سيدة بابل الأولى واحتفالات أكيتو الأزلية

 تيامات، السيدة التي أنجبت آلهة بابل العظام، تبدأ قصة الخلق من العدم وتؤسس لأعياد أكيتو بأشلاء جسدها منذ فجر التاريخ المدون. إنها القصة الأسطورية التي رواها البابليون الأوائل، قصة خلق السماوات وأجرامها والأرض وما عليها، إنها قصة تيامات، المرأة الحديدية الأولى في التاريخ، آلهة المياه المالحة التي اتخذت هيئة تنين كاسر، كما أنها قصة بعلها “أبسو”، إله المياه العذبة، الذي كان يشكوها صخب ذريتهم من الآلهة والآلهات، صخب الصبايا والشباب والجلبة التي يحدثوها ليلا مما كان يؤرق نومه.

 

 يروى أن “تيامات” كانت أم رؤوم في ريعان شبابها وحتى بعد وفاة زوجها “أبسو” الذي تآمر مع مدير اعماله لقطع أنفاس ذريته بسبب ضجيجهم. ولكن “تيامات” وقفت لهما بالمرصاد كي لا ينفذا ما سعيا إليه من إبادة، بيد أن الدسيسة شاعت فوصلت أسماع الآلهة الصغار الذين آثروا التصدي بحزم لهذه المؤامرة الدنيئة. لذلك قرر”أنكي”، أحد أولادهم، إله السحر والمياه العذبة والفنون وجميع الحرف، أن يتخلص منهما. سقاهما منوما ثم قضي عليهما، فانقلب السحر على الساحر. وإن كان منقذا لأخوته وأخواته، فقد ندم “أنكي” ندما شديدا على فعلته الشنيعة وحزن حزنا عظيما دفعه للرحيل عن ديار أبيه إلى أهوار “أريدو” التي بنى فيها معبدا تخليدا لوالده. رافقته في رحلته إلى الأهوار زوجته “دمكينا” التي أحبها ورزقت منه الآله العجب جمالا وقوة وحكمة، الإله الأسطورة “مردوخ” الذي باركته جميع الآلهة.

 

وبمرور الأيام على نحر زوجها فقدت “تيامات” نضارتها وشرعت في التفكير بالانتقام له من ذريتها. أعدت العدة من أعتى مصادر الشر، وحوش أسطورية كاسرة مؤلفة من أنواع التنين والأفاعي والعقارب والثيران الوحشية التي وضعتها بإمرة المهيب “قينكو” الذي سلمته فرمان الأقدار لتسهيل مهمة تنفيذ هجومه الكاسح. ولم يكن هنالك من خيار أفضل في المجابهة سوى “مردوخ” الشاب الإله الذي اختارته الآلهة، الشاب الذي فطر على الشجاعة، وإن لم يدخل معتركا حقيقيا، ولكنه حفيد “تيامات” قبل كل شىء، فقد اتسم بجرأة لم تعهدها الآلهة الشباب. حاول “قينكو” مراوغة “مردوخ” والالتفاف عليه ففشل. ثم استخدمت “تيامات” سحرها للانقضاض عليه وباءت بالفشل. لم ترهبه خلقتها “التنينية” فطلب منها منازلته فرديا. رضخت وابتهجت لهذا العرض. استخدمت فنون سحرها للنيل من “مردوخ”، ولكنه تمكن من ردها بزوبعة من رياح عاتية حاولت امتصاصها دون جدوى. وهنت، فانقض عليها ليمزق قلبها ويهشم جمجمتها. إنتهى الصراع الدموي بفوز “مردوخ” جاعلا من أشلاء جدته “التنين” الكاسرالذي سقط من عليائه رموزا لأكيتو الخير. لقد أضحت عيون “تيامات” منابع دجلة والفرات، ونصف جسمها قبة للسماء، والنصف الآخر سمادا لأرض معطاء في بابل العظيمة التي أعادت للعالم العلوي والسفلي توازنه وبهجته. وهكذا حلت النعمة والبركة على شعب استطاع قهر القوة “الديكتاتورية” الغاشمة المتمثلة بالمرأة الحديدية، سيدة بابل الأولى، “تيامات” بفضل القرار “الجماعي” في اختيار “مردوخ” بطلا لأمة برعت في تدوين أساطيرها شعرا ونثرا، ودأبت على تلاوة ملحمة النصر المؤزر والخلق على رعاياها في احتفالات ما درج على تسميته بـ “أكيتو”، رأس السنة البابلية الذي نسخته شعوب المعمورة بتصرف (حتى القرن السادس عشر الميلادي) ونسبته إليها، مع شديد الأسف، ومنه “نوروز” الفارسي.

 

الأردن في 30/3/2010

 

You may also like...