مرثية ذاتية لها بقية…خاطرة قصصية رقم (2)

بعنوان:

                  على خطى غادة السمّان، ولكن… بتصرف!

بقلم: أ. د. دنحا طوبيا كوركيس

 

 

“وأنا في الوطن كنت أبكي شوقا للرحيل ]من منفى رقم واحد[ إلى المنفى…”

وأنا في الوطن كنت أتحرّق   شوقا للتغيير أو “للرحيل إلى المنفى…”

حدث ]التغيير[ … وسبحان مغيّر الأحوال!

هدأت الريح “الصفراء” شرقا، وتلتها النفطية “السوداء” جنوبا فأخمدت. ثم هبّت أخرى رمادية رملية فقمعت في عقر دارها. توجهت شمالا فكانت وبالا. إمتزجت بريح باردة سبّبها منخفض جوي قادم من البحر المتوسط. إبتهج أهل الشمال بخير المطر القادم، لكن السماء الملبدة بالغيوم السوداء زمجرت فأعلنت الحداد لمدة سنتين وكان الجفاف بديلا! وما كان بيد دجلة والفرات حيلة سوى “الصمود” و”النصر” أو “الإستشهاد”!!!

في وقتها سألني (رفاق): كيف ترى العراق؟

وبلا تردد، جاءت إجابتي (بالأنكليزية): من سيء إلى أسوأ.

كان ذلك مطلع عام 1991. وبحلول الربع الأخير من عام 1999، كنت قد أنفقت ما ادّخرت خلال ربع قرن من العمل المضني، لأن راتبي آنذاك لم يتجاوز الأربع دولارات شهريا!

“كنت أبكي شوقا للرحيل” إلى منفى أفضل..

جاء يوم الرحيل (وبقدرة قادر، كما يقول العراقيون)…

رحلت إلى (وطن) من أوطان الأمام علي (رض)، فضربت في بلاد يعرب مضربا..

وجدت وعائلتي فيه مأوى وقتيا بتوجيه من رب العمل وعلى حسابه ( في فندق ترتاده شلة من العاهرات العربيات كانت تقهقهن فوق رؤوسنا وتتخاصمن على الزبائن كل ليلة!!!!).

وجدت فيه المأكل والملبس (والرواتب المؤجلة حتى انقضاء السنة الدراسية!!!).

وجدت في واحدة من أفضل مكتباته، عام 2000، أحدث كتاب يقول لي:

“معليش، أنا مطبوع عام 1985، لكنني بحاجة إلى (غسيل وكوي) لو سمحت!”

ترفقت به، فأزلت الغبار عنه..

عندما استعرته وبدأت أتصفحه من حين لآخر، كان يبتسم ساخرا ويقول لي: ” سبّابات رجال الشرق تداعبني وتناغيني، وأنامل نساء الغرب عاجزة عن أن تغريني “.

ربما كان الكتاب أفصح مني! ومع ذلك، فقد أغاظني لهذا التمايز!

أطبقت على فكيه فأخرسته، ثم أقفلت به راجعا إلى حيث ما كان قابعا ليكسوه الغبار من جديد!!!

لم أكن مدركا حينئذ أن أسلافه في هذا (الوطن) قد تم حرقهم على طريقة (جان دارك)، وأنه كان محظوظا إذ بقي على قيد الحياة!

رجعت إلى نفسي بعدما كان لهذا الكتاب فضل على صحوتي من غيبوبتي، فوجدت نفسي “مغتربا” في (وطن) أشعرني بالحنين إلى منفاي الأول!

ما أنا الذي أطلقت هذه التسمية على نفسي، إنما هكذا شاءت السلوى والبلوى، بينما بقي المصران الأعور يتلوى!

لا أخفيك سرا أيتها الياسمين الدمشقي…فقد وجدت ما لم تجدينه في باريس!

ختم الضابط المغلوب على أمره جواز سفري في دائرة الإقامة. أتعلمين كم كانت فرحتي في وقتها؟ أتعلمين لماذا؟ كانت لا توصف…

 ببساطة: الختم = صرف الرواتب المؤجلة جملة وتفصيلا، بعد اقتطاع 33% منها للضرائب!

 ومع ذلك، فأنهم يشعرونك بأنهم يسدون لك جميلا، وكأنه (مكرمة!) من مكارم المنفى رقم واحد.

لم تدم فرحتي طويلا، يا سيدتي…

كنت ساعتها فضوليا…

وقعت عيناي على ملاحظة في أسفل الختم تقول:

“على أن تجدد الإقامة قبل شهر من نفاذها”

ترددت قليلا عند باب مكتب الضابط وقلت في نفسي: “يا ابن الشرق، القانون قانون، وعليك التقيد به أينما حللت، وخاصة أن الوطن الذي تستنشق هواءه هو وطن بين قوسين!

رجعت إلى الضابط الذي كان منهمكا في ختم جوازات (الغلبة) من أمثالي تقبيلا!

عفوا، أستاذ..

رفع رأسه..

هل لك أن تجدد إقامتي حسبما ورد هنا في التعليمات؟

إليك عني (ملوّحا بظهر كفه)..

تسمّرت في مكاني، ولم أجد في تلك اللحظة مخرجا سوى الباب سبيلا!

 

والى الملتقى في مرثية ثالثة ورابعة…………..!

 

الأردن في 10/1/2006

 

gorgis_3@yahoo.co.uk

dtgorgis@gmail.com

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *