محافظة سهل نينوى لمصلحة من؟



يتناول الاعلام في هذه الايام بمختلف وسائله قضية استحداث محافظة (سهل نينوى)، بعد ان بدأ ممثلي شعبنا الكلداني والاشوري والسرياني ( المنتخبين بطرق ديمقراطية شاذة وفقا للممارسات الديمقراطية المدججة بالعنف والتخويف والوعيد للناخبين، كما هو الحال في بلدان العالم الثالث).جولاتهم ومقابلاتهم لعرض القضية على قادة الكتل السياسية في العراق، وثم قيام وفد منهم بمحاولات لكسب الرأي العام لشعبنا في المهجر. ولاهمية الموضوع احاول ان اتناول الموضوع وفقا لرؤية سوسيولوجية بعيدة عن التأثيرات الايديولوجية السياسية التي توقع الكاتب في مازق من التحيز والابتعاد عن الموضوعية.

تناول الموضوع عدد من الكتاب من بينهم الرافضين والمؤيدين لاستحداث هذه المحافظة ،تأثرا منهم بفلسفة احزابهم أو تعبيرا عن آراءهم الشخصية. وقد شخصت مقال الاستاذ (حبيب تومي) الموسوم-المحافظة المسيحية المفترضة تحترق في اتون المصالح المتناقضة – انه يحتوي على طرح موضوعي وقريب جدا من التحليل الاكاديمي من غيره- بينما طرحت بعض الاراء وهي بعيدة عن التحليلات المنهجية وذلك يرجع الى تطفل بعض الكتاب في اختصاصات علمية غير اختصاصاتهم – كما اكد على ذلك الاستاذ ليون برخو من قبل في احدى مقالات – فعلى سبيل المثال حاول احدهم مقارنة التقسيم الاداري لبعض البلدان مثل الجزائر وسورية وغيرها دون المعرفة باساليب واسس التقسيمات الحضرية والريفية والتدرج في الوحدات الادارية لكل بلد. ان مثل هذا الموضوع يحتاج الى المختصين في التخطيط الحضري والاقليمي والاقتصاد والسكان والاجتماع والجغرافية لرفع توصية الى الجهات السياسية التنفيذية.

ان موضوع استحداث محافظة سهل نينوى ليس وليد الساعة فهو امتداد لمطلب المجلس الشعبي الكلداني السرياني الاشوري الذي يتزعمه سركيس اغا جان بتأييد منقطع النظير من حكومة اقليم كوردستان، ذلك المطلب الذي دعى اليه المجلس المذكور هو الحكم الذاتي لشعبنا في مناطق تواجده. وبعد ان ثبت عدم تحقيق ذلك اتخذت الفكرة منحا اخرا وهو استحداث محافظة مسيحية بعد ان اطلق هذه التسمية جلال الطالباني رئيس الجمهورية العراقية وبالطبع بدون تفكير وتخطيط مسبق على اثر حادثة كنيسة سيدة النجاة في 21 تشرين الاول عام 2010 في بغداد. وبعد ان اكتشف المعنيون بالموضوع ان تسمية المحافظة المسيحية محاولة خاطئة لان المنطقة التي تشملها يتواجد فيها اقوام اخرى من غير المسيحين وهم المسلمون واليزيديون مما اضطروا الى تسميتها بمحافظة سهل نينوى.

ان مسألة استحداث محافظة او سلطة اقليمية ممكنة في كل زمان ومكان اذا استدعت الظروف الموضوعية والموجبة لذلك. فاذا تطلب استقطاع جزء من اراضي محافظة ما لزيادة عدد السكان وعدم تمكن الحكومة المحلية من تغطية الخدمات الاقتصادية والامنية والاجتماعية والتعليمية والبنى التحتية لعموم المحافظة يستوجب ذلك اقتضاءا للمصلحة العامة. ولكن ماذا عن استحداث محافظة سهل نينوى ولمصلحة من؟ هل سيحقق الشعب الكلداني والسرياني والاشوري مصلحته؟ ام ستحقق مصالح اطراف اخرى؟ للاجابة عن هذه الاسئلة ساتناول الموضوع منطلقا من المحكات الاتية:

اولا: الوضع الامني “استدعت الحالة الامنية السيئة في العراق الى التأكيد لانشاء منطقة آمنة للمسيحيين لكي لاتطالهم يد الارهاب. وتبلورت هذه الفكرة بعد تعرض الكنائس الى التفجيرات، وقتل وتهجير بالتهديد للعوائل المسيحية ونشر الرعب والابتزاز بين المسيحين في انحاء مختلفة من العراق، مما اضطرت اعداد ضخمة من العوائل المسيحية الى ترك اماكنها السكنية واللجوء الى دول الجوار أو الى اقليم كوردستان حيث الامان النسبي الذي يتمتع به هذا الاقليم.
ليس الوضع الامني مبررا كافيا لاستحداث هذه المحافظة، وذلك لان جميع مكونات الشعب العراقي تتعرض الى قسوة الارهاب اليومي، مما تستدعي الحالة الى سلطة قوية لضبط الامن لكي يشمل الجميع، والتصميم لحماية المواطنين بدلا من الانشغال في توزيع الكراسي والصراع من أجل المال كأنما الحكومة في وادي والشعب في وادي آخر يحترق بلهيب الارهاب. وليست نتيجة الاستطلاع الذي اجرته مؤخرا مؤسسة (ريبوتايشن الامريكية) في اعتبار العراق مع شريكته ايران اسوأ بلد في العالم الا دليل على الانحطاط الفعلي للحكومة العراقية.

ثانيا: الدعم الكردي للمشروع “تبنى هذه الفكرة المجلس الكلداني السرياني الاشوري الذي ابتدعته الحكومة الكوردية وساندته بحيث استطاع الاستحواذ على المقاعد البرلمانية في الحكومة المركزية واقليم كوردستان- بالطبع كما ذكرنا بالطريقة الديمقراطية المرافقة بالتهديد والتخويف والتزييف لافراد شعبنا وهذه الممارسات معروفة في كافة البلدان النامية فكيف في الحالة االسياسية الشاذة في العراق؟

ولما كان هذا المجلس من ابتكار الكورد فاذا الفكرة لاستحداث المحافظة هي فكرة كوردية خالصة، بدليل الحماس والدعم الواضحين في تصريحات المسؤولين الكورد في كل المناسبات لهذا المشروع، ولعل الاجتماع الاخير لاحزاب منطقة اقليم كوردستان وترأسه الحزب الديمقراطي الكوردستاني في تلكيف مؤخرا اشارة واضحة للدعم الكوردي للمشروع، والا لماذا لم تبد المحاولة جهة اخرى غير كوردية لطرح الموضوع؟ ولماذا ياترى اخذت الحكومة الكوردية بزمام المبادرة؟ ان الجواب واضح جدا من متابعة الاوضاع السياسية والتغيرات في المنطقة وطروحات الحكومة الكوردية، ولعل يأتي عامل العبور الجغرافي سببا اساسيا، والمقصود به تمديد جغرافية الاقليم لضم الاراضي التي تطالب بها حكومة الاقليم من محافظة نينوى، ومما يدعم قولنا ان الكل على علم ان اساس الفكرة هي قيام منطقة حكم ذاتي للمسيحيين والحاقها باقليم كوردستان. وثانيا تحاول حكومة كوردستان استغلال هذه المواقف ذات المدلول الانساني في كسب الرأي العالمي انها حكومة مانحة لحقوق الانسان بكل مفرداتها للتهيئة في بناء مقومات الدولة الكوردية ومن اهمها لكي تنال مكانتها بين دول العالم الغربي هي مسألة ضمان حقوق الانسان.

فاذن اصبحت مسألة استحداث محافظة سهل نينوى ورقة عمل كوردية لكسب اللعبة السياسية. ولكن لو كانت الحكومة الكردية صادقة في محاولتها هذه لتبدأ اولا وضع حدا لتجاوزاتها ضد الكلدان تلك التي تمثل التجاوزات على القرى الكلدانية على امتداد الاقليم والتجاوز على المفاهيم القومية للشعب الكلداني، وثم لماذا لاتمتد المحافظة لتشمل قضاء زاخو والشريط الحدودي لمحافظة دهوك وصولا الى العمادية حيث انتشار القرى والبلدات الكلدانية قبل ظهور الاكراد في المنطقة وما الاطلال الاثرية والمكتشفات واسماء القرى خير دليل لذلك.

ثالثا: محك التواجد التاريخي للمسيحيين في المنطقة “يعد هذا العامل مبررا يتمسك به القائمون على استحداث المحافظة الامنة، فعلا يتواجد الكلدان والسريان وقليل من الاشوريين المعاصرين في هذه المنطقة، ولكن الشعب الكلداني كان منتشرا في بلاد النهرين قبل توافد العرب والكرد والتركمان والشبك وغيرهم بآلاف السنين. وعليه يعد العراق بلده ولم يفكر الكلداني يوما ما بان تحدد له منطقة ما ليتواجد فيها. بل عاش مع مكونات الشعب العراقي متفاعلا ومتكيفا مع الحضارات التي تلت بعد سقوط الدولة الكلدانية ومنسجما لمختلف الاوضاع السياسية والاجتماعية. فاذا الخيار ليس لهم بل مفروض عليهم من الجهات التي ترى انها ستحقق مصالحها من تأسيس المحافظة.

رابعا: مبرر القضاء على البطالة بين ابناء شعبنا والحد من الهجرة: لاتحتاج المسألة الى تحليل مطول عن مدى قضاء عملية استحداث المحافظة على البطالة والهجرة بين ابناء شعبنا الكلداني والسرياني والاشوري، وذلك بدليل ان البطالة بين افراد المجتمع العراقي بحسب وزارة التخطيط مؤخرا تتراوح بين 40%و60% فعلا انها نسبة مفزعة واما البطالة في الاقليم فهي 14% طبعا المعلن عنها. ستكون المحافظة مرتبطة بالحكومة المركزية، والاخيرة لاتتمكن من القضاء على هاتين الظاهرتين فكيف ستحصل المعجزة ويتم القضاء عليها في محافظتنا؟ ومهما بلغت مشاريع التنمية فيها فلا تستطيع الحد من البطالة طالما ان المحافظة مرتبطة تمويلا وتخطيطا بالوضع العام في العراق.

اما عن الهجرة، فالموضوع يحتاج الى بحث مطول وعليه اكتفي القول: ان الدلائل تشير ان القرى والبلدات الكلدانية التي تقع ضمن منطقة اقليم كوردستان التي تمتاز بوضع امني فرغت نسبيا من سكانها، لماذا ياترى؟ مما يدل ان ظاهرة الهجرة ترتبط بعوامل متعددة وليس عامل الوضع الامني فحسب فهناك العوامل الجاذبة في البلدان المستقبلة للمهاجرين تدفع بهم لترك اوطانهم وهي متعددة منها على سبيل المثال حرية الرأي، الديمقراطية الحقيقية، التسهيلات اليومية، والراحة النفسية والجسدية التي تمنحها التكنولوجية الحديثة للافراد علاوة على الشمل العائلي والقائمة طويلة. وهذا لايعني عندما تستحدث محافظة ستقضي على هذه العوامل لكي تحد من الهجرة، انما قد تستجد عوامل اخرى تدفع بالافراد الى مغادرة محافظتهم.

خامسا: مبرر تطوير الخدمات العامة والارتكازية التي تفتقر اليها المنطقة. لا تحتاج ايضا هذه المسألة الى نقاش مطول، بل الذي اكتفي قوله هل يتمتع المواطن العراقي من جنوبه والى شماله بمياه شرب صالحة والكهرباء والمجاري والتنظيف البيئي والصحة العامة على مدار الساعة؟ لكي يكون استحداث المحافظة عاملا للقضاء عليها، هذا غير وارد الا اذا كان لدى الاداريين وقادتها العصا السحرية ليكونوا منها (جمهورية افلاطون) أو (المدينة الفاضلة) كما وضعها الفارابي. وهذه لاتتحقق الا في خيال وتفكير الفلاسفةفقط.

ليست المسالة ان نكون ضد أو مع استحداث محافظة سهل نينوى لان كل فرد منا يتمنى ذلك اليوم الذي يكون لشعبنا دولة وليس محافظة لكي يكون هو سيد الموقف ولا الخضوع، لتستحدث هذه المحافظة سواء برغبة سكان المنطقة، أو قسريا من اصحاب النفوذ أو ضمن المخطط الامريكي لتجزئة العراق، وهنا لا احد بمقدوره الردع. ولكن ماذا نتوقع لمستقبل الوضع العام فيها؟ ساحاول هنا تسليط الضوء على اهم الاثار السلبية المتوقعة في ضوء المعطيات السياسية والاجتماعية.

اولا: الصراع الاثني بين مكونات شعبنا: من المعروف لكل من يتابع اخبار احزابنا السياسية الكلدانية والسريانية والاشورية انها لاتعترف اعترافا قوميا ببعضها البعض وتظهر جلية هذه الحالة عند الاشوريين المعاصرين اكثر من غيرهم. واما الكلدان والسريان فهما اكثر قبولا للاخر فيما اذا ظهر من الاشوريين نفس المشاعر. لكن وكما اكدت في عدة مقالات لي لا يمكن ان تركن هذه الفئات الاثنية يوما ما الى التوافق والتكيف مع بعضها بالاعتراف المتبادل لانها اصبحت امرا واقعيا.ولعل اخر مقابلة مع ابرز قادة الاشوريين في القناة البغدادية يونادم كنا في برنامج سحور سياسي في 11آب 2011 ، يقول في اجابته لسؤال مقدم البرنامج من هم الكلدان؟ ان كل اشوري دخل الى المذهب الكاثوليكي سمي كلداني.ويطلعك احد الكتاب الاشوريين ليقول نعم لمحافظة سهل نينوى، فهي خطوة لتحرير اشور!!! امثلة حديثة جدا عن هذا الموضوع .فاذن من المتوقع عدم التكيف لهذه الاثنيات مع بعضها شعبيا وسياسيا لان الاكثرية في المنطقة هم من السريان والكلدان واما لاشوريين فهم القلة وعليه سيثيرون المشاكل لغرض اثبات وجودهم.

ثانيا: الصراع المتوقع مع الاثنيات الاخرى:“اثناء تحضيري لاطروحة الدكتوراة سنة 1993 عن التحضر في مدينة الموصل تبين بان محافظة نينوى تمتاز بتباين سكاني كبير اذ ان درجة التجانس فيها لاتزيد عن 10% فقط وهذا ما توصل اليه احد زملائي التدريسيين في جامعة الموصل الاستاذ موفق ويسي في دراسة انثروبولوجية للمحافظة. مما يشير ذلك الى ان مثل هذه المناطق تكون اكثر البيئات البشرية مضطربة وساخنة في احداثها، وخصوصا عندما تضعف سيادة القانون وضعف الدولة. وكما هو معلوم لاتوجد فترة في التاريخ المعاصر للعراق اكثر ضعفا في القانون من المرحلة الحالية.

يؤيد بعض من اليزيدين الموالين للحكومة الكردية والشبك الشيعة قيام هذه المحافظة، لكن هل سيتكيفون مع المسيحيين في ادارتها الم يتصارع الجميع للاستحواض على السلطة والسيادة والمصالح؟ فاذن قد يكون المردود سلبي على شعبنا اكثر بوجود المحافظة من عدمها.

ثالثا: استمرارية تعرض المسيحيين في المناطق الاخرى من العراق الى الاضطهاد: “بالطبع سيمكث المسيحيون في مناطق سكناهم من أجزاء العراق الاخرى، ولكن قد يتعرضوا للاضطهاد اكثر، لان المحافظة المستحدثة ستكون ذريعة بيد الارهابيين لدفع ابناء شعبنا الى ترك مناطق سكناهم عنوة ومن سيرفض فمصيره الموت.

رابعا: استمرارية البطالة والهجرة بين ابناء شعبنا: “كما هو معروف ان المنطقة المعدة لاستحداث المحافظة هي منطقة زراعية برمتها، فلو حدثت جدلا التنمية الاقتصادية وانشأت المصانع وتوسع العمران، كل ذلك سيكون على حساب المناطق الزراعية التي تؤثر سلبا على عموم السكان فيها لان الزراعة هي المصدر الاساسي للمعيشة لاغلبية السكان، ومن ناحية اخرى لو افترضنا جدلا انها اصبحت منطقة تزهو بالامان والسلام ،ستصبح منطقة جذب المسيحيين وبل الشبك واليزيديين والكرد من مناطق اخرى من العراق، وهنا سيحدث خلل في معادلة التوازن البيئي بحسب نظرية (مالثوس السكانية)، اي زيادة عدد السكان عن المصادر الطبيعية في البقعة الجغرافية، وعليه ستكون هذه العوامل مصدرا للبطالة ثم التفكير بالهجرة.

خامسا: ان المنطقة المشمولة هي منطقة التنازع بين الاكراد والحكومة المركزية، وهنا نكون قد وضعنا شعبنا في مأزق اكثر خطورة، وفي محرقة يصعب اطفاء نارها. ومما هو مؤكد ان فكرة انشاء المحافظة هي فكرة كردية خالصة، سيؤول ذلك الى فرض من الحكومة الكردية على ادارتها ان تطالب بضمها الى اقليم كوردستان وهنا تكون قد تحققت الاهداف الكبرى للحكومة الكردية وهذا هو الجواب على تساؤل الدراسة هذه. ولكن حينها ستزداد قسوة العرب على سكان المحافظة.

وخلاصة القول نتمنى وجود منطقة آمنة لشعبنا الكلداني والسرياني والاشوري تحت اية تسمية ادارية ولكن بعيدة عن التأثيرات السياسية واتمنى ان تكون هذه الدراسة قد توصلت الى افكار يقتدي بها القادة غير الاختصاصيين من ابناء شعبنا لكي يتجنبوا من الوقوع في المخاطر وتشتيت ما تبقى من شعبنا في العراق لاجل اشباع مصالحهم الشخصية فحسب والتروي والتأني في التفكير في مثل هذ المشروع.

د. عبدالله مرقس رابي
استاذ وباحث اكاديمي

You may also like...