روسيا هيأت مستلزمات انهيار نظام القطب الواحد في العلاقات الدولية 12

في العلاقات الدولية

النجاحات التي حققتها الدبلوماسية الروسية خلال السنوات الاخيرة تعد نتيجة للمتغيرات والتوجهات الجديدة في سياستها الخارجية ومؤشر على صحتها وأهميتها . لا سيما وانها استندت على رفضها لهيمنة نظام القطب الواحد في العلاقات الدولية. فأكدت على نهج الانفتاح في السياسة الخارجية مع بلدان اوربا الغربية وبلدان العالم الاخرى وتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والسياسية معها . مما ساعد ذلك على فك العزلة الدولية عن روسيا التي عرف عنها من ضعف وتراجع بعد عام 1991  .التوجهات الجديدة للسياسة الخارجية الروسية اكدت ايضاَ على عدم موافقتها على الكثيرمن الاتفاقيات والمعاهدات التي وقعت في فترة ضعفها خلال حكم يلتسن . وجاءت هذه المتغيرات الجديدة في السياسة الخارجية لروسيا الاتحادية نتيجة للأستقرار السياسي و لأمتلاكها لمقومات القوة الداخلية التي مكنتها من ان تمتلك مستلزمات الدولة القطبية .

اهم النجاحات التي حققتها السياسة الخارجية لروسيا باتجاه عودة التعددية القطبية :

1- حرصت روسيا على تعزيز حضورها وترسيخ وجودها ومكانتها الاقليمية والعالمية , فقد توجهت الدبلوماسية الروسية إلى إقامة تحالفات دولية وإقليمية جديدة من خلال التوجة للدول المرشحة لكي تكون قوى عظمى على الساحة الدولية , مثل الصين والهند والبرازيل مع تعزيز تواجدها في أمريكا اللاتينية وكذلك في المنطقة العربية . وتطويرعلاقتها مع دول الأتحاد الأوربي وفي محيطها الاقليمي وعززت علاقاتها الأقتصادية والتجارية والسياسية مع هذه الأطراف جميعاَ . وساعدها هذا الانفتاح في السياسة الخارجية على حضورها الفاعل في الساحة الدولية ومكنها من مواجهة التفرد الامريكي .  

2- تمكنت روسيا من صياغة سياسة خارجية متقدمة مع الهند عبر توقيع إتفاقية استراتيجية في مجال التكنولوجيا المتطورة لا سيما النووية منها الأمر الذي أدى إلى تقارب واضح واستراتيجي بين البلدين , وقد حسنت روسيا علاقاتها وتعاونها مع الصين .

3- دعوتها لأقامة نظام دولي جديد قائم على التعددية القطبية , واتخذت خطوات عملية بهذا الاتجاه وذلك لخلق واقع جديد في العلاقات الدولية  , حيث تمكنت روسيا من تشكيل قطب واعد جديد في السياسة الدولية من أربعة بلدان كبرى , تمتلك هذه البلدان قوة إقتصادية ناهضة في العالم ستكون لها كلمتها في السياسة الدولية خلال السنين القادمة وعرف هذا القطب الواعد بتجمع بريك BRIC حيث يمثل الاحرف الأولى للبلدان وهي البرازيل وروسيا والهند والصين . واول قمة لرؤساء البلدان الاربعة عقدت في روسيا حسب ما نشرته بعض وكالات الانباء آنذاك وذلك في منتصف حزيران عام 2009 ومن الأهداف التي حددتها القمة هو ادخال اصلاح على النظامين الاقتصادي والنقدي العالمي .

4- لاحقاَ توسع هذا الاتفاق اوالتحالف وانضمت الية جنوب افريقيا واصبح مكون من خمسة دول  ويعرف باسم BRICS .وما يمييز هذه البلدان إنها دول كبيرة من حيث سعة المساحة وعدد السكان والناتج القومي وإرتفاع معدلات النمو السنوية , فهذه الدول ستكون جديرة بتكريس واقع جديد في النظام الدولي العالمي سيؤدي إلى كسر التفرد في صنع القرار الدولي وبوسائل غير عسكرية وسيكون هذا التجمع هو القوة الأقتصادية الأولى في العالم وسيلعب دوراَ مؤثراَ في السياسة الدولية والمشاركة في صنع القرار الدولي .

5- على اثر تحسن العلاقات بين روسيا والصين , تم اقامة اتفاق جديد بينهما وسمية باسم  ( معاهدة شنغهاي للتعاون) وذلك في العام 2001 بين روسيا والصين وانضمت الية أربع جمهوريات سوفياتية سابقة في آسيا الوسطى هي كازاخستان وأوزبكستان وطاجكستان وقيرغيزيا .(( وفي قمة شنغهاي للعام 2005 إتخذ قرار بطرد القواعد الأميركية من وسط آسيا , وكان العام 2005 قد شهد في شهر أغسطس  مناورات عسكرية مشتركة بين روسيا والصين الاولى في تأريخهما وكان حدثاَ مثيراَ للدهشة والأهتمام البالغ لأنه لم يسبق لهاتين الدولتين الكبيرتين أن أجريا أية نشاطات عسكرية مشتركة في الفترة السابقة بسبب العديد من الخلافات بينهما .))([1]) .

6- نجحت الدبلوماسية الروسية من اقامة تحالف او تفاهم مشترك بين الدول الثلاث وهي روسيا والهند والصين  . وهذا مما اثار مخاوف الولايات المتحدة الامريكية من تحولة الى  تحالف استراتيجي لا سيما وأن الدول الثلاث لديها موقف من النظام الدولي الجديد , الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وتدعو هذه الدول إلى عالم متعدد الأقطاب . ((ففي عام 2005 قد تحقق لقاء بين وزراء خارجية الدول الثلاث في موسكو  وقد أكد اللقاء على شحن التحالف الثلاثي بنبض جديد ليس موجهاَ ضد أحد وأن القاسم المشترك بينهما هو مواقفهما المتقاربة تجاة بنية النظام العالمي الجديد وتوسيع دور المجتمع الدولي وبشكل خاص محورية دور الأمم المتحدة في مواجهة تحديات العصر.))([2])  . ان هذا التحالف يعد حدثاَ بالغ الأهمية  في السياسة الدولية,وله تأثير سواء على الولايات المتحدة الأمريكية أو اليابان أرتباطاَ بالخلاف الروسي الياباني على جزر كوريل , من وجهة نظري في حالة توقيع معاهدة اتفاق استراتيجي بين الدول الثلاث سيكون لهذا التحالف او الاتفاق ثقل نوعي دولي في مواجهة التفرد الأمريكي . لا سيما ما يجمع الدول الثلاث هو تأييدهم لنظام عالمي متعدد الاقطاب  في السياسة الدولية . ورغم الخلافات بين الصين والهند على مناطق النفوذ في مناطق عدة ومنها الصراع حول التبت , ولكن يوجد بينهما مصالح ايضاَ وتعاون اقنصادي .

7- عملت روسيا على تعميق التوجه الاورو آسيوي في سياستها الخارجية في اطار محيطها الاقليمي والذي يتمثل في دول الاتحاد السوفياتي السابق دول الكومنولث المستقلة , والتي تعتبر روسيا هذه الدول تمثل خط دفاعها الاول, لا سيما وان روسيا تعمل بكل الطرق على ابقاء هذه الدول خارج حلف الناتو . كما أن هذه الدول أصبحت ساحة مفتوحة للمنافسة الدولية بحكم ما تملكة من موارد الطاقة . مما جعل هذه المنطقة ذات أهمية استراتيجية وروسيا بدأت في تهيئة إمكانياتها لهذه المنافسة الدولية وفي إملاء الفراغ وتعزيز روابطها مع دول الكومنولث المستقلة . وعقدت اتفاقيات اقتصادية وتجارية معها ومعاهدات استراتيجية ومن هذه المعاهدات هي معاهدة الامن الجماعي التي تربط روسيا مع بعض هذه الدول . وتعارض روسيا ايضاَ دخول دول البلطيق في حلف الناتو وهي لاتفيا وإستونيا وليتوانيا , هذا التوجه في سياستها الخارجية مكنها من تعزيز تواجدها في محيطها الاقليمي  .

الدبلوماسية الروسية انتقلت الى الهجوم والمواجهة المباشرة في عام 2007 :

شهدت المحافل الدولية ووسائل الاعلام والراي العام العالمي , تصعيداَ في لهجة الخطاب والهجوم الدبلوماسي من جانب روسيا في علاقاتها مع الولايات المتحدة,  من أجل ممارسةالضغوط عليها. بأتجاه  حملها على حل القضايا الخلافية بين الدولتين , واصبح عام 2007 نقطة تحول رئيسية في مسار العلاقات الامريكية الروسية ما بعد مرحلة الحرب الباردة وإنهيار الأتحاد السوفياتي , فقد شهد عام 2007 انتقال الصراع الى شكل مباشر واتخاذه ابعاد عملية على الارض ارتباطاَ بقرب نصب الدرع الصاروخي في بولونيا ونصب شبكة الرادار في جمهورية التشيك . ان روسيا تدرك تماماَ ان هكذا تصعيد خطير لا يمكن ايقافة من خلال التصريحات الكلامية الاعلامية وانما من خلال الرد العملي الملوس على الارض فأتخذ الرد الروسي العملي اشكال عدة ومنها :

1- ظهر خطاب جديد لروسيا ذات محتوى هجومي مباشر على الصعيد البلوماسي  , الهجوم الدبلوماسي الروسي المباشر بدأه الرئيس الروسي الاسبق بوتين . (( ففي الخطاب الذي ألقاه أمام مؤتمر الأمن الذي عقد في ميونخ في فبراير 2007 شن هجوماَ حاداَ على السياسة الأمريكية وإتهمها بجر العالم إلى مزيد من الفوضى وعدم الأستقرار, وحملها المسؤولية عن تفجير الأزمات الأقليمية وأكد أن سياسة القطب الواحد أثبتت عجزها وفشلها وخطرها على العالم ))([3] ).

2- في نفس العام 2007 أجرت دول معاهدة شنغهاي مناورات عسكرية ضخمة الاولى من نوعها اقيمت المناورات على الاراضي الروسية (( المناورات العسكرية بدأت في مطلع صيف عام 2007 وطلبت الولايات المتحدة حضورها كمراقب ورفض طلبها بينما حضرها مراقبون من الهند وإيران .))([4]) . المناورات قد اثارت قلق ومخاوف الولايات المتحدة الامريكية .  و بلا شك ان الولايات المتحدة الامريكية تخشى من ان تتحول معاهدة شنغهاي الى اتفاق او حلف أمني- عسكري قد يكون موازي لحلف شمال الأطلسي . رغم أن الصين لن تقف في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية عسكرياَ , وانها متوجهه نحوسياسة الصعود الأقتصادي , لكن امريكا تدرك تماماَ ان التطور العسكري والتكنولوجي لأي بلد اساسه هو التطور الاقتصادي .

3-وشهد نفس العام 2007 اتخاذ روسيا مجموعة من الأجراءات العملية .(( فقد قررت القيادة الروسية بتأريخ 17-8-2007 السماح للطيران الأستراتيجي الروسي من نوع (تو160) معاودة نشاطة والقيام بدوريات خارج الأجواء الروسية بعد فترة توقف دامت خمسة عشر عاماَ حتى أن طائرتان روسيتان قد أقتربتا ليلة 25-12-2007 من الأجواء الدانماركية بشكل غير مسبوق . ثم اقدمت موسكو على خطوة عملية اخرى إبتداءَ من 13-12-2007 من جانب واحد على تعليق العمل بمعاهدة الأسلحة التقليدية في أوربا بينها وبين الناتووقد صرح الرئيس الروسي بوتين أن المعاهدة فقدت مغزاها بعد إختفاء حلف وارسو))([5] ) . ان هذه الأجرائات لها دلالات  وابعاد استراتيجية ليس فقط لممارسة الضغوط على الولايات المتحدة لوقف مشروعها نصب الدرع الصاروخي , وانما تؤكد على الدور الروسي الاستراتيجي المستقبلي في الساحة الدولية في اعادة التوازن في العلاقات الدولية .

4- التحدي القائم بين الولايات المتحدة الامريكية وروسيا حول نصب الدرع الصاروخي يوحي بوجود خطط للمواجهة ولبسط النفوذ من خلال انتصار احد الطرفين في هذا الصراع. لهذا يعتبر نصب الدرع الصاروخي من أعقد المشاكل بين الدولتين لانه انتقل الى خطوات عملية نحو الفعل  على الارض .

5- رغم ان مسألة نصب الدرع الصاروخي قد أوجل التفاوض حولها خلال زيارة الرئيس الامريكي اوباما الى موسكو في 6-7-2009 . وهذا جاء نتيجة الأجراء الروسي في اكتشاف صاروخ جديد  يخترق الدرع الصاروخي ,  لكن يلاحظ الراي العام العالمي ان مشكلة نصب الدرع الصاروخي عادة من جديد , وأدت الى زيادة التوتر في العلاقة بين البلدين , ورغم ما تشير اليه بعض التقارير من ان الولايات المتحدة تخطط لنشر الدرع الصاروخي على سفن تجوب البحار , ان صح ذلك فهذا يعني تحول الدرع الصاروخي من الثابت على الارض الى متحرك وهنا تزداد خطورته على روسيا . وسواء تم نصبه على الارض او حمله على سفن فأنه يبقى من أعقد القضايا وأخطرها في العلاقة بين الدولتين ولها أثر على سباق التسلح .

5-جاءالردالعسكري الروسي السريع على جورجيا في أوائل آب 2008 مفاجئاَ وأعطى مؤشراَ آخر أن روسيا الآن ليس هي عما كانت علية في عام 1991 . ((وتجلى الموقف الروسي القوي في رفض الوساطة التي تقدمت بها الولايات المتحدة لحل الاشكال بين الدولتين ,يذكر أن القوات الروسية عندما تدخلت لأعادة الوضع عما كان عليه في أوسيتا الجنوبية وجدت خبير أمريكي يقوم بتدريب وقيادة مجموعات من القوات الخاصة))([6] ) . الرد العسكري الروسي السريع والمفاجئ القوي أكد أن منطقة القوقاز منطقة استراتيجية ولروسيا مصالح حيويه فيها , وبهذا أجبرت روسيا كل القوى العالمية على الأعتراف لها بدورها في منطقة القوقاز,من هنا تأتي فاعلية الدور الروسي للمواجهه مع السياسة الأمريكية في مناطق محددة من العالم , ورغم ان هذا التصعيد الروسي الجديد من وجهة نظري لن يكون بالضرورة العودة إلى أجواء الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن , ولكنه صراع على مواقع النفوذ التي فقدتها روسيا بعد سقوط الأتحاد السوفياتي , كما انه صراع لاعادةالتوازن الدولي في قيادة النظام الدولي باتجاه التعددية القطبية . ان النجاحات التي حققتها روسيا في دبلوماسيتها وإنفتاحهاعلى دول العالم يؤشر أن لروسيا دوراَ مستقبلياَ صاعداَ كقطب رئيسي ولاعباَ أساسياَ ( أورو- آسيوي ) بعد ان هيأت كافة مقومات هذه القوة  الجديدة من تطورها الأقتصادي وإستقرارها السياسي مع تنامي قدراتها العسكرية وما تمتلكة من قدرات نووية وتقنية تكنولوجية وموارد طبيعية ومساحة واسعة وكثافة سكانية وكونها عضو دائم في مجلس الامن , هذا أهلها الآن لتكون دولة عظمى وأحد الاقطاب في الساحة الدولية الموازية للقطب الامريكي , والتي ستفرض واقع جديد في العلاقات الدولية لصالح التعددية القطبية .

(يتبع)

25-11-2011

You may also like...