه كُلُّ جائع وعطشانٍ الى البِر، ما أعظمَ تواضعكَ أيها الربّ يسوع لتقبَلَ بولادةٍ غير معروفة، في بلدةٍ صغيرة، إنَّه لعَملٌ خارقُ العادة فَسَّره رسولُ الأمم بولسُ في رسالتَيه لمؤمني قورَنتوس وفيلبي< فأنتم تعرفونَ نعمةَ ربِّنا يسوع المسيح، فمِنْ أجلِكم افتقرَ وهو الغنيُّ، لكي تغتنوا أنتم بِفَقره > (2 قورنتوس8: 9) < بل أخلى نفسَه متخِذاً صورةَ عبدٍ، صائراً شبيهاً بالبشر> (فيلبي2: 7). ولا نَنسى أنَّ “بيتَ لحم” كانت مدينةَ داود الملك وفيها مُسِحَ ملكاً على اسرائيل من قبل النبيِّ صموئيل، وفيها ارتأى الربُّ أن يُولدَ يسوعُ الملك مِن نسل داود.

 

ولما وُلد يسوعُ في “بيت لحم” اليهودية على عهدِ الملكِ هيرودس، إذا بمجوسٍ قدِموا من الشرق الى اورشليم وقالوا: أين هو المولودُ ملكُ اليهود؟ فقد رأينا نَجمَه في المشرق، فجئنا لنسجُدَ له. المجوسُ هم كهنةٌ او ملوكٌ كلدانيون مُختصون بعِلم الفلك والظواهر الكونية، واسمُ المجوس كان يُطلقُ على العلماءِ والفلاسفةِ الذين كانوا يقطنونَ بلادَ ما بين النهرين، ويعتقدونَ بوجود علاقةٍ بين حركةِ النجوم والأحداثِ التي تجري في العالم، فظهورُ النجم كان لديهم علامةً على ميلاد شخصٍ عظيم. فهؤلاءُ المجوس القادمونَ من بلاد المشرق كانوا على عِلمٍ بنبوءةِ بلعام بمجيء المَسِيّا ولذلك كانوا بانتظار هذا المولودِ العجيبِ الذي تنبَّأَ عنه بِلعامُ < يَخْرُجُ نَجمٌ من يعقوبَ ويظهَرُ ملكٌ من اسرائيل…> (العدد24: 17). يَتضحُ من نبوءةِ بلعام وظهورِ النجم للمجوس حيث دلَّهُم على ميلادِ المسيح، بأنَّ الله لم يُبقِ ذاتَه حكراً على اليهود، بل وزَّع اهتمامَه على سائرِ البشر، فالمجوسُ بنظري يُمثِّلونَ الجماعاتِ الأممية التي قَبِلتْ المسيحَ ومِنهُم تكوَّنتِ الكنائسُ، بينما رَفضتْهُ خاصتُه اليهود! وكان قدومُهم وسجودُهم للمسيح وتقديمُهم هداياهم الملكية إليه يُمثِّلُ اعترافاً منهم بملوكيتِه وكهنوتِه ونبوَّتِه! فهل سيتساوَى نصيبُهم يومَ الدينونة مع مَن علَّقوا المسيح على الخشبة؟ بالتأكيدِ لا! وما هو دَورُنا أيها الإخوة نحنُ المؤمنونَ بالمسيح وما هي الهدايا التي يُريدُها مِنّا المسيحُ؟ أنا أقولُ لكم ماذا يُريد مِنا: يُريد أن نُكرِّسَ له قلوبَنا، يُريد رحمةً لا ذبيحة، تَرْكَ شهواتِنا، محبةَ قريبِنا بقدر مَحبتِنا لنفسِنا، تقديمَ التوبةِ عن خَطايانا من خلال سِرِّ الإعتراف على الأقلِّ مَرَّةً واحدةً في السنة، نقول الحقَّ في تعامُلِنا مع غيرنا، أن نَبتَعِدَ عن عبادةِ المال، وكلُّ منا يَعرفُ نواقصَه وعليه نبذَها. وأخيراً القراءةَ اليوميةَ لبعضِ آياتٍ من الإنجيل والتأملَ بها هي الكفيلةُ بإبعادِنا عن ارتكابِ الهفواتِ والخَطايا، فالإنجيلُ هو النجمُ الذي يقودُنا الى المسيح!!!

 

هيرودس الأدوميُّ المتهوِّدُ والحسودُ الحاقدُ لم يَجِدْ يسوعَ الملكَ الطفلَ لأنَّ هَدفَه كان شريراً، فانتقَمَ من الأطفالِ الأبرياء. بينما الملوكُ المجوسُ الوثنيون القادمون من المشرق وجَدوه لأنَّهم بَحثوا عنه بملءِ الحب والشوق. ورؤساءُ الدين اليهود أعلموا هيرودسَ بأن المَسِيّا المنتظرَ في “بيت لحم” يولدُ لأنَّه هكذا قالت النبواتُ، ولكنَّهم عن مشاهدتِه امتنعوا خوفاً على مراكزهم الدينيةِ ومصالحِهم المادية. كانوا رعاةً رسميينَ لإسرائيل ولم يَبحثوا عنه فلم يَجِدوه، بينما رُعاةُ الغنم الساهرونَ على مواشيهم وبعد أن بشَّرَهم الملاكُ قاموا للحال وقَصدوا الى بيت لحم فشاهدوهُ!

قال المجوسُ: ” أين هو المولودُ ملكُ اليهود؟ فقد رأينا نجمَه في المشرق فجئنا لنسجُدَ له” تُرى، ماذا كان هذا النجمُ؟ يُعرِّفه القديسُ يوحنا الذهبيُّ الفم: “بأنَّه لم يكن نجماً حقيقياً كسائر النجوم، إنَّما كان ملاكاً ظهرَ في هيئةِ نجمٍ ليُهدي المجوسَ المختصينَ بعِلْم الفلك. وقد يكونُ هنا سائلٌ يَسأل: لماذا استخدمَ الله النجم؟ والجوابُ هو: إنَّ الله يُخاطبُ الإنسانَ بأشكالٍ شتّى وأساليبَ مختلفة وباللغةِ التي يفهمُها، فَنرى المسيحَ الربَّ كان يُعلِّمُ الجماهيرَ بالأمثال لأنها أقربُ الى الفهم، وخاطبَ الملك قسطنطين وهو في طريقِه لمحاربةِ خصمِه، فأراهُ علامةَ الصليب وقال له: بهذه العلامةِ تنتصِرُ، فَعرفَ المسيحَ وآمنَ به. وتحدَّثَ الربُّ مع الشعبِ اليهودي بالنبواتِ عن طريق الأنبياءِ، ومع اليونانيين بلغةِ الفلسفة، ولهذا كلَّمَ اللهُ المجوسَ علماءَ الفلك عن طريق النجم لأنهم يفهمونَ لغةَ النجوم.

 

< فلما بَلغَ الخبرُ الملكَ هيرودسَ اضطربَ واضطربتْ معه اورشليمُ كُلّها > ذكرنا آنفاً أنَّ هيرودسَ كان أَدومياً وتهوَّد مُعرباً عن احترامِه للديانة اليهودية. فاضطرابُه كان في محلِّه حيث انتابَه الرعبُ من احتمال عودةِ مملكتِه الى يهوديٍّ فيفقدُها، كيف لا وقد عَلِمَ بأنَّ الطفلَ المولودَ هو ملكُ اليهود! < فجَمَعَ عظماءَ الكهنة وكتبةَ الشعب كُلَّهم واستخبرَهم أين يولدُ المسيح. فقالوا له في بيت لحم اليهودية، فقد أُوحيَ للنبي  فكتب: “وأنتِ يا بيتَ لحمَ، أرضَ يهوذا لستِ أصغرَ ولايات يهوذا فمِنكِ يخرُجُ الوالي الذي يرعى شعبيَ إسرائيل.

 

< فدعا هيرودس المجوسَ سِرّاً وتحقَّقَ منهم في أيِّ وقتٍ ظهر النجم، ثمَّ أرسلهم الى بيت لحم وقال: إذهبوا فابحثوا عن الطفل بحثاً دقيقاً، فإذا وجدتموه فأخبروني لأذهبَ أنا ايضاً وأسجد له > فلما سمعوا كلام الملك ذهبوا، وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدمهم حتى بلغ المكان الذي فيه الطفل فوقف فوقه. بشكلٍ تمثيليٍّ تظاهرَ هيرودسُ مُخفياً اضطرابَه أمامَ المجوس وهذا هو دَيدَنُ كُلِّ فاعلي الشر، حيث يُخطِّطونَ سِرَّاً لينالوا من الآمنين. لكنَّ اللهَ العليم بما يُضمِرُ الأشرار مِن نِيّاتٍ سيِّئة كثيراً ما يُفشلها، وهذا ما فعله بهورودس، حيث أوحى الى المجوس ليعودوا الى ديارهم بطريقٍ لا يراهم فيه هيرودس، ففشلت نيتُه الخبيثة بقتل الطفل يسوع!.

 

فلما أبصرَ المجوسُ النجمَ فَرحوا فَرحاً عظيماً جداً. ودخلوا البيتَ فرأوا الطفلَ مع أُمِّه مريم، فجَثوا له ساجدين، ثمَّ فتحوا حقائبَهم فأهدَوا إليه ذهباً وبخوراً ومُرّاً. المجوسُ قبل أن يَفتحوا حقائبَهم فتحوا للطفل قلوبَهم وهم ساجدين. نفذوا أمرَ الشريعة بحضورهم أمامَ الربِّ غيرَ فارغين وهم أُمميين ! (تثنية16: 16).

 

أكَّدَ المجوسُ بهداياهم حقيقةَ الطفل يسوع، فَقدَّموا الذهبَ رمزاً لملوكيتِه رَغمَ واقع البساطةِ التي كان فيها. واللبانَ رمزاً لكهنوتِه ويُصنعُ منه البخور ويُقدَّم للإله فقط. والمُرَّ رمزاً للآلام التي سيتألَّمُها لأنَّه نبيُّ . إنَّ رُتَبْ المسيح الثلاث < الملك والكاهن والنبي > أعلنها له المجوسُ يوم ميلادِه. فما أحرانا نحن أن نقدِّم للمسيح الرب : صلواتِنا: تسابيحَنا: شكرَنا وسط آلامِنا: فيُمثِّل الذهبُ  < حياتَنا السماوية > اللبانُ < صلاتَنا > المُرُّ < احتمالَنا الألمَ بشكرٍ >.

 

الشماس د. كوركيس مردو

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *