قـصة مـُخْـتــَـطـَـف في دير ربان هـرمزد – ألقـوش(1)


ملاحـظة : مرّت حـوالي خـمسون سنة عـلى أحـداث هـذه القـصة واليوم يسرّني أن أوثــِّـقـها للتأريخ فـقـط شأنها شأن الأحـداث المذكـورة في كـتاب تأريخ ألقـوش ، وإذا كان فـيها عِـبرة فـلنـتــّـعِـظ منها جـميعـنا .

التأريــــــــــــخ : عـصر يوم من شهر آب 1963

المـُـخـْـتــَـطـَـف : عـبـو ميخا سـيـﭙـي – والدي أعـزل

المـُـخـْـتــَـطِـف : ( يزيدي مسلح – في النهار ﭽـته من الفـرسان يتقاضى راتباً ، وفي الليل مع ثـوار الشمال  ) ولا يعـرف

والدي عـلى الإطلاق .

المكـــــــــــــان : الطريق الترابي المحاذي لسـفـوح جـبل ألقـوش بـين قـرية بوزان اليزيدية وبلدة ألقـوش

فـضـّـلتُ مصطلح مـُـخـْـتــَـطـَـف ( وليس أسير ) لأن أعـزلاً عابرَ سـبـيل يُساق عـنوة إلى دير ربان هـرمزد ليس مقاتلاً في ساحة حـرب كي يُـعـتبر أسيراً . وأنا أرجـو وأأمل وأنـتـظر بشوق وأرحـب غاية الترحـيـب لا بل يمكـن أن أكـون بحاجة إلى أي تعـليق من أناس عاصروا الحـدث زماناً ومكاناً يمكـن الإعـتماد عـليهم من أجـل مصداقـية التوثيق ، أو من غـيرهم شرط أن يذكـروا مصدر معـلوماتهم لكي أحاورهم بعـقلانية المنطق والحجج – إنْ وُجـدتْ لديّ – أو أسكـت أمامهم بإجلال وإحـترام مستـفـيداً منهم ، وما عـدا ذلك فإن أية كـتابة من شخـص لم يواكـب الحـدث زماناً ومكاناً لن تكـون لها قـيمة لأن بإمكاني – وعـداً أمام القـراء – أن أحـرجه بسؤال بسيط جـداً وفي غاية السهـولة دون أن يمكـنه الإجابة عـليه إطلاقاً .

حـين نـنـظر أمامنا إلى صورة جـدارية كـبـيرة ونحـن قـريـبـون إليها لن نرى إلاّ بقـعة صغـيرة لا تعـطي إنـطباعاً كاملاً عـنها ولا تــُـشبع حـب الإطلاع عـليها ، وكـلما نبتعـد إلى الوراء تـزداد مساحـتها المرئية حـتى تـتـكامل أمام أعـينـنا . والشيء نـفـسه في القـصص المثيرة ذات المد الزمني الطويل لا يمكـن فـهـمها ما لم نرجع بها إلى الوراء للإطلاع عـلى أوليّاتها ، جـذورها ، عـواملها ، محـيطها ، دوافعـها ، محـفـزاتها ، ثم نـتائجها وتـداعـياتها .

الجـذور العـميقة للقـصة :

في ألقـوش عام 1961 أصيـبت والدتي بحـساسية جـلدية إشتـدّتْ معها إلى درجة كانـت تحـكّ جـلدها بسكـين المطبخ حـتى ينـزف الدم منه عـندئـذ تشعـر بالهـدوء والراحة ، وقـد عـجـز أطباء الموصل وبغـداد والوصفات الشعـبـية المحـلية عـن معالجـتها وأخـيراً كان هـناك مَن إقـترح عـليها في صيف عام 1962 الإستحـمام بالمياه الطبـيعـية التي تـنبع من صخـور داخـل مغارة في وادي ( ﮔـلي ) دير ربان هـرمزد وتسمى محـلياً ( إينا د قـدّيشِه – عـين القـديسين ) فـباشرَتْ خلال العـطلة الصيفـية بالذهاب إلى المغارة المذكـورة مشياً عـلى الأقـدام عـند فـجـر كل يوم وبإستمرار بمرافـقة والدي ، فـتستحـمّ مرتين متـتاليتين ثم يرجعان إلى البلدة . لاحـظهما بتكـرار رئيس الدير المرحـوم الأب منصور من مكانه المرتـفع بالعـين المجـردة وبالناظور فـعَـلِم من أزيائهما أنهما ليسا يزيديّـين ولا عـرب القـرى ولا زوار من مكان بعـيد فـعـلى الأرجح يكـونان من ألقـوش ، فـبإعـتـباره مسؤولاً عـن الدير من جهة وفـضوليته لبحـث أمرهـما من جهة أخـرى دعاهـما في صباح أحـد الأيام إلى تـناول الفـطور معه في الدير فـلبّـيا الدعـوة شاكـرين له كـرَمه ، ولما إستـفـسر منهما وعَـلِم بالأمر عـرضَ عـليهما أن يأتيا بالعائلة كـلها لتـسكـن الدير طيلة فـترة العـطلة الصيفـية توفـيراً لتعـب المشي يومياً ، حـيث تـتـوفـر كل مستلزمات الراحة وما عـليهما سوى توفـير باقي الحاجات وهـكـذا كان وبقـينا في الدير 41 يوماً ، وبالمناسبة فـقـد شاءت الصدفة أن عائلة آثورية كان عـليها نـذر جاءت إلى الدير وعـمّـذتْ طـفـلها وسُـميَ هـرمز وكـنـتُ أنا قـريـبه ( أشبـين ) وعـمري 13 سنة . إنّ النـتيجة النهائية لسفـرتـنا كانـت شفاء والدتي من تلك الحساسية الجـلدية شـفاءاً تاماً وإلى الأبد ولم نكـن نـدري بأن معاناة وإضطهادات وتهديدات ومنغـصات ستكـون بإنـتـظارنا لأكـثر من عـقـدَين من الزمن بذورها الوهـمية الخـيالية كانـت تلك السفـرة السياحـية الشافـية من جهة وصارت سبـباً لمصيـبة المصائب عـلينا من جهة أخـرى كادت أن تـنهي حـياة والدي عـلى الأرض بطرفة عـين عـلى أيدي أناس يطمحـون إلى دخـول التأريخ بطرق رخـيصة ومن هـكـذا باب خـيالي وهـمي لا وجـود له .

حـقـيقة ، إستمتعـنا خلال تلك الأيام الواحـد والأربعـين فـكـنت تارة أرافـق الراهـب أخـونا سركـيس وهـوايته في نصب الشبكة لإصطياد العـصافـير ثم إطلاقها حـرّة وتارة أخـرى نشاركه كأفـراد الأسرة في تسلـق المرتـفـعات الصعـبة وإكـتشاف الكـهـوف وقـطف العـنب من كـَـرْم الدير خـلف الجـبل والتجـوال في سـفـوحه وواجهاته الجـميلة وأتـذكـّـر أنـنا جـمعـْـنا من المنحـدرات الشرقـية للوادي أوراقَ نبات طـبـيعـي خـضراء تــُـجـفـف وتــُـطحـن فـتـفـوح منها رائحة شجـيّة تــُـنـثـر عـلى الباقلاء المسلوقة تسمى محـلياً ( صـَـفـْـرِ ) ولا أزال أحـتـفـظ بجـزء منها إلى الآن . وكان لنا حـقـل بطيخ في ذلك الصيف – في قاطع من عـقار ألقـوش يسمى أقـولا –  فـبـين يوم وآخـر أو كـل ثلاثة أيام كان والدي يذهـب راكـباً دابّـتـنا ويأتي بالثمر الغـزير فـنأكـل منه ومعـنا الرهـبان والزوّار مهما كان عـددهم وقـد رافـقـتُ والدي بعـض مرات إليه . وقـد دعاني يوماً الأب منصور من شرفة الدير وقال : خـذ الناظور وأنـظر والدك في الحـقـل كأنه لقـلق لأن قـميصه كان أبـيضاً فـقـلت له : إنـني أراه بالعـين المجـرّدة كـنـقـطة بـيضاء صغـيرة جـداً فـتعـجَّـب من قـوة نـظري . وفي تلك الأيام إضطر والدي مرتين أو أكـثر إلى المبـيت في ألقـوش كي يجـلب حاجـياتـنا المستهـلكة فـيقـضي هـناك بضع ساعات من الليل في مضيف المرحـوم الأب هـرمز صنا ( ديوان د قاشا ) فـيسألونه عـن حالة والدتي وعـن الدير فـيجـيـبهم موضحاً لهم كـيف نـقـضي نهارنا ، ولبراءته وغـياب إهـتمامه في تـقـيـيم الموقـف وعـدم بروز بوادر الحـذر والخـوف في تلك الأيام فـكان يحـدثهم عـن مجيء مجاميع من الزوّار إلى الدير . ولما كانـت رياح الثورة الكـردية قـد إبتـدأت بالهـبوب ووصلتْ نسائمها إلى سفـوح جـبل ألقـوش فـقـد شاهـدنا بضع مرات مجاميع أقـدّر عـددها بحـدود 30 – 40 رجلاً مسلحاً وبالملابس الكـردية يأتون عـصراً إلى الدير لمدة ساعة أو ساعـتين ونـقـدم لهم بطيخ ألقـوش بالصواني الكـبـيرة فـيلتـذون به ثم حـين تغـيـب الشمس ويـبدأ الظلام يـبسط وشاحه يغادرون إلى حـيث لا نـدري ولا يخـصنا الأمر كي نـتابعهم أو نسأل عـنهم ، ولاحـقاً بعـد أن كـبـرنا عـلِمنا أن إسمهم هـو : ﭙـشـمَـرﮔـه .

لم يكـن والدي أمياً بل كان يجـيد العـمليات الحـسابـية الأربع بجـدارة ويقـرأ ويكـتب اللغة العـربـية بصورة مقـبولة دون مراعاة الأصول النحـوية ، وشماساً غـير مرسوم يقـرأ ويكـتب اللغة الكـلدانية ، منحـدراً من أسرة فلاحـية ممتهنة فـكان ماهـراً بفـنون الفلاحة . تـرَبّى يتيماً في بـيت عـمه الذي حـرمه من حـصته في ثروة العائلة مما جعـله يحـسّ بالغـبن طوال حـياته فـيئسَ وصار محـبَـطاً مكـتـفـياً بالبسيط دون أيّ طموح فـكان يشتـغـل في بغـداد عـدة أشهر فـيملّ من العـمل ليلتحـق بالعائلة أشهـراً معـتمداً عـلى الزرع الذي كان لنا – كـفاية العائلة في أغـلب السنين – . لم يعـرف التملق أو الشر أو الحـسد أو الخـبث أو الوشاية بل كان بسيطاً مبتسماً إذا توفـرتْ له فـرصة المرح ، ولكـنه لم يكـن مثـقـفاً ( فـلم تــُـثِـرْ السياسة أو العـلوم أو النـقاشات الجادّة إهـتماماته ) ولا كان ملماً بما يسمى اليوم أتـكـيت شأنه شأن أغـلب رجال زمانه ، وبصورة عامة لم يكـن يُـجـيد الحـوار المنطقي في ديوان الرجال فـنادراً ما كان يشارك الجالسين حـديثهم الجاد ، إذن ما الذي يعـمله ! يـبقى مادّاً رأسه منـصتاً مستـمعاً إلى المتكـلمين ساكـتاً أغـلب أوقات جـلوسه معهم فـيوحي لناظـره بأنه مهـتم كـثيراً بالموضوع ((( وهـنا جـذر المشكـلة في هـذه القـصة حـيث أن المثـقـفـين التـقـدّميـين الفـطاحـل الألقـوشـيّـين ووراءهم السذج من عامة الناس وبناءاً عـلى شكـوكهم من ذلك المظهر صاغـوا أحاديثَ وفـَـبْـرَكـوا روايات بصورة مـُـقــْـنِعة رائعة وروّجـوها بكـفاءة عالية منقـطعة النـظير في داخـل حـدود ألقـوش فـقـط مفادها أن هـذا الرجـل ليس خالياً بل يجـمع معـلومات كي يوصلها إلى مَن يهمه الأمر !! وأقـولها سخـرية أنّ الرجـل هـذا قـد يكـون له إرتباط بدول المحـوَر أو قـوات التحالف أيام هـتلر وآيزنهاوَر و ﭽـِرﭽـِل ومَن يدري وكل شيء جائـز فـربما يخـطط لإنشاء منـظمة دول الإنحـياز للقـوى الأمـﭙـريالية أو يترأس منظمات ذات تـطلعات إمبراطورية أو قـد يكـون مشغـولاً في تأليف كـتاب في الأفـكار الجـنجـريقـية والطـّـقــّـوطـَـقـّـيقـيّة التي تهـدف إلى القـضاء عـلى الفـلسفة الماركـسية والمبادىء اللينينية ، إنّ مبدأ الشك عـند ماركس هـو الذي جـعـلهم يعـتـقـدون أنه عـنـصر خـطر عـلى الإتحاد السوﭬـيـيتي وعـلى المنـظومة الإشتـراكـية بصورة عامة وعـلى خـروشوف بالذات ، وبعـدين شـيـوَصْـله الـ – مطلب عـظيمي – إلى إستلام الحُـكم في بغـداد ؟ إذن !! يجـب معالجـته مهما كـلف الأمر )))

العـبرة بإخـتـصار – إتــُّهـِمَ والدي بالعـمل في دوائر الأمن أو المخابرات ضد مَن ؟؟ ضد الشيوعـيّـين الألقـوشيّـين حـصراً ، والحـمد لله ليس ضد أولئك الذين في تللسقـف أو خانـقـين أو فـلوجة أو الـﭽـبايش . ومما يثير الضحـك والإستخـفاف بالمفـكـرين الألقـوشيّـين – الذين إتهـموه – أنهم لم يفـطـنوا ولم ينـتـبهوا إلى فـكـرة تستحـق الإلتـفات إليها وهي إستمرارهم في إتهامهم له خلال فـتـرة رئاسة جـمهـورية العـراق الرؤساء المرحـومين جـميعـهم : عـبد الكـريم قاسم ، عـبد السلام عارف ، عـبد الرحـمن عارف ، أحـمد حـسن البكـر ، وحـتى صدام حـسين ! وأنا متأكـد لو كان حـياً إلى يومنا هـذا لإستـمرّوا في إتهامهم له حـتى في زمن الرئيس مام جلال . طيّـب يا جـماعة ويا أيتها الطبقة المناضلة الواعـية ألم تـفـكـِّـروا في أنـفـسكم أو تحـدّثـتم فـيما بـينكم كـيف أن الحـكـومات المتعاقـبة والمتضادّة مع بعـضها أبقـتْ هـذا العـنـصر مواكـباً لجـميعـها ؟ هـل يُـعـقـل أن يكـون مخـلصاً لكـل الحـكـومات المتآمـرة والمنقـلبة بعـضها عـلى البعـض وهي متـناقـضة فـيما بـينها ؟ وهـل كانـت الحاجة ماسّة جـداً إلى خـدماته المخابراتية بحـيث ليس هـناك مَن يحـل محـله ؟ أي رجـل غـريـب الأطـوار وأيّ داهـية هـذا بحـيث وثـقـتْ به جـميع تلك الأنـظمة التي تبحـث عـن أسرار بعـضها للبعـض الآخـر وهـو من بـين حافـظي أسرارها جـميعـها ؟ وإذا إفـتـرضنا جـدلاً أنه بـذكائه أو بقـوّة سحـره إستـطاع أن يكـسب ثـقة جـميع الحـكـومات تلك ويخـدمها كـلها في شخـصه الواحـد ، طيِّـب أليس العـبقـري الألقـوشي هـذا مدعاة فـخـر للألـقـوشيّـين لِما يملكه من قابليات فـذة فـوق الطبـيعـية لا يملكـها أكـبر فـطـحـل ألقـوشي بـينهم ولا حـتى آينـشـتاين ؟ ثم هـناك ملاحـظة أخـرى وبسيطة كان يُـفـتـرض بالأذكـياء منهم أن يتساءلوا : هـل أن رجلاً بهذا المستـوى يقـبل عـلى إبنه الكـبـير ( أنا ) أن يلبس سروالاً مرقـَّـعاً من الخـلف حـتى نهاية الصف الثالث المتوسط ؟ عِـلماً وبصراحة فـقـد رفـضتُ ذلك في الصف الرابع الثانـوي لأن في صفـنا بنات . وكـل تلك الظـنون والحـكايات التي وصفـتها في هـذا المقال لم نكـن نعـلم بها في حـينها عـلى الإطلاق نحـن أفـراد الأسرة إبتـداءاً من الوالد وإلى أصغـرنا حـتى وقـت لاحـق ، وإلى المقال ( 2 ) .

You may also like...