ظواهر لابد الاشارة اليها عند بعض رجال الدين


تعد المؤسسة الدينية احدى اهم المؤسسات الاجتماعية التي يتناولها علماء الاجتماع في دراساتهم وبحوثهم العلمية في ميدان علم الاجتماع الديني ،لانها تشكل جزأ مهما من البناء الاجتماعي للمجتمع البشري بمختلف مستوياته وانماطه.وهي مرتبطة بتبادل تأثيري مع المؤسسات الاخرى التي يتكون منها البناء الاجتماعي،كالمؤسسة السياسية والتعليمية والاقتصادية والعسكرية والاعلامية وغيرها .وقد اعتمد هذا التأثير المتبادل في قوته وشكله ونتائجه على المرحلة الحضارية للمجتمع ،اذ قديما كان لها التأثير العميق في المؤسسات السياسية وفي كل نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية ،وظل هذا التأثير العميق واضح في المراحل التاريخية للمجتمع البشري حتى بوادر ظهور النهضة الفكرية والثورة التكنولوجية  في بداية القرن السابع عشر في اوروبا،والى سقوط الدولة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الاولى 1918 في الشرق .

استمدت المؤسسة الدينية وفقا للتحليل السسيولوجي قوتها التأثيرية على المؤسسات الاخرى وعلى افراد المجتمع البشري بصورة عامة من عاملين اساسيين هما :اولا نزعة الخوف من المجهول بعد الموت عند البشر،وبما انها اي المؤسسة الدينية هي التي تولت مهمة الفلسفة الفكرية لربط الانسان بالخالق منذ نشأة المجتمع البشري،وعلى اثرها تكونت العقائد الدينية وتنوعت في صيغتها وعناصرها زمانيا ومكانيا .وعلى هذا الاساس يخضع الانسان للتعاليم الدينية لكي يشعر بالاطمئنان بعد الموت.وثانيا استمدت تأثيرها من مبدأ التفويض الالهي الذي تبلورت فكرته منذ نشأة البشرية ،وقد اختلقته المؤسسة الدينية لمسؤوليها لديمومة شرعية السلطة باعتبارهم وكلاء الخالق على الارض،وتتجلى هذه الفكرة في كل المؤسسات الدينية قديما وحديثا ،في الاديان الوثنية والسماوية .

يتولى مهام المؤسسة الدينية اشخاص اعدوا تربويا وفكريا لهذا الغرض وتطلق عليهم تسميات مختلفة في المجتمعات البشرية منها :الشامان والساحر والكاهن اوالشيخ وعالم الدين اورجل الدين في المجتمعات البدائية القديمة و المعاصرة  وتختلف التسميات بحسب مرتباتهم ووظائفهم الهرمية.كان لهؤلاء الدور الكبير في المجتمعات التقليدية والبسيطة في تأثيراتهم الاجتماعية والسياسية على افراد المجتمع ،بل كانوا الطبقة المتعلمة والمتنفذة الى جانب قصور الامبراطوريات والدول واصحاب السلطة بانواعها البسيطة والمعقدة .وبمرور الزمن تقلص نفوذهم ودورهم امام التقدم الفكري والنهضة المعرفية في عموم العالم، وبالاخص بعد ان توفرت الفرص لابناء كل الطبقات الاجتماعية لكي يتلقوا تعليمهم واكتسابهم مختلف انواع المعرفة التي بواسطتها تمكنوا من تجاوز معارف رجال الدين والتفوق عليهم.

ولكن لايزال العديد من افراد المجتمع البسطاء وبالذات في المجتمعات النامية التقليدية ينظرون الى رجل الدين بنفس المعاييرالسابقة ،وعليه يكون تأثيرهم اي رجال الدين على مجتمعاتهم اكثر مما هو في البلدان المتقدمة .ومن جهة اخرى بدأت المؤسسة الدينية بتطوير الراغبين من الدخول في هذا المسلك باعدادهم فكريا بمختلف انواع المعرفة الى جانب الاعداد اللاهوتي،مثل الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس وغيرها من العلوم الاجتماعية التي تكسبهم خبرة للتغيرات الاجتماعية في المجتمع البشري وقد لاحظت مثل هذا التنوع في المناهج الاكاديميةاثناء تدريسي في اكليريكية السريان الارثودكس في الثمانينات من القرن الماضي.

بعد هذه المقدمة عن المؤسسة الدينية بصورة عامة ساتناول تلك المؤسسة الدينية التي تهمني هي المؤسسة الدينية الكلدانية الكاثوليكية لانتمائي اليها مؤمنا بما تمليها من عقائد ثيولوجية لانني عشت ونشأت منذالصغر ومحاط بها ومحتك فيما بعد بكهنتها واساقفتها وحرصا على ديمومتها ورفع شأنها لابد من خدمة هذه المؤسسة ولكن باسلوب علمي معتمد على الاسس المنهجية في التحليل للمؤسسات الاجتماعية والمؤسسة الدينية واحدة منها ،والذي يهمني هو تحليل سلوكيات ومواقف من يتولى ادارتها وليس العقيدة التي تتبناها،أو تاريخها لان ذلك ليس من اختصاصي .

ليست هذه المحاولة  التحليلية هي مجرد معلومات سمعتها من هذا وذاك التي تقال في المجالس الاجتماعية للمؤمنين اليومية لكي يعبروا عن تذمرهم وعدم رضاهم من سلوك الكاهن او الاسقف ،بل هي رؤية تحليلية لمواقف وسلوكيات وانشطة وكتابات وتصريحات رجال الدين لمدة تصل الى 30 سنة من متابعة مبرمجة .

لايوجد اختلاف بين رجل الدين وغيره من العلمانيين لانه كائن بشري له دوافعه  الموروثة ،ولايعني دخوله الى السلك الكهنوتي تغيرت تلك الدوافع واصبحت مثالية لتميزه عن غيره،بل تبقى تلك الموروثات والتنشئة الاجتماعية التي يتلقاها من اسرته منذ صغره جلية في تصرفاته وذلك اعتمادا عى تحليل بسيط في شكله و لكن عميق في مضمونه وهو:كل من يدخل الى السلك الكهنوتي يخضع الى جملة من التأثيرات الدينية التي تعد عاملا اومتغيرا مستقلا وسلوكه هو المتغير المعتمد ،فلو استبعدنا متغير الدوافع والتنشئة الاجتماعية عن المعادلة هذه تكون النتيجة:كل رجال الدين من نمط سلوكي واحد،ولكن هذه النتيجة لم ولن تحصل ابدا وفقا لمبدأ الفروق الفردية .

من متابعتي لمواقف وسلوكيات رجال الدين في مؤسستنا الدينية (وهنا اقصد برجل الدين كافة المراتب الاكليروس من الكهنة والاساقفة والبطاركة)شخصت بعض المظاهر التي تكاد ان تكون عامة في كل المؤسسات الدينية وبدرجات متباينة ولكن كما قلت  لايهمني الا مؤسستي الدينية ،والنتائج التي توصلت اليها لايمكن تعميمها على كافة رجال الدين بل المسألة نسبية وليست مطلقة :

اولا : النقص المعرفي لدى اغلب رجال الدين مما ادى الى التلكؤ في مواصلة التغيرات الفكرية والاخص منهم الجيل الاول           ويرجع السبب في ذلك الى طبيعة المناهج الدراسية التي خضعوا اليها اثناء اعدادهم للسلك الكهنوتي ،اذ من مراجعتي لمناهج بعض المعاهد وجدت ان المواد الدراسية تركز على المواضيع الدينية لدرجة الاهمال لحقول المعرفة الاخرى التي تهمهم في حياتهم الكهنوتية العملية مثل علم النفس والاجتماع والاننثروبولوجية والادارة والقانون والتاريخ والاديان المقارن تلك الحقول المعرفية التي تزودهم بمعلومات علمية في مجالات متعددة تخص البشرية.

وقد شخصت بعض المشكلات الاجتماعية لبعض الافراد قد راجعوا رجال الدين لحلها ولكن النتيجة كانت تفاقم المشكلة اكثر وقد مرت لدي حالات متعددة من هذا النمط،، وفي اصغائي لمحاضرات ومواعظ  بعض رجال الدين لاحظت انها تحتوي على اخطاء جسيمةعند تحدثهم عن مواضيع تربوية واجتماعية لان غالبا ما يكون تحليلهم للظاهرة من منطلق البعد الواحد وهذا غير مقبول في فلسفة العلوم الاجتماعية والتربوية .فلو كان ملما رجل الدين بالمجالات المتعددة لحقول المعرفة ليوجه صاحب المشكلة الى المختصين لا ان يزيدها تفاقما .وقد ترجع هذه الظاهرة الى نظرة رجال الدين لانفسهم ونظرة العديد من الافراد على ان الكاهن هو الادرى وان ما ينطق به هو الاصح وهذه متراكمة في ذهن رجال الدين والافراد تاريخيا منذ ان كان الكاهن الاكثر معرفة في مجتمعه المحلي،ولكن يجهل بانه يعيش حاليا في مجتمع وفر الفرص التعليمية للجميع واصبح هو متخلفا نسبة الى العديد من افراد المجتمع .

وفي حديث جرى مع احد الاساقفة من كبار السن قبل سنوات حول موضوع ما وتحديدا حول مريم العذراء فقلت له في سياق الحديث ان مريم العذراء مذكورة في القرآن عشرات المرات ،فتفاجىء المطران وقال:ولما تذكر مريم العذراء في القرآن وما المناسبة؟ ،وقلت سيدنا هل قرأت القرآن ،فاجابني لا لماذا اقراه .فقلت فكيف اذا تعرف عن مايحتويه وغيره من الكتب، والامثلة من هذا النمط متعددة لامجال لذكرها .

ثانيا:عدم وعي معظم رجال الدين في الكنيسة الكلدانية للمفهوم القومي .

ترتبط هذه الظاهرة بالمسألة اولا اعلاه، ويرجع السبب الى عدم وجود مادة التاريخ والدراسات الاجتماعية في المعاهد الدينية التابعة للبطريركية الكلدانية ،وعدم الاكتراث بما يكتبونه الكتاب العلمانيين حول الموضوع بسبب عقدة الشطارة،اي عقدة (التفوق على غيرهم) التي يعانون منها.وعليه ان مسألة توحيد التوجه نحو هذه الظاهرة امر ضروري وملح في الفترة الراهنة لكي يظل الترابط بين الكنيسة والشعب اكثرتجاذبا وتنسيقا.وبالرغم من تأكيدات بعض الاساقفة والكهنة وفي مقدمتهم المطران( سرهد جمو) في كتاباتهم ودراساتهم ،الا ان الاغلبية لا يشعرون باهمية هذا الموضوع وعلى الاقل في ظل الاوضاع السائدة في عراق الطوائف والقوميات .صحيح قد يعترض البعض ويقول هذا ليس من واجب رجل الدين واختصاصه ،ولكن مثلما ينتمي رجل الدين الى طائفة دينية معينة فهو ينتمي الى مجموعة بشرية لها لغتها وتاريخها وتراثها الاجتماعي .ولم تكن عملية الحد من تلاوة الصلوات والقداديس في الكنيسة الرومانية باللغة اللاتينية الا شعورا من الفاتيكان باهمية تبديلها باللغات القومية المحلية التي تجعل من الانسان اكثر انسجاما وارتباطا بالمؤسسة الدينية .اذ ان اللغة ومايترتب عنها من انتماء قومي حالة طبيعية يعتزبها الفرد مهما توصل الى رقي حضاري انساني فهي ظاهرة تلازم الفرد مثلما تلازمه ظاهرة الدين .

ثالثا: تأثرهم بالنزعة الجغرافية:

والمقصود هنا بالنزعة الجغرافية ميل رجل الدين الى اختيار مواقفه نحو الظواهر المختلفة اعتمادا على انتمائه المناطقي ،قريته اوبلدته اومدينته .وقد اصبحت جلية للشعب ان العلاقات القائمة بين رجال الدين مبنية على اساس هذا الانتماء لدرجة اصبحت هذه النزعة تؤثر في عملية اتخاذ القرارت في المجمع السينودسي الذي يعقد بين فترة واخرى ،لابل قسمت اساقفتنا في الفترة الاخيرة الى قسمين مطارنة الشمال ومطارنة السهل.وقد بات واضحا امام الجميع ان النزعة الجغرافية تؤثر في عملية اختيار وترشيح الكهنة لرتبة المطران وبالاخص للابرشيات الخارجية .مما تسبب هذه الحالة في اختيار كهنة غير مؤهلين لرتبة المطران وفي المقابل يتراوح الكاهن المؤهل في مكانه.ويظهر ايضا ان عدم محاسبة الكهنة على بعض التصرفات التي لاتليق بمكانتهم تعتمد على هذا المبدأ غير العادل .

رابعا: دافع التملك المفرط عند البعض:

ان غريزة التملك حالة طبيعية عند البشر، ولكن تتباين بين الافراد من تطرف سالب الى تطرف موجب والمتوسط المعتدل يحتل مسافة بين القطبين السالب والموجب ، وبما ان رجل الدين كائن اجتماعي له دوافعه الطبيعية، وعليه لابد ان يتكون عنده دافع التملك معتمدا على الاستعداد الوراثي او التنشئة الاجتماعية التي اكتسبها من اسرته قبل الالتحاق بالسلك الكهنوتي.وعليه ياترى هل يستطيع رجل الدين الذي له دافع التملك الجامح من كبحه؟بالطبع لا وهذا مانلاحظه عند بعض من رجال الدين .وقد تكون الرغبة عنده لجمع المال مبررا لضمان مستقبله اثناء الشيخوخة وتقاعده .نعم الحق معه لكن لويتمكن من الاعتدال في دافعه هذا سيكون الافضل .ويكون الحق مع رجل الدين في جمع المال لوكان مسؤولا عن عائلة لكي يضمن لهم حياة اجتماعية سليمة .واذا افرط رجل الدين في حبه للمال سيكون عاملا للتركيز عليه بدلا من اداء رسالته اي سينشغل بادارة المال ويعطي له الاولوية في اجندته (فحيث يكون كنزك،هناك ايضا يكون قلبك)انجيل متى اصحاح16 :21 .

يعد موقف رجل الدين من المال عاملا مثيرا لتحديد موقف العلمانيين منه، فالكاهن الذي يكتفي بكفافنا يومنا يكون كبيرا في نظر المؤمنين وقدوة لهم ومثار اعجاب، وفعلا تركوا بعضهم انطباعا مثيرا للاعجاب كما فعل البطريرك (بولس شيخو) الذي توفي ولم يترك مالا ،وكل من يعرف القس( اوغسطين صادق) من أهالي دهوك ٍفهو على علم انه توفي ولم يترك فلسا في جعبته. وهو الذي رد على الدولة عندما منحته سيارة خاصة وقال لااريدها لي،بل لتكن سيارة لنقل تلاميذ التعليم المسيحي وهذا ما حدث فعلا،وتوفي الخوري( هرمزالصنا) من أهالي القوش وينفق أخوه (شمعون ) على  أدويته ورعايته الصحية ابان الحصار الاقتصادي في الموصل .وهناك فرق كبير بين منزلة هؤلاء في عيون الناس والذين يتركون اموالا وتصبح علة لصراع الاخوة.ولعله اخطر واكثر اثارة لمشاعر المؤمنين هي الظاهرة التي برزت مؤخرا لتمجيد مؤسس المجلس الشعبي على حساب قضايا الامة الكلدانية وذلك للسخاء اللامحدود الذي كرم بعض رجال الدين من قبله عربونا لتأييده المجلس سواء كان على خطأ في طروحاته اوصحيح. وكم بالاحرى ستكون منزلة رجل الدين الذي يوقف امواله لتصرف على الفقراء والكنيسة،بالطبع سيكبر عند العامة ويكون مثلا للقداسة .

خامسا :سوء الادارة في مؤسستنا الدينية :

ترجع اسباب التلكؤ الاداري الى عوامل اساسية اهمها :

1-:  سيطرة النزعة الفردية عند اغلب رجال الدين اذ يميل اغلبهم الى المفاهيم الدكتاتورية في تعاملهم مع افراد المؤسسة الدينية الاخرين والمعروفين (العلمانيين)وهذه النزعة متأصلة في النظام العقلي لهم بسبب التعاليم الدينية التي تؤكد على انهم وكلاء المسيح على الارض ،ومما هوجدير بالذكر ووفقا للدراسات الانثروبولوجية ان رجال الدين في كل الاديان لهم هذا التصور فالكل هم وكلاء الخالق بدأ من الوثنية القديمة وحتى المجتمعات الطوطمية المنتشرة حاليا في العالم والى الديانات السماوية .وان كانت هذه الوكالة اومبدأ التفويض الالهي يشمل كل تفاصيل الحياة في الاديان غير المسيحية ،انما اعتقد في المسيحية تشمل على تأدية الاسرار الكنسية المعروفة بحيث لايستطيع أحد من العلمانيين تأديتها، وان شؤون الحياة العامة الاخرى لايمكنهم البت فيها وتترك لاهل الاختصاص.ويبدو من ملاحظاتنا ان رجل الدين يعتبرالكنيسة ملكا له متجاهلا ان تلك الكنيسة بنيت بسواعد افراد المؤسسة الدينية ،فهو الذي يقرر بيعها ،ويقرر تأثيثها والى ابعد من ذلك اذا تتطلب الامر نقله الى كنيسة أخرى يمانع بحجة انه الذي أسس الكنيسة ولايمكن تسليمها لغيره.-الامثلة على هذه التصرفات والمواقف عديدة ولكن لاحاجة لذكرها فهي معروفة للكل- .وتسسب هذه النزعة الفردية التحكم الفردي في أموال الكنيسة تلك الاموال التي هي التبرعات المختلفة لافراد المؤسسة الدينية.وان أغلبهم على جهالة بالاسس العلمية والادارية والفنية المهنية في الشؤون المالية التي تتطلب هذه الايام دراية ودقة في التصرف كنفقات وايرادات .وان حجب التفاصيل المالية عن الافراد ماهي الا ظاهرة سوء التصرف وانبهار النزعة الفردية له ،تلك الظاهرة التي تفقد الثقة برجل الدين واساءة العلاقة بينهم.ومما يذكر وجود مجالس الابرشيات او الخورنات لكن الاغلبية منها عديمة المسوؤلية ولايمكنها ان يبدي اعضاؤها الرأي ،بل انها شكلية ومسيرة وفق رغبات رجال الدين .

2-: فقدان السلطة المركزية .تمتاز المؤسسة الدينية الكلدانية الكاثوليكية ضعفا في الاداء الاداري بسسب عدم وجود قدرة اوسلطة مركزية من الرئاسة البطريركية وهي تبدو كما وصفها المطران (لويس ساكو )في مقابلة معه مؤخرا من قبل موقع كلدان اوربا انها(حارة كل من ايدو الو)فعلا تعاني مؤسستنا هذه الايام بفقدان المركزية والضبط العملي والاداري، ومن مظاهر هذا الضعف :

التسيب من قبل الكهنة في التسرب من ابرشية الى اخرى دون الاستئذان من المافوق ،كثيرا ما يسافر الكاهن الى خارج العراق لقضاء اجازته او لزيارة اقربائه والا يفاجيء الجميع بعدم رجوعه وتصميمه على البقاء في ابرشية اخرى .ومن المظاهر الاخرى اصدار الاساقفة تعليمات ادارية او مالية لتنظيم ابرشياتهم باستقلالية دون الرجوع الى الرئاسة البطريركية وكانما كل ابرشية هي امبراطورية مستقلة لايربطها مع غيرها شيء سوى العقيدة.

(كنت جالسا في احد الايام مع كاهن صديق وكان يتحدث تلفونيا مع رئيس ابرشيته حول موضوع حصول الموافقة لرسامة احد شمامسته لتبة الشماس الانجيلي فرد المطران بعدم الموافقة فذكره الكاهن باقدام المطران الفلاني لرسامة شمامسة انجيليين ،وردعليه هو يرسم ولكن انا لا).وفي اثناء زيارتي لاحد الاساقفة في مكتبه رايته منفعلا ومرتبكا جدا ،سألته عن السبب،واجابني “الا رأيته وهو نازل القس الفلاني ،وقلت نعم ومابه واجابني :يقول لي اذا لم تسمح  بنقلي الى بغداد سأترك العمل الكهنوتي واعطيك ملابسي ،وفعلا بدأ ذلك الكاهن عمله في احدى كنائس بغداد ولم نعرف باية طريقة  !!!

ومن المظاهر الاخرى ،عدم وجود تنسيق في تنظيم شوؤن الخورنات اذ لكل منها قواعد خاصة مكتوبة اوغير مكتوبة تختلف عن غيرها ،وبعض الاساقفة او الكهنة لايعترفون بتشكيل لجان اومجالس لادارة شوؤن الابرشية او الخورنة،بل ما يقرره الكاهن او الاسقف هو الفيصل في القضايا المختلفة.وكثيرا ما نرى الاختلافات في المسائل الطقسية ،فهناك اختلاف في فقرات القداس ،في اتمام سر الزواج ومراسيم الاسرار الكنسية الاخرى وما شابه ذلك.

وقد ادى هذا الضعف الى بروز ظاهرة اتخاذ القرار الفردي لرجل الدين كاهنا او اسقفا في تحديد موقفه من الانشطة السياسية وتكوين العلاقة مع المؤسسات المجتمعية الاخرى والفردية ايضا في التصريحات الصحفية الاعلامية بحيث قد يحدث احيانا التناقض في تصريحاتهم نحو الظواهر العامة في المجتمع ،ومن الامثلة على ذلك الاختلاف في المواقف الفردية بينهم تجاه المفاهيم القومية فمنهم من يؤكد على المفهوم القومي الكلداني وبعض الاخر يتخذ موقف اللامبالات واخرين يرفضون ويهملون التأكيد على ذلك ومنهم محايدين تجاه القضية .ومن المظاهر المهمة عن هذا الموضوع هو انقسامهم الى مؤيد ورافض ومحايد تجاه التسمية المركبة التي فرضت على شعبنا الكلداني والسرياني والاشوري، اذ نرىبعضهم ينقادون وراء المجلس الشعبي الكلداني والسرياني والاشوري غير مكترثين للاثار التي تركها هذا المجلس على عموم الكلدان .

3-:عدم وجود المركزية في تنظيم اموال المؤسسة الدينية :

تعاني المؤسسة الدينية الكلدانية الكاثوليكية من سوء التنظيم والتنسيق  المالي ،اذ يلاحظ ان اموال الخورنة والابرشية تنظم كأنما هي دولة مستقلة عن الرئاسة البطريركية والابرشيات الاخرى ،فهناك ابرشيات غنية جدا كابرشية مار توما في ولاية مشيكان الامريكية التي باستطاعتها تمويل العديد من الابرشيات الاخرى المحتاجة وكذلك ابرشية عينكاوة، وهناك ابرشيات تضم خورنات غنية واخرى فقيرة .وعلى هذا الاختلا ف في الامكانات المالية يمكن التنسيق بين الكنائس والابرشيات في خلق موازنة مالية بحيث تتمكن جميعها من تلبية متطلباتها ،اليست الكنيسة جامعة رسولية واحدة ؟فما هو المانع من مساعدة الكنائس بعضها طالما هناك فائض مالي في ميزانياتها؟

4-:تدخل الفاتيكان في اختيار الاساقفة والبطاركة :

من ملاحظتنا للوضع الحالي في اختيار الاساقفة والبطاركة يتبين انه لايتم ذلك الا بموافقة الفاتيكان الامر الذي يؤدي الى تأخر اختيار الاساقفة وبقاء الابرشيات معلقة بدون اسقف لمدة طويلة ، وهذه حالة غير طبيعية لسببين اولهما ان الفاتيكان غير ملمة بالسيرة الذاتية الواقعية والموضوعية والخصائص الشخصية للكهنة المرشحين لدرجة الاسقف، وقد تبين ذلك بمرور الزمن لاختيار كهنة غير مؤهلين لادارة الابرشيات اوتم اختيار اساقفة غير مؤهلين للمنصب البطريركي،وثانهما ان الترشيح للدرجتين يتأثر بالعلاقات القائمة بين الكهنة من جهة والاساقفة من جهة اخرى سوى بسبب المحك الجغرافي او لمصالح شخصية بينهم ولعل الانقسام المعروف والمشهور بين الاساقفة في الاجتماع الذي عقد بعد وفاة البطريرك بيداويذ لاختيارخليفته هو خير دليل على ما نقول . ان تدخل الفاتيكان لحل المشاكل الادارية في الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية مؤشر واضح على سوء وضعف الادارة والقوانين فيها ،والا لماذا لم تحسم مسألة الانتخابات او الموافقة على انتخاب الكاهن للاسقفية دون الرجوع الى الفاتيكان اذ ان اهل البيت ادرى بامورهم من غيرهم؟وان كان هذا اتفاق بين الكنيستين ،فماهو المبرر اليس الكلدان قادرون على تنظيم كنيستهم ام هي عقدة الغرب المتفوق قد سيطرت على عقول المدبرين لكنيستنا ايضا ؟

5- التقدم بالعمر وعلاقته بالادارة :

تشير الدراسات بوجود علاقة بين التقدم بالعمر عند الانسان وفقدان الذاكرة القصيرة التي هي القدرة على استيعاب المعلومات وارجاعها .ويجب هنا ان نميز بين فقدان الذاكرة لاحداث الماضي والذاكرة القصيرة ،فالاولى هي مرض يصاب الانسان به لاسباب نفسية وعضوية وليس للعمر علاقة فيه اذ يتعرض اليها الانسان في مختلف المراحل العمرية بينما فقدان الذاكرة القصيرة مرتبطة بالعمر.اذ تؤدي حالة التقدم بالعمر الى اضطراب التفكير والحكم على الامور مما تعكس على طرق الاتصال الاجتماعي .ولما كانت قيادة المؤسسة الدينية مسؤولية كبيرة وعليه يجب ان يمتاز رجل الدين القائد بسلامة التفكير واعتداله لكي يتحسس كل الامور برؤية واضحة وعادلة لكي لايسبب الغبن والظلم الذي ينافي التعاليم الدينية.

القائد الاداري بحاجة الى سلامة التفكير والذاكرة لكي يتمكن من التواصل مع الاحداث المتوقعة ،ولكي يتعامل مع الاخرين بوعي وثبات في الموقف وعدم التقلب بين اونة واخرى في افكاره اذ ذلك يسبب ارباكا للعملية الادارية لان القرارات التي يصدرها لم تكن مبنية على اسس تفكيرية سليمة .ومن جهة اخرى فان الاضطراب في تفكير الاداري الديني يسبب ايضا فقدان المؤسسة الدينية لهيبتها ومقامها بالنسبة الى المؤسسات الاخرى.  ومن هذا المنطلق فان مؤسستنا الدينية بحاجة الى مراجعة الذات بالنسبة الى هذا الموضوع لاهميته القصوى لخلق وادامة ادارة ناجحة تحقق الاهداف المرجوة.

خلاصة القول ،تشير الدلائل الى ان المؤسسة الدينية الكلدانية بحاجة ماسة لدراسة ومراجعة الذات لكي تتمكن من تشخيص المعوقات والاخطاء التي تعيق مسيرتها لتحقيق رسالتها السامية .وان الاعتراف بالاخطاء دليل على التواضع والصدق مع النفس والثقة بالنفس وتذليل الكبرياء .اذ انها بحاجة الى الاعتراف بان الكنيسة لا تشمل رجال الدين فحسب بل كل المؤمنين لكي يؤدي كل واحد دوره بحسب مواهبه وقدراته الذاتية .وهي بحاجة الى الغاء الفلسفة القديمة التي تقلص من دور العلمانيين وتنتقل الى مقتدرات التفكير الموضوعي في التعامل مع الاحداث وتفعيل الادوار والانشطة التي تحقق الوظيفة الدينية .وهي بحاجة الى امحاء فكرة الاستبدادية في اتخاذ القرار واللجوء الى تبني المفاهيم الديمقراطية المعاصرة لكي تستطيع ان تواكب الفكر المعاصر .وهي بحاجة الى وضع اسس موضوعية في العلاقات القائمة بين الاكليروس والابتعاد عن الاسس الذاتية في التعامل مع الاخرين.و اعضاء الاكليروس ايضا بحاجة الى التخلي عن المناطقية والقرابية والمصالح الذاتية في مواقفهم تجاه بعضهم عن البعض .

واتمنى اخيرا ان لاتفهم هذه المؤشرات على انها موجهة لشخص معين في مؤسستنا الدينية ،انما هي محاولة منهجية لدراسة واقعها .حيث ان تقدم البلدان والمؤسسات بانواعها وتطويرالبرامج في كل الميادين مقترن بالدراسات وتشخيص السلبيات لكي يتم تجاوزها لتحقيق الرسالة الهادفة.

الدكتور عبدالله مرقس رابي

بروفيسور في علم الاجتماع

You may also like...