عيد الربيع \ عيد الأكيتو البابلي : بقلم طلعت ميشو

لم تكن أحاسيس وعواطف وأفراح سكان العالم القديم تختلف عما لدينا اليوم من مشاعر حين قدوم الربيع والخضرة والزرع والورود والثمار والنسيم المنعش المُعطر بروائح الزهور البرية التي تملأ الوديان والجبال والسهول والمراعي الخضراء التي ستُطعم كل الكائنات الحية، لِذا نعلم بديهياً أن كل شعوب العالم لا بد قد إحتفلت بقدوم الربيع بشكل من الأشكال .
تبدأ حكاية أعياد الربيع في أرض الرافدين منذ أزمنة بعيدة يقول بعض العلماء والمؤرخين أنها تقع بين ( الألف الرابع والخامس ق.م )، وبعض المصادر تقول أن السومريين والساميين إحتفلوا به منذ عصر ( أريدو -5300 ق. م ) وبالذات في جنوب بلاد ما بين النهرين وبإسم ( زاكموك Zag-mug ). وكان يُحتفل به مرتين في العام الواحد، في الربيع والخريف.أما الساميون الذين سكنوا العراق القديم قبل وأثناء وبعد السومريين فقد إختاروا له تسمية ( أكيتو ) وتعني: ( الحياة ) والمشتقة من تسمية أقدم هي 🙁 a-ki-ti-se-gur-ku ) .كلمة أكيتو كانت تسمى أو تُلفظ عند بعض الساميين ( حِجتو ) وذلك في اللغة الأكدية والعربية لاحقاً، أما في اللغة السريانية الآرامية فلا تزال كلمة ( حج ) تعني الإحتفال أو الحفلة. وفي اللغة البابلية القديمة كانوا يسمون هذا العيد ( ريش شاتم )، ريش تعني : رأس، و شاتم تعني: سنة. وفي لغة (السورث) المحكية لحد اليوم بين مسيحيي العراق لا نزال نقول: (ريش شاتة) أي: رأس السنة. لاحظوا تقارب هذه الألفاظ مع العربية !.
هذا العيد كان معروفاً منذ الأزمنة العتيقة لبلاد ما بين النهرين في مدن مثل ( أريدو، أور، لجش، كيش، أوروك )، وكما ذكرتُ كان واحداً من عيدين رئيسيين ( زاكموك وأكيتو ). زاكموك هو عيد الإحتفال بحصاد الشعير، كذلك هو عيد الإعتدال الخريفي المتزامن مع موسم قطف التمور، وكان الإحتفال به يجري في الخامس عشر من شهر أيلول من كل عام، ويرمز لقدسية نخلة بلاد الرافدين ولتجدد وخصب الأرض المتمثلة بشعائر الجنس في إحتفالات (الزواج المقدس) ورمزه الإله السومري (دموزي وزوجته أنانا) واللذين تم إقتباسهما في شخصية الإله (تموز وزوجته عشتار) عند البابليين، ولاحقاً تم الإستعاضة عنهما في شخصية الإله (مردوخ وزوجته صربانيتوم) أثناء الإحتفال بعيد الأكيتو في بابل.
كان أكيتو في جذوره القديمة الأولى عيداً شعبياً لجز صوف الماشية والأغنام، وكان يُحتَفَل به بين شهري آذار ونيسان، ويُمثل رأس السنة الجديدة (الإعتدال الربيعي)، ثم أصبح من المتعارف عليه الإحتفال بهِ في اليوم الأول من شهر نيسان كل عام في إقليميَ الوسط والجنوب من بلاد النهرين، بينما لا توجد معلومات عن معرفة هذا العيد في الإقليم الشمالي (آشور) قبل سنة ( 1200 ق.م ). وذلك حين قام الملك الآشوري ( تيكولتي نينورتا الأول 1214 – 1208 ق.م ) بعد غزوه وتدميره لمدينة بابل بسرقة تمثال الإله مردوخ ونقلهِ ضمن غنائم الحرب إلى بلاد آشور في شمال العراق، مما حفز الشعب الآشوري على الإحتفال بهذا العيد لأول مرة إقتداءً وتقليداً لإحتفالات البابليين به !.
وحول هذه النقطة يقول الكاتب الآثاري (هاري ساكز) في كتابه (قوة آشور): [ كانت بلاد بابل مصدر ومركز حضارة بلاد الرافدين، وكانت العاصمة بابل مركزاً دينياً ذا قداسة كبيرة، وإن سلب ونهب بابل في العالم القديم يمكن تشبيهه بسلب الفاتيكان أو القدس أو مكة في وقتنا هذا ] إنتهى .
في مطلع ( الألف الثاني – 1894 – 1595 ق.م ) زمن السلالة العمورية البابلية الأولى ( سلالة الملك والمُشَرِع حمورابي الذي كان سادس ملوكها ) تم إلغاء الإحتفال بعيد (زاكموك)، وإقتصرت الإحتفالات على عيد الأكيتو فقط . وهكذا راح البابليون يحتفلون بعيد الأكيتو في اليوم الأول من شهر نيسان (نيسانو) والذي يعني: العلامة، وفي العربية (نيشان) لأنها العلامة أو النيشان على حلول فصل الربيع والإعلان عن ولادة الحياة ورمزاً للخصب وحَبَل الأرض بكل ما هو أخضر .. وهو لون الحياة . (نيسان – نيشان) .

إحتفالات بعض الشعوب والأقوام بعيد الربيع :
هنا اقدم لكم محاولة متواضعة مخلصة لإيجاد العائدية التأريخية لهذا العيد، لأن الكل يَدَعونَ شرف ذلك، والحق هو السبب الأول الذي دعاني لكتابة هذا البحث :

* عيد ( نيروز) الفارسي 
يُعتبر يوم 21 آذار العيد القومي ويوم الإعتدال الربيعي ورأس السنة الفارسية في إيران، وتُعطل فيهِ كل الجهات الحكومية والأهلية إعتباراً من 20 آذار ولمدة خمسة أيام، والمدارس والجامعات لمدة أربعة عشر يوماً . وأثناء هذا العيد تُخفف الأحكام عن المساجين، ويَصطَلِح الناس فيما بينهم وينسون أحقادهم وخِلافاتهم، ويُطعمُ الفقراء والمحتاجين، وتُزارُ قبورُ الموتى وتُكَرَمُ أرواحهم، فهو عيد الإنسانية والفرح وإيقاظ مشاعر الرحمة في قلوب البشر، وهذا رائع حقاً . يقول الكاتب وليم الخازن في كتابهِ ( الحضارة العباسية )، بتصرف : [ في زمن العباسيين تم إعتبار عيد الربيع عيداً رسمياً، وبإسم ( نيروز)، ولم يكن ذلك يعني بالضرورة أن هذا الإحتفال كان فارسياً !، لأن الفرس إقتبسوا فكرة هذا العيد خلال قرون السيطرة الفارسية على العراق بعد سقوط مملكة الكلدان في بابل ( 539 ق.م ) بدليل انه في زمن العباسيين كانوا يُطلقون على هذه المناسبة أحياناً تسمية (الربيع الشامي)، وفي مصر أطلقوا عليه تسمية (نيروز القبطي) ] .
أما الكاتب سليم مطر فيقول في كتابه الشهير (الذات الجريحة): [ يبدو أن الإيرانيين وحتى قبل إحتلالهم للعراق وإسقاطهم للدولة البابلية سنة ( 539 ق. م )، ظلوا يقتبسون الحضارة العراقية من كِتابة ولغة وفنون وعلوم وأفكار دينية، ومن جملة الأمور التي إقتبسها الإيرانيون كان التقويم البابلي وتقسيم السنة، وبالذات (عيد السنة العراقية)، وأطلق الإيرانيون على هذا العيد العراقي تسمية ( نيروز) وتعني: اليوم الجديد، ويُشير إلى هذه الحقيقة جميع من كتبوا عن تأريخ إيران، ومنهم المؤرخ الشهير (آرثر كريستنسن) في كتابهِ (إيران في عهد الساسانيين) ] .

* عيد (نوروز) الكردي يوم 21 آذار هو العيد القومي وعيد رأس السنة الجديدة عند الأكراد. وفي كردستان العراق يتم تعطيل كل المؤسسات الرسمية والأهلية في هذا اليوم إعتباراً من 20 آذار ولمدة أربعة أيام، ويتم إيقاد شعلة نوروز في كل المدن الكردية، والتي يُسمونها شعلة ( كاوة الحداد ) !. وبخلاف بقية الشعوب فإن عيد نوروز الربيعي يعني عند الأكراد ذكرى قومية ليوم تحررهم من الظلم والعبودية !، حتى وإن كان ذلك من خلال ملحمة رمزية خرافية شعبية يُسموها (كاوة الحداد) ويعتقد بعض الكتاب والمحللين إنها مُقتبسة من إحدى قصص أسطورة (الشاهنامة) الفارسية !.
تقول الأسطورة الكردية بإختصار: كان هناك ملك آشوري شرير إسمه ( الضحاك )!، وفي مصادر أخرى يقولون أنه كان من ملوك الفرس !، والذي بسبب شروره الكبيرة -ومنها ذبحه لأطفال الكرد- تغيب الشمس وترفض أن تشرق ثانية !، وحتماً غيابها أدى إلى موت الحياة النباتية وجوع البشر، وبعد كذا وكذا من الأحداث الدرامية يبزغ نجم بطل قومي كردي إسمه (كاوة الحداد)، الذي سيشعل النار في قلعة الضحاك ويقوم بقتلهِ، عندئذٍ فقط تشرق الشمس ثانيةً!، ويعود للأرض خصبها ورونقها وإخضرارها، وبهذا تصبح نار قلعة الضحاك رمزاً لعيد النوروز الكردي!. الحق هي ملحمة خرافية جميلة جداً، لولا أن الأكراد صدقوا هذه الميثولوجيا لدرجة الإعتقاد بحقيقة وقوعها وبتأريخيتها رغم (لا واقعية) أحداثها !، لِذا يصبح من السخرية إستعمالها كحجة لإسناد عنادهم وإصرارهم على عائدية عيد الربيع لهم !.يقول (ياقوت الحموي) في كِتابه (معجم البلدان): [ تدعي العجم أن الملك الضحاك كان له ثلاثة أفواه، وست أعين، وقد مَلَكَ الف سنة إلا يوماً واحداً ونصف يوم !، ثم أسَرَهُ (أفريدون) وحبسه في جبل (زنباوند)، والعجم يعتبرون يوم أسر الضحاك عيداً، ويسموه المهرجان ] !. وبعد كل ذلك يطلب الأخوة الأكراد مِنا أن نصدق أن عيداً عمره عدة آلاف من السنين الحضارية هو من صنيعتهم !!؟ علماً بأنه لم يكن للأكراد أي ذكر في التأريخ يوم كان هذا العيد يُحتَفَلُ به في بلاد ما بين النهرين !، لأنهم آخر الأقوام التي نزحت إلى العراق في أوقات لاحقة وحديثة نسبياً !.
موضوعي المطروح اليوم ليس تحاملاً أو هجوماً عنصرياً أو طائفياً على أحد كما سيدعي البعض حتماً كمحاولة لتسطيح الموضوع وتسفيه ما هو مطروحمن حقائق مثبوتة، بل حقيقة إستََفَزَها إدعاء البعض لعائدية هذا العيد لهم، ومنهم الأخوة الأكراد الذين كردوا الكثير مما ليس لهم في القرنين الماضيين، وهذه أمور من المفروض أن يكون صَمام أمانِها النزاهة ومعقولية الإدعاء وثبات الحجة !، ومن الخطأ التعامل مع التأريخ على مبدأ الشاعر: “ولكن .. تؤخذ الدنيا غلابا” !.

* عيد الربيع الشامي وحول ذلك يقول الكاتب أنيس فريحة في كتابهِ ( دراسات في التأريخ ): [ يبدو أن هذا العيد إنتقل إلى سوريا مع إنتقال معظم الميراث السومري إلى الساميين ] .ونحنُ نعرف أن السوريين إحتفلوا بهذا العيد منذ أزمان بعيدة تسبق أي شعب آخر عدى شعب وسط وجنوب العراق، وكانت واحدة من الشواهد الصارخة على إقتباسهم هو أنهم حولوا إسم الإله الرافدي ( دموزي – تموز ) في هذا العيد إلى إسم ( أدون – السيد )!، ومنهم إنتقل الإسم إلى الإغريق تحتَ تسمية ( أدونيس ) !.

* كذلك يحتفل به اليزيديون في شمال العراق تحت تسمية (سري صال) في الأربعاء الأول من شهر نيسان، ويسموه عيد (الملك طاووس) الذي هو نفسه الإله العراقي القديم (تموز) البابلي زوج الإلهة عشتار، وهذا ما تقوله كل الكتب، بنفس الوقت يرمز الملك طاووس إلى (جبرائيل) أيضاً !. ايضاً يحتفل بهذا العيد سريان العراق المسيحيين في الأول من نيسان. كذلك الصابئة المندائيين في العراق، والذين تفرعوا تأريخياً عن الكلدان نسبة إلى مراسيمهم الدينية التقليدية المعتمدة على طقوس التطهر -الصباءة- والإغتسال بماء النهر الجاري.
وأيضاً المانِيين .. وهو يوم صلب نبيهم (ماني البابلي). كذلك يحتفل به تركمان العراق، وأغلب الناس في العراق ويسموه ( دورة السنة ). وقد عُثر على لوح طيني سومري يعود للألف الأول قبل الميلاد مكتوب عليه التفاصيل الكاملة لإحتفالات عيد الأكيتو في العراق القديم .

* أما اليونانيون القدماء فقد إحتفلوا بعيد الربيع من خلال أسطورة تقول بأنه كان للأرض ربة أو آلِهة حزنت لأن رب العالم الأسفل خطف إبنتها !، فلما حزنت أجدبت الأرض ومنعت الزرع والثمار، فضج البشر مشتكين لآلِهة الأولمب التي حَكَمَت على رب العالم الأسفل بإعادة تلك الأبنة لمدة ستة أشهر من كل عام !، وصدف موعد عودتها في الربيع حيث تخضر أمها الأرض سعادةً بعودة إبنتها إليها !. وكما نرى … هي نسخة كاربونية لنغمة رافدية فيها بعض تحوير من أسطورة الإله (تموز) البابلي، ومن يقرأ عن أساطير الإغريق واليونان يعرف أن معضمها مُقتبس من أساطير بلاد ما بين النهرين، والتي إنتقلت إليهم عبر الكنعانيين والفينيقيين، والعبريين لاحقاً.

* عيد شم النسيم المصري في ويكيبيديا الموسوعة الحرة، تقول كل المعلومات المنشورة هناك:
[ أن عيد شم النسيم المصري يرجع الإحتفال بهِ إلى نحو ( 2700 ق. م )، وبالتحديد إلى أواخر الأسرة الفرعونية الثالثة. وله تسمية أقدم هي عيد النيروز القبطي. وترجع تسمية (شم النسيم) إلى الكلمة الفرعونية “شمو” وهو عيد كان يرمز عند قدماء المصريين إلى بعث الحياة، وكانوا يعتقدون أنه أول الزمان وبداية خلق العالم ] . وكما بينت في متن المقال، فإن إحتفال العراقيين القدامى بهذا العيد يعود للفترة الواقعة بين الألف الرابع والخامس ق . م، وهذا يجعل الإحتفالات بهذا العيد في منطقة وسط وجنوب العراق أقدم تأريخاً من أي إحتفال آخر في العالم بهذا العيد.

* عيد الربيع ( أكيتو ) الآشوري الحق مللنا قراءة وسماع ومشاهدة إلحاح الأخوة الآشوريين ومناكداتهم وتزويراتهم البائسة الدائرة في أفلاك عديدة منها إدعاؤهم عائدية هذا العيد التأريخي لهم في كل وسائل إعلامهم ! .وكل ذلك لعمري نكتة فجة تفتقد الظرافة، وقرار غير عقلاني يخلو من الموضوعية والمسؤولية، وسرقة تأريخية مُخجلة تماماً رغم أنها ليست أول سرقة تُشين الأخوة الآشوريين، وليست أول مناكدة وتحرش معاصر لهم بالكلدان البابليين، والظاهر أن تبعيتهم الثقافية والحضارية التأريخية لبابل والكلدان، وعدم غفرانهم لهم بسبب نهاية دولتهم آشور على أيدي الكلدان، قد سببت لهم عقدة نفسية تأريخية يأبى الأخوة الآشوريون فهمها وإخمادها في نفوسهم رغم مرور أكثر من 2500 سنة !!، وقد صدق الكاتب ( د. جون أوتس ) في كِتابه ( بابل تأريخ مُصور ) حين قال ( بتصرف ):
[ بعد إنتهاء غزو بابل من قبل الملك الآشوري -تكولتي ننورتا الأول- نقل الآشوريون المتعطشون للحضارة البابلية أعداداً كبيرة جداً من الألواح المسمارية البابلية إلى بلادهم آشور، بوصفها غنائم حرب، وبقيَ الإهتمام الآشوري المفرط ببابل وتناقضاتهم معها يُثير المتاعب لمملكة آشور الشمالية طيلة القرون الستة اللاحقة ] . وهذا لوحده يقول لنا أن الآشوريين لم يكن يهدأ بالهم حتى حين كانوا يُحققون إنتصارات عسكرية على بابل، كونهم أدركوا أن بابل قد إنتصرت عليهم عبر كل التأريخ في كل شيء آخر عدى الحرب، ورغم أنها رزحت تحت نير إحتلالاتهم العسكرية زمناً طويلاً، لكنها أنهتهم في النهاية وأخرجتهم من التأريخ عقوبة لهم على كل سلبياتهم وحسدهم لبابل خلال قرون عديدة، والتي كان من نتائجها تخريبهم ونهبهم لبابل عدة مرات، لكن بابل كانت تقوم من خرابها ورمادها كطائر الفينيق وبكل عناد وضراوة وإصرارعلى متابعة دورها كحضارة أعطت العالم أولى إشعاعات الفكر الإنساني .
المؤلف والآثاري (هاري ساكز) ألَفَ كتابه (قوة آشور) لتبيان عظمة الأمبراطورية الآشورية، ويقول على ص 296، بتصرف :  [ أحد الإحتفالات كان يُسمى (أكيتو)، ويُترجَم غالباً ب (عيد رأس السنة)، وقد استخدمت هذه الترجمة لأن العيد أصبح كذلك في مدينة بابل، وكان يُعقد في الأيام الأولى من الشهر الأول (نيسان) من السنة، وفي بابل كان يحتوي على تلاوة قصة الخليقة بأكملها، وهي تمثيل المبارزة الطقسية بين إله المدينة (يقصد مردوخ) وبين (تيامات أو تعامات) المخلوق البدائي وهي إمرأة وتنين، والزواج المقدس، ومراسيم أُعدت لضمان رفاهية المدينة للسنة 
المُقبلة، وتتويج الملك الأرضي مجدداً. ولكن ليس من المفروض أن نرى عيد الأكيتو في بلاد آشور كنسخة لما هو عليهِ في بابل بكل التفاصيل !. مع إشارات قوية إلى أن معظم ما كان يحدث مُشابهاً لعيد الأكيتو في بابل !، وقد لا يُمثل ذلك تقليداً آشورياً قديماً، ولكنه تأثير حديث نسبياً من بابل ] !.
وعلى ( ص 392 ) وتحت عنوان “نصوص مُقتبسة مباشرةً من بلاد بابل” يقول نفس المؤلف: [ أن الأصناف الكتابية التي تم ذكرها حتى الأن أما تطورت في بلاد آشور أو أن تأليفها تم في بلاد آشور وفق نماذج بابلية. وما عدى ذلك، فإن غالبية النصوص المُكتشفة في بلاد آشور كانت إقتباساً مُباشراً من بلاد بابل ] !.
وعلى ( ص 398 ) يقول: [ إن أنواع النصوص التي وجدت في مكتبات الملك ( آشور بانيبال ) تقدم دليلاً جيداً على الأدب المدرسي المُستخدم في بلاد آشور، وهو بالدرجة الأولى من أصل بابلي ] !.
أما الكاتب فراس السواح، فيقول في كتابهِ ( مغامرة العقل الأولى ) وعلى ( ص 377 ): [ الإله آشور هو كبير آلِهة الآشوريين، وهو صورة طبق الأصل عن الإله البابلي “مردوخ”، وقد قام الآشوريون بتبديل إسم مردوخ إلى آشور في معظم الأساطير التي ورثوها ] !. أو التي سرقوها .
وفي كتاب ( قاموس الآلِهة والأساطير ) يقول مؤلفوه الثلاثة ص 24 : [ والملفت للنظر أن الإنتاج الأدبي في العصر الآشوري بمراحله الثلاث القديم والوسيط والحديث كان عقيماً، وذلك لأن كل ما عُثر عليه في العاصمة آشور وفي نينوى في مكتبة العاهل الآشوري آشور بانيبال كان مدوناً بعد العصر البابلي القديم، ومنسوخاً من أصول بابلية قديمة ممهورة بأسماء كاتبيها ] .
ولنتمعن في المعنى الدلالي الكبير للكاتب الآثاري (جان بوتيرو) في فقرة من كِتابهِ ( بلاد الرافدين )، بتصرف:
[ منذ سنة (1750 ق . م ) أصبحت بابل العاصمة السياسية ثم الثقافية للبلاد، وبابل تُمثل بصورة إعتيادية النصف الجنوبي وحدهُ من حدود بلاد الرافدين. أما بلاد آشور فقد كانت دائماً خاضعة ثقافياً لبابل، وعلى إختلاف نُظمها السياسية اللاحقة، وخلال إزدهار عواصمها بالتتابع ( آشور وكالخو وخرسباد ونينوى ) ] .
وللعلم فإن أغلب الآلِهة الآشورية هي في الأصل آلِهة بابلية ما عدى الإله آشور الغريب -غير سامي- والشوباري الأصل . حتى الإلهة البابلية عشتار إقتبسوها من بابل حوالي سنة ( 1500 ق . م ) وزوجوها (عنوة) لإلههم آشور !!!، وهي معلومة طريفة تدعوني للإبتسام كلما تذكرتها .
تحت يدي العشرات من آراء الكتاب العالميين في موضوع السرقات الآشورية من بابل ولكن … البحث طويل جداً ولا يحتمل المزيد . يستعمل آشوريو اليوم نفس التصرفات والسلوكات والنُهَج الخاطئة التي مارستها قبلهم بعض الشعوب والأقوام أمثال العرب والأكراد والأتراك والفرس، في محاولة مسعورة لا ضابط لها، لأشوَرَة التأريخ المحلي الرافدي، ومنه أشورة عيد الربيع ( الأكيتو البابلي ) !.
أعتقد في ما ذكرتُ من أدلة، كفاية لإثبات أن هذا العيد ( أكيتو ) ليس له أية عائدية للأقوام الآشورية، وهم مُجرد مُقتبسين ليس إلا !.



قناعات كاتب المقال :
أحتَرِمُ آراء الباحثين والعلماء والكتاب الذين لهم مصداقية عند القارئ المحترف والذين يكتبون من أجل المعرفة والحقيقة فقط ، لِذا وإستناداً على الكثير الكثير الذي قرأته عن الموضوع قبل تأليفي لهذا البحث، فقناعاتي تقول أن الأقوام السامية ( الفراتيين الأوائل ) التي سبقت الإستيطان السومري في العراق (عصر أريدو والعبيد والوركاء وأور وأوروك وكيش) قد إمتزجت وإنصهرت حياتياً مع السومريين، وإحتفلت بهذا العيد معهم أو إحتفلوا معها، بحيث لا أحد يستطيع اليوم أن يقول بعائدية هذا العيد للساميين أو للسومريين، فهذه أحداث من الصعب إقتفاء آثارها بدقة تأريخية !، لِذا أتساءل : ماذا حدث لكل تلك الأقوام السامية والسومرية التي عاشت في وسط وجنوب العراق والتي إحتفلت قبل كل العالم بأعياد الربيع ؟!، هل رحلوا إلى كوكب آخر مثلاً !، أم تبخروا ! أم تم رفعهم عن الأرض بقدرة خارقة وإستبدالهم بالأكديين والبابليين والكلدان ؟
كل هذا ليس وارد في منطق العلم حتماً، بل يقول العقل والمنطق أن ديمومتهم إستمرت على نفس التربة وفي نفس المدن، ولكن تحت مسميات مدينية وقومية وقبيلية ومناطقية ودينية جديدة ومختلفة ولأسباب وإعتبارات تأريخية عديدة لسنا بصدد التطرق لها الأن .
في مقال نُشر في جريدة المؤتمر قبل سنوات، يقول الكاتب سليم مطر: [ هناك صورة خاطئة فرضها المؤرخون التوراتيون والمستشرقون على التأريخ العراقي وكذلك التأريخ الشامي، توهِمُ القراء بوجود شعوب عديدة متلاحقة: ( أكدية، عمورية، كلدانية، آشورية ) بينما الحقيقة أنها لم تكن شعوباً بقدر ما كانت سلالات، فهل يصح مثلاً الحديث عن الشعب (الأموي) والشعب (العباسي) اللذين كانا سلالتين مُختلفتين من شعب واحد !؟ ] . إذن … يكون الأكديون والبابليون والكلدان -وبحكم ومنطق وتفسير التأريخ والجغرافية- هم نسل وأبناء وأحفاد تلك الأقوام السامية والسومرية، والورثاء (الشرعيون) الوحيدون لأديانهم وآلهتهم وعاداتهم وأعيادهم، لأن هؤلاء الساميين والسومريين -في بداياتهم- إمتزجوا مع بعضهم البعض لحد التلاشي النوعي، بحيث عجز العلماء لاحقاً عن معرفة وتمييز عظام السامي من عظام السومري أحياناً في تلك المناطق الجغرافية من بلاد ما بين النهرين !. وكحتمية لا تقبل الخطأ كان عيد الربيع ( الأكيتو ) من ضمن ما ورثوه من أسلافهم القدماء. لِذا يصبح من حق البابليين في أقليميَ الوسط والجنوب وعلى إختلاف تسمياتهم اللاحقة ومنها (الكلدان) إدعاء عائدية هذا العيد لهم، قبل عائديتهِ لأي شعب آخر كالآشوريين الشماليين مثلاً، أو الشعوب الشرق أوسطية من الذين إقتبسوا هذا العيد لاحقاً وفي أزمنة مختلفة .

يقول الكاتب والمؤرخ الكلداني المُعاصر السيد ( حبيب حنونا ): [ البابليون هم ورثة الحضارة السومرية بحكم معايشتهم في نفس المنطقة الجغرافية ]
أما الكاتب (ناصر اليونس) فيقول في بحث موسع ورصين له بعنوان ( رحلة في العقل السومري ) نُشرت بتأريخ ( 22 – 7 – 2010 ): [ الحضارة البابلية والكلدانية تعتبران الوريثتان الرسميتان للحضارة السومرية، وإليهما إنتقل كل البناء الحضاري الديني السومري ] إنتهى .
كلمة أخيرة :
الحضارة جهد مُشترك لبني البشر، وهي ترحل وتنتقل وتتبدل وتتطورعبر الزمكان، لكنها لا تُسرق أو تُدعى، لأن خلف كل إنجاز حياتي أصل و “براءة إختراع” تكون من حق الصانع الأول، والحضارات القديمة نمت وأينعت وأثمرت ثم ماتت … فكما تموت الأشجار كذلك تموت الحضارات، ليأتي بدلها ويحل محلها حضارات أخرى جديدة فتية تولد من رحم الحضارات المحتضرة، بالضبط كتجدد تموز وعيد الربيع وتوالي الفصول. هي دورة الأفلاك، والمنطق يقول “موت الحضارة .. يعني إنتقالها في المكان” . وكم هو جميلٌ أن نرى أساطير وملاحم وحضارة وأعياد وأديان وفكر بلاد وادي الرافدين قد سافروا وتواصلوا ولقحوا وخصبوا بذور وبويضات أغلب حضارات شعوب الأرض القريبة والبعيدة جداً، وهذا مدعاة فخرنا وتباهينا في زمن ليس لنا ما نفاخر أو نتباهى بهِ !.
لِذا يكون من حق كل الأمم والشعوب والقوميات الإحتفال بهذا العيد الذي أصبح عالمياً، فالربيع والإحتفال والفرح ليسوا حكراً على أحد، لكن إدعاء البعض لعائدية هذا العيد تأريخياً لهم يجعلنا نقف بحزم وصلابة لنقول رأينا التأريخي الفاصل في الموضوع، وبرأيي هي ضرورة لا بد منها لإيقاف المدعين أو السراق، وهو حقنا المشروع في الدفاع عن تأريخنا وحضارتنا وتراثنا العراقي البابلي الكلداني وما لنا فيه من بصمات وأحداث، وعيد الأكيتو حتماً واحد من أحداث تأريخنا الذي نشارك الآخرين به، ولكن لن نسمح لهم أبداً أن يَدَعوهُ لهم، والتأريخ هو الحَكَم دائماً .

المجد للإنسان . طلعت ميشو Apr – 1 – 2020

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *