مرثية ذاتية لها بقية…خاطرة قصصية رقم (6) بعنوان:البروفيسور الذي فقد عقله

 غمرت الفرحة عائلة البروفيسور بحصول إبنته داليا على شهادة الثانوية العامة. وكانت الفرحة أكبر عندما قبلت في قسم اللغة الإنكليزية/ كلية التربية بجامعة الموصل عام 1998. كان هذا التخصص حلمها…ربما لأن والدها يعمل أستاذا في ذات المجال. قدمت داليا أوراقها الثبوتية، ومن ضمنها شهادة الجنسية العراقية، إلى شعبة التسجيل في الكلية.

وبعد شهرين من دوامها المنتظم…

أبلغت بوجوب جلب ما يثبت عراقيتها!!!

إنزعجت العائلة من سماع هذا الخبر، وانزعج الوالد أكثر، وذلك بسبب معاملة المواطن في بعض الدوائر الرسمية بشكل يتقاطع واللياقة واللباقة والتأدب والإحترام، ناهيك عن أن عليه قطع مسافة 800 كم ذهابا إلى بغداد وإيابا إلى الموصل.

– لاحول ولاقوة إلا بالله… هذا ما تلفظ به عندما استقل سيارته عند الفجر في طريقه إلى عاصمة الرشيد!

كان الدوام قد بدأ عندما اقترب من مديرية الجنسية في حي الكرادة. ركن سيارته في أحد الأزقة المتاخمة للمديرية… هرع إلى المبنى وبيده طلب تحقيق الجنسية وهوية الأحوال المدنية وشهادة الجنسية العراقية. قدمها للضابط المسؤول بعد أن عرّفه بنفسه… بدأ الضابط يبحث في السجلات القديمة، التي يرجع تاريخها إلى العهد العثماني. استمر البحث مدة ساعة أو أكثر. خرج الضابط مبتسما… أفاد، وهو يذيـّل  الطلب، بما يلي:

جنسية الأب السابقة: عثمانية

جنسية الأب الحالية: عراقية

إذن داليا…عراقية.

– لم يبق سوى أن نتأكد من جنسية الأم، يا دكتور…تفضل بالجلوس ريثما أنتهي.

قالها الضابط بكل كياسة، ولم يكن يعلم البروفيسورالسر وراء هذا الإنعطاف التاريخي في التعامل الإيجابي مع المواطنين.

بدأ الضابط جولته الثانية في البحث بين السجلات ذات الصلة… خرج بعد نصف ساعة وعلامات الإكتئاب على وجهه:

– آسفين، يا دكتور… لم أجد لعائلة الأم أثرا… لقد أحرق الغوغائيون المبنى والسجلات.

– ما العمل إذن، وأنا قادم من الموصل، وطلبتي بانتظاري؟

– أنا مقدّر ذلك، يا دكتور. ما عليك سوى مراجعة المديرية العامة للأحوال المدنية في حي السنك بشارع الرشيد.

خرج البروفيسور من الدائرة وهو يلعن حظه العاثر…

إستقل سيارته واتجه نحو المديرية الكائنة في الحي الذي كان يقطنه عندما كان لايزال في العاشرة من عمره…

قدم أوراقه إلى الموظف المسؤول، الذي بدأ البحث في سجلات القرن التاسع عشر. وبعد ساعة من التنقيب…

لم يجد شيئا…

إعتذر الموظف من البروفيسور وطلب منه أن يرجع من حيث أتى، ويطلب من مديرية الجنسية البحث في الشرائح (السلايدات).

خرج وهو يلعن حظه ثانية وثالثة…

إتجه بسيارته صوب الجنسية…

ركن سيارته في مكان ما…

تسلق سلالم المبنى وهو يترنح…

ووجها لوجه مع الضابط أمام مكتبه، قال البروفيسور:

– لم يعثروا على شىء. أرجو البحث في السلايدات.

– “هاذي عليها غدا إلي ولجماعتي”، قالها الضابط وكأنه يمزح.

– “مو تدلــّل…بس بسرعة خلـّصني اياها”…

– “من عيوني! إرتاح”.

وانكشف السر!!!

بدأ البحث المقيت، الذي استمر ساعة كاملة… خرج الضابط بعدها ليقول للبروفيسور:

– وجدتها، يا دكتور… لقد وجدتها، والحمد لله.

أكمل الضابط الشهم مهمته في تذييل الطلب، وأفاد بما يلي:

الجنسية القديمة لوالد الأم: إيرانية

الجنسية القديمة لوالدة الأم: عراقية

الجنسية الحالية لوالدة الأم: عراقية

الجنسية الحالية لوالد الأم: عراقية/ بالزواج

إذن داليا… ايرانية!!!

صُعق البروفيسور بما رأى من استنتاج على الطلب. قال للضابط:

– وما معنى هذا؟  هل داليا عراقية، أم إيرانية؟

– على الأرجح “عراقية”، لأن الأولاد يتبعون جنسية والدهم. خذ الأوراق إلى شعبة الطابعة، ومن ثم إلى المدير لتوقيع الكتاب.

وبعد ساعة أخرى من الإنتظار… تم إجراء اللازم!

رجع البروفيسور إلى الضابط وشكره على تعاونه. مدّ يده إلى جيبه وأخرج منه خمسة الآف دينار عراقي…

– تقبل مني هذا المبلغ البسيط واشتري غداء لك ولرفاقك.

– شكرا، يا دكتور، وسلامي لأهل الموصل.

وهو ينزل من السلالم، وبيده الظرف المختوم، بدأ البروفيسور يتمتم وقد اختلط عليه الأمر:

– عراقية/إيرانية!!! عراقية/إيرانية!!!

وعلى بعد عشرات الأمتار من مبنى الجنسية، سمع نفر من الشباب وهم يتذمرون من التناقض في تعريف المواطنة. سمع البروفيسور أحدهم يقول، وبصوت عال:

– “للحرب مع إيران يأخذونا جنودا، والآن يتنكرّون لعراقيتنا! أرسلونا إلى إيران، إذن!”

إزداد قلق البروفيسور لدى سماعه هذه الشكوى المنطقية… ربما انسحب الأمر على إبنته… من يدري؟!!!

عبر الشارع للبحث عن سيارته… لم يجدها! إلتفت يمنة ويسرة… لم يجدها! سار في كل الأزقة المجاورة… لم يجدها!

ازداد قلقه، وبدأ يتسائل:

– يا إلهي! ترى هل سـُرقت، أم فقدت عقلي، ولم أعد أتذكر أين ركنتها؟

كست الغشاوة عينيه، ولم يعد يميز حتى بين ألوان السيارات… إتجه إلى أقرب بقال كي يتصل بالشرطة ليبلغ عن اختفائها.

تردد…إتكأ على حائط وأغمض عينيه… بدأ يتنفس بعمق وهو يقول:

– ما هذا الذي يحصل لي، يا إلهي؟

وبدأ البحث بين السيارات المرصوفة على جانبي الشارع العام وفي الشوارع الفرعية… كل السيارات التي اكتضت بها شوارع بغداد متشابهة… أغلبها برازيلي/باسات. وأثناء بحثه المضني، وقع بصره على سيارة بيضاء… خيّـل له أنها هي… تقدم منها.

ولكنها لم تكن هي، بل شبيهتها تماما، مع فارق ضئيل في أرقام لوحة التسجيل.

لعن حظه العاثر مرة أخرى، ولعن اليوم الذي رجع فيه إلى وطنه بعد حصوله على الدكتوراه. ولكن لاحول ولا قوة إلا بالله!

إستمر في بحثه… ومن بعيد، تيقن بعض الشىء أن السيارة المركونة في مثلث، أشبه ما يكون بمثلث برمودا تحيط به قاطرتان عملاقتان، هي سيارته. سار صوبها، متـّكلا على الله. إقترب منها… لفّ حولها… إنطلقت منه ضحكة هستيرية… بدأ يركلها

على مؤخرتها بقدمه اليمنى ويؤنبها:

– أين كنت أيتها الفاجرة؟ لقد أعياني التعب في البحث عنك…

كانت الساعة قد جاوزت الرابعة عصرا، وهو لم يكن قد تناول فطوره أصلا…

إستقل سيارته وقفل راجعا إلى الموصل…

معدته فارغة…ولكن رئتيه أشبعها النيكوتين من حشاشته في التدخين طوال رحلة الأربعمائة كيلو متر… أنهكه التعب من شدة التفكير بما سينطلي عليه الكتاب الذي يحمله…

وصل مدينة الموصل الساعة التاسعة ليلا، سالما معافى بحمد من الله…

خرج من كان في المنزل إثر سماعهم الرنين المعهود لبوق السيارة… أمطره أولاده بالقبل، وحمدوا الله على سلامته.

دخل الدار… طلب قدحا من الشاي وقليلا من الماء البارد، وإن كان شتاء. جلس على الأرض بجانب المدفأة… إلتفوا حوله بعدما هدأت أنفاسه… وبدأ يروي لهم قصته…

وفي صباح اليوم التالي، أخذت داليا الكتاب إلى شعبة التسجيل في كليتها…

فتح المسجل المظروف… بدأ يقرأ الكتاب… نظر اليها، وكأنه يريد أن يقول لها شيئا لا يسرّ الألباب… عاود القراءة… رفع رأسه… وبكل برود، قال لها:

– إنك إيرانية!!!

فأجابته على الفور:

– ما هذا الذي تقوله؟ إنني عراقية، وهذه شهادتي… إنها تقول بأنني عراقية… أبي بروفيسورعراقي في هذه الجامعة لربع قرن. وأمي عراقية، خريجة هذه الجامعة.

أجابها بالقول:

– ولكن جدك من أمك من أصول إيرانية. هذه تعليمات… وعليك الآن إيجاد مقعد في كلية قبلت طلابا بمعدلات أدنى من معدلك… لاأستطيع فعل أي شىء لك، لكن يمكن لوالدك أن يقابل رئيس الجامعة.

هرعت داليا إلى مكتب والدها في كلية الآداب والدموع تنهمر من عينيها…

– ما بك يا داليا؟

– يقولون عني بأني إيرانية، ولم يبق لي خيار آخر سوى الإنتقال إلى كلية الأدارة والإقتصاد.

– لاعليك… إهدأي… سأقابل رئيس الجامعة على الفور.

أخذ البروفيسور طريقه إلى مكتب رئيس الجامعة وقد جن جنونه… لقد حدث ما كان يتوقعه!

وفي المكتب… طلب البروفيسور مقابلة الرئيس.

– تفضل، يا أستاذ. سأبلغه حالا.

وبعد ربع ساعة من شد الأحزمة على البطون، أذن له بالدخول.

بودلت التحايا، ورويت القصة…

– طيب، يا دكتور. أكتب لي القصة بتفاصيلها، وبضمنها خدمتك وعطائك لهذه الجامعة، وسأسلمها شخصيا للسيد الوزير،

 مع توصيتي الأيجابية طبعا، فلا تقلق، وإن شاء الله كل الخير.

 

وبعد شهر…جاء جواب الوزارة، ومفاده:

“إستثناء من شروط القبول، وحسب الصلاحيات، تنقل الطالبة داليا………………… من كلية التربية إلى كلية الأداب/ قسم اللغة الإنكليزية”.

 

أبلغ البروفيسور، الذي فقد عقله لأكثر من شهر، بمضمون الكتاب، وتم إجراء اللازم .

وإلى مرثية ذاتية أخرى، بعونه تعالى.

الأردن/ في الثالث من كانون الثاني، سنة 2007

 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *