مقاربة بين سقوط سلالة اور الثالثة وسطوع نجم داعش

 

اعترف للقارئ الكريم انه عنوان يبعث على الأستغراب ، ماذا يربط سقوط سلالة اور الثالثة بظهور وتقدم تنظيم الدولة الإسلامية ؟ داعش ، ولهذا سوف اسرع لاستيضاح العوامل التي تربط هذه بتلك . فكما هو معروف لذوي الخبرة في المجال العسكري ان الجيوش تزحف على بطونها أي ان الطعام هو العامل الأول في استمرارية الجيش ، والعوامل الأخرى مثل الأسلحة والذخيرة والتجهيزات اللوجستية ، تتوقف على توفير المال فمن يملك المال مرشح لربح الحرب ،والأموال هي الضرورة القصوى لاستمراية الحرب .

في مطاوي التسعينات من القرن الماضي اخبرني المرحوم الأب الدكتور يوسف حبي بنية صدور عدد خاص من مجلة بين النهرين حول هجرة ابونا ابراهيم من اور الكلدانيين ولمناسبة مرور الألفية الرابعة على هذه الهجرة والتي كانت باتجاه مدينة حران وبلاد الكنعانيين ومصر  .وطلب المرحوم ان يكون لي مقالة بهذا العدد وهو المرقم  103 و 104 سنة 1998 م .

لقد كان في العدد مقالات كثيرة لكن معظمها او جميعها ، كانت معتمدة على التوراة سفر التكوين ، وربما كنت الوحيد الذي تطرقت الى اسباب خارج سياق الإطار الديني ، حيث وضعت المسألة في الإطار الأقتصادي والسياسي ، فعظمة بلاد ما بين النهرين تكمن في الحياة التي يوزعها نهري دجلة والفرات وهما في طريقهما بين جبال وبراري وصحاري العراق محولاً الأراضي التي يمران فيها الى جنة ، لكن الذي حصل  عبر التاريخ ان محصول الحنطة الذي كان من  المحاصيل الرئيسية الضرورية لإطعام  الشعب والجيش أخذ يتناقص بعد تشبعت الأراضي المسقية بالأملاح ولم يتوصل الأنسان وقتذاك الى اختراع غسل التربة عن طريق البزل ، فلم يعد بمقدور محصول الحنطة النمو بتلك التربة ، فأصبح التركيز على محصول الشعير الذي يقاوم الملوحة اكثر من حبة الحنطة ولكن  بعد سنين وعقود من الزمن بدأ محصول الشعير يتناقص ايضاً بسبب الملوحة الزائدة في التربة .

 كان نقص الغذاء ، ولم يعد بالمستطاع توفير الغذاء للمقاتلين فسقطت سلالة اور الثالثة (2112 – 2006 ق.م) وبسبب الوضع الأقتصادي المتردي الناجم عن هبوط مستوى محصول الحبوب ، كان انكسار جيوش الدولة وكانت هجرة شرائح كثيرة من المجتمع ، وكانت هجرة ابونا ابراهيم بنفس الفترة ، وإن هجرة الآشوريين من سهل  شنعار هي لنفس الأسباب . وما يهمنا في هذا الأستطراد هو ان سلالة اور الثالثة بعد ان كانت امبراطورية واسعة وهنت وأفل نجمها بسبب عجزها من توفير الغذاء للجندي المحارب وبصورة  ادق فانها سقطت لأسباب اقتصادية ، فحين انقطاع شريان اقتصادها في محصول الحبوب كان سقوطها السياسي والعسكري . وفي مرثية لسقوط  اور الكلدانيين يقول الشاعر الكلداني القديم :

اور في داخلها موت وفي خارجها موت

في داخلها نموت نحن من الجوع

وفي خارجها نقتل نحن بأسلحة العيلاميين

لقد اخذ العدو اور ..

ورفع مزالج بواباتها ، وها هي ابوابها مشرعة الى اليوم

لقد داسها العيلاميون مثل سيل عرم

فتحطمت اور بفعل السلاح مثلما يتحطم اناء من فخار …

والآن نأتي الى الشق الثاني من الموضوع وهو سطوع نجم الدولة الإسلامية ( داعش ) في القرن الواحد والعشرين وتوسعها الصارخي على حساب العراق وسورية وتهديدها  لدول المنطقة مع تهديدات اخرى للدول الغربية التي تحالفت لمحاربة داعش ، وقد تحالفت اكثر من ستين دولة بضمنها دول عربية إسلامية لمحاربة الدولة الإسلامية داعش هذه الدولة التي يشكل العامل الأقتصادي الركن الرئيسي في قوتها وديمومتها .  

نعم هنالك عوامل اخرى لهذه القوة وهذا الزخم ومنها بعث الفكر الديني الأديولوجي حيث ان الشباب متأثر ثورياً بطروحات الدولة الناشئة كبعث للدولة الإسلامية وطروحاتها الدنيوية المثيرة بسبب الغنائم وسبي النساء والمغريات في الحياة الأخروية بجنة محتشدة بحور العيون .

لكن نبقى بالعامل الأقتصادي

يبدو من المعطيات ان داعش تسلك استراتيجية مختلفة عن غيرها من التنظيمات التي كانت تقوم بعمليات ارهابية ، فقد طرحت داعش نفسها بمفهوم (الدولة ) الإسلامية ، وبالتحديد للمكون السني من الإسلام ، فتقاطر الشباب المسلم ( السنة ) من اربع جهات المعمورة ، فكان ضمان تأمين القوى البشرية المهمة والضرورية لمثل هذه الطروحات الطموحة . واهتمت بمسالة التمويل الذي يعتبر الدعامة الأساسية في محور الأستمرارية والديمومة . ويمكن الإشارة الى نقاط رئيسية وهي :

ان البداية تتلخص في تكوين نواة قوة عسكرية قادرة للحركة السريعة في الأراضي السهلة وكانت شبكة سي أن أن الأخبارية الأمريكية قد كشفت مصادر تمويل داعش بأنها من السعودية والإمارات وقطر ، وإن تركيا تقدم تسهيلات في وصول المقاتلين عبر أراضيها الى سورية ، وقد يكون اشتراك السعودية والإمارات في التحالف الدولي ضد داعش محاولة لدحض تلك المزاعم ، لكن ذلك لا يبدل القناعة بضلوع هذه الدول في تقوية الإرهاب فالخطاب الديني المتزمت للسعودية ووجود آلاف المدارس الدينية والجمعيات الخيرية التي تساهم بقوة بدعم الإرهاب مالياً وبشرياً وهي منبع الإرهاب والتطرف الإسلامي في المنطقة والعالم .

من المحتمل ان تكون الحكومات المعنية غير مساهمة  رسمياً بالتمويل المباشر ، ولكن سكوتها لا يمنع إن حركة داعش تتلقى تمويل ودعم من قبل المنظمات والأثرياء بالكويت وقطر والسعودية وغيرها .

إن تنظيم داعش يحاول تحقيق مصادر للتمويل الذاتي دون الأعتماد على الدول ، لقد كشف المحللون ووكالات الأخبار ان الدولة الإسلامية ، داعش ، تعتبر من أغنى التنظيمات الجهادية على مستوى العالم، إذ يقدر حجم اقتصاده بما يقارب حجم اقتصاد بعض الدول الصغيرة، واستطاع مراقبون أن يقدّروا ثروة داعش بحوالي  2.1 مليار دولار.

ـ إن التوسع السريع في الأراضي العراقية والسورية اتاح لداعش السيطرة على آبار لأستخراج النفط وعمدوا على تكريره بوسائل بدائية ليكون جاهزاً للبيع بأسعار مخفضة في السوق السوداء وقد انتبهت دول التحالف على هذا الجانب المهم للتمويل فبادرت الطائرات الأمريكية لقصف تلك المصافي والآبار وشلت امكانيات داعش في الأستفادة من هذا المورد المهم .

ـ الخطف والأبتزاز ، إذ يجري خطف الأفراد من من العوائل الغنية او افراد اجانب إن كانوا يعملون في منظمات إنسانية او مراسلي صحف او وكالات فكما هو معلوم فقد اختطف عشرات المواطنين الأتراك والهنود بحدود المناطق الواقعة بشمال غرب بغداد وطالبوا الحكومة والسفارات بدفع فدية لإطلاق سراحهم.، إن مهنة الخطف واحدة من الأساليب الخسيسة لأبتزاز الأموال من العوائل والمنظمات والدول .

وكما هو معروف فإن جماعة القاعدة او حضائن داعش في الموصل وقبل فتحها من قوات الدولة الإسلامية في العراق والشام ، داعش ، كانت تفرض ضرائب شهرية على التجار والشركات والمقاولين ، وبعد استيلاء داعش على الموصل فرضت المزيد من تلك الضرائب ، ليس على الموصل فحسب بل على كافة المدن التي تستولي عليها ، فهذه المبالغ تقدر بملايين الدولارات تتدفق شهرياً على ميزانية الدولة الإسلامية .

ومن اساليب الحصول على الأموال لدولة داعش الإسلامية تجارة المخدرات والسرقة وبيع الآثار المسروقة من المتاحف ، ومن والإستيلاء على ممتلكات وأموال المختلفين دينياً كالأيزيدية والمسيحيون واعتبارها من الغنائم ، هذا إضافة الأموال العامة التابعة للدولة فمثلاً يوم دخول داعش الى الموصل وضعوا ايديهم  على الأموال في البنك المركزي في المدينة وكانت السبائك الذهبية تقدر 430 مليون دولار كما تناقلته وكالات الأنباء في وقتها .

هكذا تمتلك خلافة الدولة الإسلامية مؤهلات وإمكانيات كبيرة تفوق إمكانيات بعض الدول ، ولهم تنظيم جيد وأسلحة وأعتدة ، وأموال كثيرة ، وهكذا رغم الضربات الجوية فلا زال مقاتليها يتوسعون ويهددون غير آبهين بالتحالف الدولي ضدها ، واليوم يهددون مدينة بغداد ، ويتوسعون في الحدود الشمالية في سورية يرومون الأستيلاء على مدينة كوباني الكوردية المهمة طارقين ابواب الحدود للدولة التركية .

ويبقى خطر سرطان الدولة الإسلامية ،داعش ، قائماً ما لم تتضافر الجهود العراقية والأقليمية والدولية في التصدي لهذه العلة الخطيرة  .

د. حبيب تومي / القوش في 16 / 10 / 2014

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

http://edition.cnn.com/2014/06/22/world/meast/mme-isis-money/index.html?hpt=hp_c4#index

 

 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *