معاناة المهاجرين من الاختلاف في النظام الاجتماعي

الدكتور عبدالله مرقس رابي
بروفيسور في علم الاجتماع
                               يزداد سنة بعد اخرى عدد المهاجرين القادمين من البلدان النامية ذات الانظمة الاجتماعية المحافظة نسبيا في البلدان الغربية الصناعية. وقد تتباين الخصائص الشخصية والاجتماعية والثقافية لهؤلاء القادمين ،الامر الذي يؤدي الى الاختلاف في مسألة الاستقرار والتكامل مع المجتمع الجديد لوجود فرق شاسع في البناء القيمي والانظمة الاجتماعية واللوائح القانونية التي تنظم الحياة الاجتماعية والعلائقية بين افراد المجتمع.
    فهناك تباين في منظومة الاعراف والقيم والتقاليد الاجتماعية والسلوكيات اليومية التي تحددها تلك القيم التي تربى عليها الانسان .مما يخلق هذا التباين نوع من الازمات الاجتماعية وقد تتحول بعضها الى مشكلات اجتماعية عويصة يلجأ المهاجرون الى المحاكم لحلها .
   تشير الدراسات الاجتماعية في علم الاجتماع الى ان التنشئة الاجتماعية التي يتلقاها الفرد عن طريق الاسرة منذ لحظة الميلاد تنقل اليه النظم القيمية التي تحدد علاقاته مع غيره من الافراد ،وتصقل مواقفه واتجاهاته نحو الظواهر الاجتماعية .على سبيل المثال موقفه من حرية المرأة وموقفه من الظواهر الدينية والسياسية وعلاقات القرابة و الجيرة وتربية الابناء والازياء والمودة التي غالبا ما تكون من اهتمامات المرأة والابناء المراهقين في الاسرة .
    ويشمل تأثير عملية التنشئة الاجتماعية ايضا في تحديد السلوكيات اليومية للفرد،فهي التي تحدد سلوكيات استعمال المائدة ،وطبيعة المحادثة والمناقشة في امر ما ، فهي تحدد اداب الكلام بين افراد الاسرة الواحدة،والتعامل بين الصغير والكبير ،ولما كانت التنشئة الاجتماعية هي المسؤولة عن نقل اللغة الى الافراد فهي التي تحدد نبرة الكلام ونغمته .فمثلا نلاحظ ان التنشئة الاجتماعية في المجتمعات الشرقية تعود الفرد الكلام بنبرة صوتية عالية اثناء الحديث وهي طبيعية جدا في الحديث اليومي  ،بينما تلك النبرة التي اذا حصلت في المجتمعات الغربية بين الافراد  تؤول كأنما تهديد او شكوى وتذمر.
      لايقتصر الدور في المجتمعات النامية على الاسرة في تحديد التقاليد وسلوكيات الفرد بينما يتعدى هذا الدور الى النظام القرابي بدرجاته المختلفة ،بدأ بالمقربين جدا من اباء وامهات الزوجين والخوال والاعمام ،وثم العشيرة ،مثل تقديم المشورة في مسألة معينة ،ومساعدة الفرد في حل مشاكله الاجتماعية كالتي تظهر بين الزوجين او بين الاباء والابناء، والمساعدات المالية بدون مقابل .وقد تشمل تدخلات الاقرباء ايضا في مسألة اختيارشريك أو شريكة الحياة وخصوصا في المناطق الريفية .ولاغرابة ان الاقرباء يتدخلون في كل تفاصيل الفرد الحياتية في المجتمعات النامية.
      ويأتي نظام الجيرة والمجتمع المحلي بعد الاقرباء الاطار الذي يرتبط به الفرد ارتباطا وثيقا ،وقد تظهر حالات تبادل المشورات في حل المشاكل الاجتماعية والمساعدات المالية ،وتبادل الزيارات بدون موعد سابق محدد ،وقد يلم الجيران احيانا باسرار جيرانه بشكل طبيعي ودون اثارة اية مشكلة .وفي المجتمعات النامية يضطلع رجل الدين دورامهما في معالجة الازمات التي يعاني منها الفرد ,وقد يلجأ الزوجان مثلا اليه لحل الخلافات بينهما ،او يطلب منه تقديم النصائح للابناء الذين يشتكون منهم الاباء .
  ينقل المهاجر معه من البلدان النامية ما انطبع في عقليته واصبحت جزأ من شخصيته الى المجتمع الغربي المهاجر اليه ،فهو يعجز عن التخلص منها ويحتاج الى سنوات عديدة لكي يضعها وراءه ،وهذه المسألة بالطبع تتباين بحسب الخصائص الشخصية للافراد وفقا لمنظومة الفروق الفردية .وقد يأتي المهاجر الى البلدان الغربية دون معرفة سابقة بالعناصر الحضارية والنظم القانونية لهذه المجتمعات .وقد يصر البعض على التمسك بما حمله من مجتمعه الاصلي وحتى ان كانت على النقيض بما هو موجود في المجتمع الجديد،وعليه يحاول التصرف في ضوء قوانين وقيم وتقاليد بلده تلك التي لاتنسجم مع واقع الحياة الاجتماعية ووسائل الضبط الاجتماعي في المجتمع الجديد .
      فالمجتمع الغربي الصناعي يتميز في صقل شخصية الفرد بمفردات اجتماعية ذات مضمون مادي وفردي،فهناك لوائح التي تمنح حرية الفرد في ابداء رايه ،والتعبير عن مشاعره ،وكذلك اللوائح التي تمنح الحرية للمرأة وتحدد طبيعة العلاقة بين الزوجين من جهة وبقية افراد الاسرة من جهة اخرى ، مما تجعل من الفرد ان يعتمد على نفسه في العيش ومواجهة الحياة الاجتماعية ويبتعد فيها عن الوالدين والاقرباء وغيرهم ،وان حدثت الازمات بين الزوجين فيعتمد كل منهما على نفسه ويلجأ الى الطرق الرسمية لحلها بعيدا عن الاهل والاصدقاء .
      يخلق الاختلاف فيما يحمله الفرد من مجتمعه وما هو قائم في المجتمع الجديد من قيم وقوانين ازمات نفسية وصراعات شخصية تنتهي بمشكلات اجتماعية وقد تصل الى المحاكم الرسمية.انما قد تكون تلك المشاكل ساذجة لاتستوجب عرضها الى المحاكم لو تأمل الطرفان المتخاصمان بطبيعة العلاقة بينهما.ويؤثر هذا التباين القيمي في التنشئة الاجتماعية للابناء بطبيعة الحال.وكثيرا ما نرى وقوع مثل هذه الازمات بين الزوجين أو بين الاباء والابناء وذلك لاختلاف القواعد واللوائح القانونية التي تحدد العلاقة بينهما في المجتمع الجديد عن مجتمع القديم للمهاجر .   

You may also like...