ذكـرياتي في رحاب الكـنيـسة ــ الحـلقة السابعة عـشرة ــ أول قـداس أحـضره في سـدني ، بناء الكـنيسة

خـرجـتُ من الحـجـز :

إن أول ما طـفـر إلى ذهـني بعـد حـصولي عـلى الـﭭـيزا وخـروجي من الحجـز إلى حـياة الحـرية هـو زيارة كـنيستـنا للإطلاع عـليها وعـلى نظامها ودَوْر الشمامسة فـيها وقـداسها ( فـلكل كاهـن نـظامه الخاص في هـذه الأيام ) والأهـم من كـل ذلك أن أرى كاهـنها الـذي أطلق الـناس إسمه عـلى الكـنيسة ، وبعـد ذلك سأعـرف إن كان ممكـناً أن ألعـب دَوْراً فـيها . فـحـضرْتُ لأول مرة القـداس الإحـتـفالي لـيوم الأحـد 26/10/1997 وجـلستُ في المؤخـّـرة من الجـهة اليُسرى عـنـد المدخـل مكـتوف الـيـدَين أراقـب سَير القـداس أكـثر من أن أكـون مشاركاً فـيه فـلفـتَ إنـتباهي حـين رأيتُ الكاهـن عـند المذبح لأول مرة في كـنيستـنا ووجهه نحـو المؤمنين والصلـيب خـلف ظهـره معـلقاً في صـدر الهـيكـل ، وليس كـتـقـلـيـدنا حـيث يتـوجه الكاهـن نحـو الصليب .

إن هـذا الإتجاه للكاهـن يجـعـل عـينيه تـنـتبهان إلى أخـف حـركة من الجالسين أمامه ويصبح جـزءاً من ذهـنه شارداً خارج صَلاته شاء أم أبى !! … وبعـد قـراءة الإنجـيل خـطب خـطبة محـورها الفـلوس لا غـير ثم قال : إن البعـض أراهـم مكـتوفي الأيدي ! ( فـقـلتُ مع نفـسي ليس معـقـولاً أن يقـصـدني في كلامه هـذا ، فـربما هـناك غـيري مكـتوف الأيدي أيضاً ) وبعـد قـليل قال : حـتى الذين وصَـلوا حـديثاً يمكـنهـم أن يعـطوا للكـنيسة ! ( وهـنا أصبح محـتملاً أنْ يقـصدني ) .

وفي الأسبوع التالي حـضرتُ قـداس مساء السبت ( بالعـربي ) ثم القـداس الأول العادي ليوم الأحـد فلاحـظـتُ ما لم نألفه في كـنيستـنا وهـو أنَّ راهـبة من بـين الراهـبات تسـتمدّ زخـمها من الكاهـن هي التي تـتحكــّم في الشمامسة وسَـيْر القـداس . وبمرور الأيام إزدادت خـبرتي وتبلوَرتْ عـندي قـناعة أن القـداس أشبه بساحة عَـرَضات في معـسكـرات الجـيش والكاهـن هـو السيد الآمر أما ضباط الصف هُـم الجُـباة ( فـهـو يـبدأ بصفارة التجَـمّع وتـفـتيش الجـنود حـتى إعـطاء الأوامر بالتحـرّك إلى مواقع الـتـدريـب ) والقـداس عـنـده ليست له قــُـدْسـيّة فـتارة يقـطع قـراءته للإنجـيل إذا رأى شخـصاً إضطرّتـْه حاجـته ــ مثلاً ــ للخـروج من قاعة الكـنيسة فـيُعـلـّـق عـليه ، أو يتوقـف عـن مواصلة الصلوات في منـتـصف القـداس فـيـطـلب من الجالسين في الخـلف أنْ يتجـمعـوا ويقـتـربوا إلى الأمام ، كما نراه أثـناء القـداس يستغـل فـرصة لـيحكي للحاضرين قـصة قـصيرة أو خاطرة خـطرَتْ بـباله ويُـلحـقها بضحكة ، إنه الإمبراطـور ناﭘـليون ………… ولكـنه لم يستـفـسر ولم يسأل يوماً أين مات ناﭘـليون .

أول قـداس إحـتـفالي للتـناول الأول :

لستُ أتـذكــّر التاريخ بدقة ، فـقـد يكـون 18/1/1998 يوم التـناول الأول الذي حـضرتـُه في أستراليا لأول مرة ، ولما وصلتُ إلى ساحة الكـنيسة صباحاً شاهـدتُ الكاهـن كأنه رأس عـرفاء الـوحـدة في الساحة يُجهـد نفـسَه في مَهَـمّة ليست بمستوى مكانـته ولا تـتطلـّـب الحاجة منه أن يؤدّيها ، بل يمكن أن يُكـلـّـف أحـد الشمامسة أو أياً كان من شـباب الأخـويات أو راهـبة لـتأدية تلك المهمة وهي ترتيـب الأطفال وتـنظيمهم في رتل للدخـول إلى الكـنيسة . إن سلوكه هـذا نابع من فـرديّـته ورغـبته في أن تـكـون الأضواء مسلـطة عـليه فـقـط ويكـون هـو المحـرك والمتحـرّك الوحـيد والمنظور ، إنه يريد أن يربط ذاته بكل صغـيرة وكـبـيرة تعـبـيراً عـن عـقـليّـته التسلـّـطية والأنانية ، ولا يزال في كـنيستـنا الكـلـدانية نماذج من هـذا الـنوع . وبعـد قـراءة الإنجـيل خـطب في الأطفال قائلاً :

كـيذوتـُن today قايـيووتــُنْ happy ؟ because …… Jesus وولِـه أويرا لـْ heart ديّـوخـُنْ ؟ ……. وإستمرّ عـلى هـذا المنـوال من اللغة عـديمة اللون والطعـم والرائحة وكأنه يريـد أن يصبح داعـية متعدّد الثـقافات ( Multiculturism ) … يا سـلام ! لو هـيـﭽـي كاهـن خـطيب ، لو ما لازم .

الكاهـن ليس موظفاً ولا صاحـب متجـر :

في أحـد أيام شـهـر تـشرين الأول من عام 1999 وأنا في زيارة عـنـد دار قـريب بمناسبة ذكـرى مرور سنة عـلى وفاة والدته ، شاءت الصدفة أنْ حـضر الكاهـن جـلسَـتـنا ترافـقه المرحـومة الراهـبة ( يزدان ) وأراد أحـد الأصدقاء من الحاضرين أن يضفي جـواً من المرح عـلى لقائـنا فـقال لي : أما كان الأفـضل لك لو إخـترتَ سلك الكـهـنوت ، فـهـو عـمل يـدرّ عـليك ربحاً وفـيراً ؟ فأجـبته : أنا مسؤول عـن عائلة ولا أصلح لهـذه الخـدمة لأن الكاهـن صاحـب رسالة يجـب أن يجـرّد نفـسه من أيّ إرتباط يشغـله عـن أدائها !! فـعـلـّـق أخـونا الكاهـن فـوراً قائلاً : إنّ مَن يُحـسن إدارة الأسرة يمكـنه إدارة الكـنيسة ، وأضاف : إنّ الكاهـن ليس موظفاً ولا صاحـب متجـر وإنما الكـتاب المقـدس يقـول : إنّ مَن يعـمل للمذبح يأكـل من المذبح ، فـقـلتُ له أنَّ الكـتاب المقـدس يقـول أيضاً : تـذكـرون أيها الإخـوة جَـهـدنا وكـدَّنا ، فـقـد بلـَّغـناكم بشارة الله ونحـن نعـمل في الليل والنهار لئلاّ نـثـقِل عـلى أحـد منكم وأنـتم شهـود ….. ( تسالونيكي الأولى 2 : 9 ) فـلماذا لا تـذكـر هـذا ؟ فـلـَم يُجـب حـضرته عـلى سؤالي ! .

سـفـرتي إلى أثينا :

إن تجارب الحـياة في الكـنيسة عـلمتـني أنَّ اللهجة الألقـوشية الرصينة هي مشكـلة عـنـد الـبعـض …. ترى هـل أبحـث لـنـفـسي لهجة أخـرى ؟؟ فـقـد ذكـرتُ في نهاية الحـلقة العاشرة أن كاهـناً في فـترة نهاية الثمانينات طلبَ خـدمة ، تـقـدَّمـتُ لـتـلبـيتها وأنا أكـلمه باللهجة الألقـوشـية فإنعـقـﭻ قـليلاً ………. وشاءت الصدفة أنْ أكـلمه في أثينا عام 2000 وأيضاً باللهجة الألقـوشـية ……….. فإنعـقـﭻ ثانية :

وصلتُ أثينا في زيارة قـصيرة بتأريخ 6/2/2000 ، وبعـد يومَين رغـبتُ في زيارة المطران اليوناني الكاثوليكي مار أنارﮔـيروس في مقـرّ المطرانية حـيث تربطـني به صداقة إستمرّت سنيناً في تبادل التهاني من أستراليا حـتى تـقاعـده فـتغـيَّـر عـنوانه … دخـلتُ مكـتب الإستعلامات ، طلبتُ مقابلته فـقـيل لي بأنه خارج اليونان حالياً ، قـلتُ للموظف المسؤول : ماذا عـن الأب ستيفانوس خـوري الكـنيسة ، قال إنه ذهـب في مشـوار خارج الكـنيسة ولكـن حالياً يوجـد كاهـن آخـر عـراقي ، هـل تريد أن تراه ؟ قـلتُ نعم وأنا عـراقي أيضاً ، فـلما ناداه بالتلفـون وأخـبره أن عـراقـياً يريد أن يزوره ، طلب أولاً أن يستـفـسر مَن أكـون ، سلـّمتُ عـليه تـلفـونياً من المكـتب دون أن أذكـر إسمي !! باللهجة الألقـوشـية ( أم المشاكـل ) وقـلتُ له : أنا قادم من أستراليا وأرغـب في زيارتك ولا توجـد عـندي فـرصة أخـرى لأن بقائي في اليونان محـدود لفـترة قـصيرة جـداً . قال الكاهـن : يمكـنك ذلك لمدة دقـيـقـتـَـين فـقـط ، قـلتُ له : ألا يُـمكـن أكـثر ؟ قال : لا !! قـلـتُ إذن أجّـلها إلى مناسبة أخـرى ، قال : براحـتك ( وكأني أخابره من الباب الشـرجي وهـو في الـبتاويّـين ، حـيث ممكـن أنْ أراه في الأسبوع القادم أو بعـد شهـر ! ) .

خـرجـتُ من دار المطرانية وأنا أفـكـر في كاهـنـنا الموقـر وأقـول مع نـفـسي ، تـُرى هـل أنّ أبونا الكـلـّيّ الهـيـبة والإحـترام والوقار كان بـيده (ﮔـَـرْدا دْ أبْريسم ) أم أنه جاهـز للإستحـمام وقـد نزع معـظم ملابسه ، مما جـعـله في ظرفٍ طارىء لا يَحـتمل مقابلة أيّ شخـص لفـتـرة 15 دقـيقة أو نحـو ذلك ، فـتركـْـتـُه في حـمّامِه أو ( ﮔـَـرْدِهِ ) .

ﮔـَـرْدا = مجـموعة آلات بسيطة خـشبـية محـلية الصنع مُـثـبَّـتة داخـل الغـرفة بصورة هـنـدسية جـميلة تـستخـدم خـيوط الصوف المغـزولة في القـرى لـنسج الأقـمشة يدوياً ، فـهي بمثابة ماكـنة نـسج يتـطلـّب العـمل فـيها بعـض الصبر لساعات طويلة لأن إنـتاجـيتها بطيئة …… أبريسم = خـيوط الحـرير من دودة الـقـز .

حـجـر الأساس لكـنيسة مار توما / سـدني :

من المؤكـد هـناك الكـثيرون ممن سبقـونا في خـبرتهم بالكـنيسة والكاهـن ، وفي أحـد أيام العـيـد خـطب الكاهـن وموضوعه الرئيسي هـو الفـلوس لـبناء الكـنيسة فـكـرّر مقـولته المشهـورة لسنـوات : دْري إيـذوخ بجـيـبوخ عَـمـوقا ، و ﮔـْـروش مِنـّـيه يـروقا !! = ضع يـدكَ في جـيـبك عـميقاً ، وإسحـب منه الأخـضر !! والأخـضر كـناية عـن أكـبر ورقة نـقـدية أسترالية 100$ … وشاءت الصدفة أنْ كـنـتُ جالساً بجانب رجـل الـذي إستـثاره كلام الكاهـن ويـبـدو أنه مـلَّ سـنيناً من سماع هـذه الأهـزوجة فـعـلق : ( هَـر إيخ بـشياتا وليث قـبض = نحـن نـضع ولا يوجـد قـبض ) ويقـصد أنـنا نـتـبرع لصينية الكـنيسة منـذ مـدة طـويلة وليس هـناك أي بناء !.

وفي شهـر شباط 2001 صدرَ العـدد الأول من جـريدة عـما كـلدايا الغـراء ، فـنشرنا فـيها الخـبر التالي :

(( قـبل أن يلفـظ القـرن العـشرون أنفاسَـه الأخـيرة ، تم صب وتبليط جـزء من الساحة لتكـون موقـفاً للسيارات كـمرحـلة أولى . وفي بداية القـرن الواحـد والعـشرين بوشِـر بـبناء الكـنيسة عِـلماً أن الطقـوس الدينية كافة تـقام حالياً في صالة بُـنيتْ أصلاً للمناسبات الإجـتماعـية مستـقـبلاً . مبروك للجالية الكـلدانية كـنيستهـم الجـديدة )) . وسيكـون لـنا تعـليق عـلى موضوع بنائها !! .

 مايكل سيبي

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *