ذكـرياتي في رحاب الكـنيـسة ــ الحـلقة الثامنة ــ محـطات مخـتـلفة

في تـلكـيف:

في سنة 1970 حـدثـتـني سـيّـدة تلكـيفـية عـن كاهـن ذكيّ ونشيط جـداً وبعـمر الشباب في تلكـيف ، وسَرني أن أخاطبه فـكـتـبْتُ رسالة وبعـثـتــُها إليه مع تلك السيدة ، فـردَّ بجـواب أعـجـبتُ به وعـلمتُ أنه كاهـن متحـمّس فعلاً ، فـقـرّرْتُ أن أزورَه يوماً . وفي شباط عام 1971 تطلـّـب مني السفـر إلى قـضاء الشيخان ( عـين سـفـني ) لتأشير وتـثبـيت موقـفي من الخـدمة العـسكـرية حـسب الأنظمة المتـّـبعة في حـينها ، فـمَرَرْتُ عـند الأب ﭘـولص خـمي راعي الكـنيسة هـناك فـطلب أن نحـدد يوماً لـنسجّـل قـدّاساً عـلى كاسيت . وفي يوم السبت 6/2/1971 ذهـبْتُ إلى تلكـيف ودخـلتُ الكـنيسة إلى حـيث مسكـن الأب المشار إليه في غـرفة الطابق الأعـلى ودار بـينـنا حـديث شيّـق ، وتطرقـتُ إلى مصيرنا بصورة عامة فـقال : إنـني أسـتمع كل يوم إلى خـطبة الجـمعة لإمام جامع تلكـيف وأسجّـلها عـلى شريط ( كاسيت ) ولا تـَـمُـرْ خـطبة إلاّ ويسيء إلى المسيحـيّـين وبصورة مباشرة ، ثم أضاف الأب الفاضل قائلاً : جـمعـتُ عـدة كاسيتات منها وأخـذتُها إلى محافـظ الموصل وعـرضـتـُها عـليه كإثبات لإدّعائي وطـلبتُ منه أن يسمح بلقائي مع الإمام المحـترم هـذا عـلى شاشة التلفـزيون وأمام جـميع الناس ونـتـناقـش سوية بالأمور الدينية بما لديه هـو وبما عـندي أنا ، وإذا إستطاع أن يقـنعـني بأنـني سائر في طريق الخـطأ فإني سألـبي طـلبه عـلى الملأ وأمام كـل الشعـب ، أما إذا أقـنعـتـُه بأنه هـو المخـطىء فـلن أطالبه بشيء سوى الكـف عـن الإساءة إلينا نحـن المسيحـيّـين . فـرَدّ المحافـظ قائلاً : ( إنكـما سوف تـتعاركان ) ! فـقال الأب للمحافـظ : نحـن كـبار ، كـيف نقـبل ذلك عـلى أنفـسنا ؟ وأخـيراً لم يقـبل المحافـظ بإقـتراح الأب ولم يعـمل عـلى إيقاف إساءة إمام الجامع إلى المسيحـيـين . ونظراً لأن الأب شهم ونشيط وجَـسور ، فـفي رأيي الشخـصي إنَّ أميركا أفـضل له حـيث أن بقاءه في العـراق وهـو بهـذا الحـماس يجـلب عـلى نفـسه المشاكـل وعـلى قـيادة الكـنيسة المتاعـب في الوقـت الذي لن يحـصل عـلى حـقـه الطبـيعي في مجـتمع لا يعـرف الحـق ، لا بل يعـرفه ولكـنه ــ المجـتمع ــ يتجاهـله بعـنجهـيّة ، إن الكاهن هـو الأب ميخائيل بزي / كاليفـورنيا .

في الشيخان ( عـين سـفـني ):

ومن تلكـيف سافـرتُ مباشرة إلى الشيخان ( عـين سفـني ) ووصلتُ عـند الأب ﭘـولص قـبل مغـيب الشمس ، وسهـرنا سوية بمعـية شماس أو مخـتار القـرية ( لستُ أتـذكـّـر بدقة ) إلى حـوالي العاشرة قـضيناها بترتيل الألحان ومقاطع من القـداس وإستـذكار بعـض من أيام خـدمته في ألقـوش حـين كان كاهـنا منسّـباً إليها . ولما صار وقـت النوم قادني إلى السرير فإذا به ثلاث بطانيات جـديدة من النوع العـراقي المشهـور – فـتاح ﭘاشا – وكـيس ماء حار ! قـلتُ : ما هـذا الكـيس ؟ قال : لتدفـئة رجـليك ، فـنمتُ نوماً هـنيئاً حـتى الصباح حـين نهـضنا وتوجّـهـنا إلى الكـنيسة ورتـّـب جـهاز التسجـيل . وسجّـل القـداس بكامله ومن بعـد ذلك رجـعـنا إلى البـيت وتـناولنا الفـطور وشيئاً من الفـواكه . وقـلتُ للأب ﭘـولص : لديّ فـكـرة ! : لماذا لا تستوفي الكـنيسة من والد كـل طفل عـند ولادته كـلفة جـميع خـدمات الكـنيسة التي سيؤديها الكهـنة له طيلة حـياته ! قال : لماذا ؟ قـلتُ : كي لا يحـمل هـموماً عـندما يكـبر ! فإبتسم ولم يعـلق ، وأخـيراً شكـرتـُه عـلى حُـسن الضيافة ثم إستأذنتُ للمغادرة فـحـضر بـينـنا رجل ألقـوشي هـو المرحـوم مَـمّو عـوديش ( مقـيم مؤقـت في الشيخان- مصلح كـهربائيات ) فأعـطاه شيئاً في يده وأوصاه أن يرافـقـني إلى الـﮔـراج . مشـيتُ مع السيد مـمّـو بإتجاه الـﮔـراج ، وعـلمتُ أنه رافـقـني كي يدفع أجـرة سـفـري من الشيخان إلى الموصل مِن محـفـظة الأب الفاضل ، عـلى إعـتبار أنـني طالب في مرحـلة الدراسة وليس لديّ واردٌ معاشي .

في مراكـز دينية أخـرى :

ورجـوعاً إلى بغـداد فـقـد أخـذني زميلي الجامعي ( نجـيب إيشوع ــ بَخـديدا ) ذات مرّة إلى إجـتماع الأخـوية في كـنيسة ( السريان الكاثوليك ) وإستمعْـتُ إلى وعـظ المرشـد الكاهـن فـلم تـُـشبع خـيالي ، وفي مناسبة ثانية أخـذني زميل آخـر إلى الـ ( Centre ) والذي هـو مركـز ثـقافي مسيحي بإدارة الآباء الدومنيكان وإستمعـنا إلى محاضرة الأب يوسف عـتـّـيشا حـتى حان وقـت الأسئلة فـبادره أحـد الطلبة قائلاً : أبونا ، هـناك سؤال يردده الشباب كـثيراً وهـو : إذا كان الله خالقاً لكـل شيء ، فـمَن الذي خـلق الله ؟ وهـنا إستـثار الأب يوسف وقال بعـصبـية مُلفـتة للنظر : هـذا سـؤال سخـيف جـداً كـيف يفـكـّر هـؤلاء السخـفاء ! … وأخـيراً تركه دون أنْ يُـجـيـب عـليه لأنه سؤال سخـيف في نظره .

الأخـوية والكهـنة في بـيندوايا :

كما أتذكـّر في إحـدى سفـراتي إلى ألقـوش صيفاً أن ذهـبتُ مع الشمامسة الشباب وأعـضاء الأخـوية يرافـقـنا الأباء (هـرمز صنا ، يوحـنان ﭽـولاغ ، ويوسف توماس) في سفـرة إلى بـيندوايا وكان نهاراً ممتعاً تجَـوّلـْـنا في بساتينها ثم مارسنا السباحة في الـ ( سكْـرا عْـلايا ) وإلتقـطـنا صوراً ، ومن ملاحـظاتي هـناك أن الأب هـرمز كان يلبس لباساً أسوداً أشبه بالـ ( Short ) وفانيلة بـيضاء نصف ردن ( T- Shirt ) ، والأب يوحـنان مثل الأب هـرمز ( اللباس الأسوَد ) ولكـن بدون فانيلة ، أما الأب يوسف ذو الجـسم الرياضيّ الرشيق فـكان أكـثر عـصرية فـلباسه كان ( ﭽـسْوه سـوداء فـقـط ) ولا زلـتُ أحـتـفـظ بصور إلـتـقـطـتها في تلك السفـرة .

إطـّلاعي عـلى كـنيسة السبتـيّـين :

كانت كـنيسة السـبتيّـين في نهاية الستـّـينات وأوائل السبعـينات تـنظـّم لقاءات أو أمسيات دينية ، أسبوعـية تحـفـيزية لجـذب الناس إليها وأنا أحـدهـم ( ويسمى منـتسبوها أدﭭانـتِسْتْ – يؤمنون أن المسيح قـريب المجيء لا بل عـلى الأبواب ) ويعـلقـون لافـتة كـبـيرة في الواجهة الخارجـية للكـنيسة دعاية لتلك اللقاءات ، وكان الوعـظ الحـماسي والإرتجالي باللغة العـربـية الفـصحى لرئيس هـذه الطائـفة وهـو المرحـوم القـس هـلال دوس/ مصري ، ويعـرضون أفـلاماً رائعة عن حـياة الرب يسوع المسيح كـما هي في الأناجـيل ( عـددها 12 وبمعـدّل نصف ساعة لكل فـيلم ) ويوزعـون كـتباً دينية ، تقـويم ، وحـتى الصوَر و هُـم لا يؤمنون بها ، وهـذه كـلها كانت توزّع بطريقة ذكـية ومُحـفـّـزة للحـضور . وبعـد كل لقاء كان القـس لا يمَـلّ من الوقـوف مع أيّ شخـص ليُجـيـبه عـلى إسـتـفـساراته مهما طال الزمن . كـنت أستمتع بحـضوري وأعـجـب بالواعـظ وأتعـلـّم الكـثير وأزدادُ خـبرة في مخاطبة الناس ومناقـشتهم ورسم الإنفـعالات عـلى الوجه حـيثما يتطـلب ذلك لإستـنهاض إنـتباه المقابل . كما لمستُ في منـتسبي تلك الكـنيسة إحـترامهم لكـنيستهم ولكاهـنهم وطقـوسهم ولحـضورهم أيضاً بالإضافة إلى الإيمان والمحـبة والرقــّة في التعامل والإستعـداد لتـقـديم أية خـدمة ممكـنة للناس بمحـبة وبـدون تـذمـر .

لقائي بالقـس هـلال دوس :

ونـتيجة لكل ذلك رغـبتُ فإلـتـقـيتُ القـس المذكـور هلال دوس ودار بـينـنا حـديث شـيّق مليء بالأسئلة والأجـوبة والمناقـشة وتبادل الآراء وقـلتُ له : ما بالكـم تعـملون عـلى إستمالة المسيحـيّـين الكاثوليك إليكم ؟ أما كان الأفـضل أن تستميلوا أبناء الديانات الأخـرى ؟ فـقال لي إن كـنيستـنا تدعـو الجـميع وأضاف :

في لقاءاتـنا الكـنسية في فـتـرة الستينات لاحـظتُ ولمدة طويلة شاباً يحـضر بصورة تكاد تكـون منـتـظمة ، وفي يوم من الأيام طلب مني موعـداً كي يزورني ، وحـينما إلتقـينا كـلمني بصراحة وقال : أنا مسلم أحـضر لقاءاتكـم وصلواتكـم لا لكي أصلـّي ولكـن كي أستمتع بنظراتي إلى فـتياتكـم الجـميلات ، ولكن بعـد كل هـذه الفـترة صارت عـندي قـناعة بدينكـم وأنا أريد أن أعـتمذ وأكـون مثلكـم مسيحـياً ولكـنـني أواجه مشكلة وهي قانون الردّة في الدين الإسلامي وأنا في العـراق ! . فـقال له القـس : إن الدين المسيحي هـو شهادة والمسيح المصلوب قـدوتـنا ، وتلاميذه مع ملايـين البشر الذين حـملوا الصليب هـم نماذج لنا ، فـقال الشاب : إذن سأعـتبر نفسي مسيحـياً وأستمر بالحـضور وأشاركـكـم بالصلاة وأقـبل بكل ما سيترتـّـب عـليّ من إلتزامات . فـقال له الكاهـن : نحـن نحـترم إخـتيارك والرب يباركـك . وأضاف القـس في كـلامه لي : بعـد مدة إرتأى هـذا الشاب أن يهاجـر إلى خارج العـراق ووصل إلى دولة أوروﭘـية وإستطعـنا أن نقـدّم له خـدمة هـناك فإعـتمذ وتـزوّج وواصَل حـياته .

ما الذي عَـرَضَه عـليّ القس هـلال ؟ :

لما رآني القـس هـلال أنـني متشوّق للإسـتـزادة من الكـنوز الدينية ومنفـتح في أحاديثي معه وأحـضر وعـظه بإنـتباه شديد ، ظنّ ما ظنّ بقـلبه فـقال لي : أرى أن نعـمة الرب قـد حـلـّـتْ في قـلبك وهـو يدعـوك إليه ! قـلتُ له : إنني مسيحيّ بنعـمة الله منذ قـبولي سرّ العـماذ . قال : إنك تصلح أن تكـون معـنا ! قـلتُ : إنـني الآن هـنا معـكـم فـما الذي تريـد مني أكـثر ؟ قال : ستبشـّر وتـنقل رسالة الرب إلى الـنـفـوس المظلمة ، قـلتُ له : أنا كاثوليكي وأبشِّـر بما أوتيتُ من مقـدرة وتسمح الظروف في أي مكان . فـعَـلِـمَ أنـني لستُ سهـلاً للهـضم فـلـَم يُطِل الحـديث معي في هـذا الموضوع .

وقـد تعـلـّمتُ أناشيد رائعة منهـم وإستطعـتُ أن أترجـم أحـدها بـبعـض التصرف إلى لهـجـتـنا المحـلية وأنشدتـُه باللحـن نفـسه في القـدّاس ونال إعـجاب السامعـين كـهـنة ومؤمنين في ألقـوش أو في بغـداد وكـذلك في اليونان وخاصة كاهـن من دير المُخـَـلـِّص / اللبناني وراهـبات الأم تيريزا الأجـنبـيات اللائي تـَعـلـّمْـنـَه لحـناً ولفـظاً باللغـة العـربية ، سأنـشره في الحـلقة المقـبلة .

وتكاد تكـون مشاركاتي الكـنسية في بغـداد قـد أخـذتْ طابعاً روتينياً طيلة فـترة الدراسة في الجامعة ولم ألاحـظ أية محـطـّة خاصة تستحـق الوقـوف عـندها كما لم أغادر منطقة البتاويـين حـتى تخـرّجي من الجامعة .

 مايكل سيبي

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *