ذكـرياتي في رحاب الكـنيـسةــ الحـلقة السادسة ــ ولا نـزال في ألقـوش

ألأصالة والتقـليد :

في يوم الأحـد من عام 1964 وأنا أخـدم القـداس مع المرحـوم المطران أبلحـد صنا ، وفي وقـت تـناول القـربان المقـدّس تـقـتضي الطـقـوس أن نملأ الأجـواء تراتيل الفـرح وتمجـيد الرب الذي وهـب جـسَده ودمه لنا وكأنّ الملائـكة ترنـّم فـوق المذبح تسبـيحاً له وتعـبـيراً عـن فـرحة المؤمنين بمشاركـتهم مائدته ، فـأنشـدْتُ ( مْـلـبّي كـْـنوءا مشـْـتــَـقـوثا ) بإيقاع متوازن وصوت جـهـوَري في مرحـلة المرهـقة أطــْرَبَ السامعـين وجـدّاتـنا السامعات ، فأخـذتهـن النشوة وصِـرْنَ يُردّدنَ معي ، إلاّ أنّ المطران أوقـفـهـنّ قائلاً : دعـوه ينشد لوحـده .

ولاحـقاً سَمِعْـتُ أحـد الكهـنة صاحـب صوت شجي في الرابط http://www.baqofa.com/media وهـو يرتـل ذلك النشيـد وكـذلك ( مشـْـتاقـيون منْ لبّـا ، مريم ) إلاّ أني رأيته غـير موفـقٍ في ترتيله أداءاً وإيقاعاً وكـذلك لفـظاً لبعـض الكـلمات ، وقـد يستغـرب بعـض القـراء من كلامي ، إلاّ أن شارب مياه الينابـيع العالية أدرى بنقائها ممن يستـقـيها من سواقـيها الناصية ، وأهـل البـيت أدرى بما فـيه .

كـنيسة في قـرية النصيرية :

في صيف عام 1964 أو 1965 ذهـبتُ ( ولمرة واحـدة فـقـط ) إلى قـرية النصيرية القـريـبة من ألقـوش والتي يسكـنها اليزيديّون 100% فـرأيتُ فـيها كـنيسة فارغة تسكـن فـيها عائلة مسيحـية واحـدة ، ولم أكـن ناضجاً فـكـرياً كي أسـتـفـسر من رب تلك الأسرة عـن الكـنيسة ، متى ولمَن بُـنِـيَتْ وما الذي يعـمله فـيها آنياً .

مساعـدة الساعـور :

وعـلى مرّ السنين كـنا نساعـد الساعـور في أعـمال كـثيرة داخـل الكـنيسة فـنصنع الـﭘـرشانات ( كـسور الخـبز التي يقـدّسها الكاهـن وتوزّع للمؤمنين قـرباناً مقـدّساً كـجـسد المسيح ) بكـميات كـبـيرة وخاصة في الأيام التي تسبق الأعـياد . فـهـو يهيّء عـجـينة طحـين القـمح المخـفــّـفة جـداً بالماء ونحـن نخـبزها بوضع كـمية قـليلة منها بالـملعـقة عـلى كـمّـاشة معـدنية صفـيحـتَـيها مُسطــّحَـتَـين ومحـفـور عـلى إحـداها مخـطط لصورة المسيح المصـلوب ، ثم نطبـق الكـماشة ونضعـها عـلى موقـد ناره إعـتيادية من حـرق جـذع الشجـرة أو أغـصانها . وقـبل أن يَسْمَرّ الخـبز نـُـبعـد الكـماشة مِن عـلى النار ونفـتحـها ونرفـع صفـيحة الخـبز البـيضاء منها ، وبواسطة طـوق حـديدي دائري حاد نقـطـّـعها إلى قـطع دائرية لتوزيعـها للمؤمنين ( المعـترفـين ! ) داخـل الكـنيسة . كما كـنا نساعـد الساعـور في عـمل الشموع ( فـنـْـدا ) وبأنواعه العـديدة ، فـمنها لإضاءة المذبح ومنها لإضاءة صفـحات الكـتب الطـخـسية عـند قـراءتها – قـبل تــَوفــّر الطاقة الكـهربائية – ومنها للبـيع في مدخـل الكـنيسة في عـيد ( شمعـون ساوا ) وقـد ساهـمتُ مرة واحـدة في عـصر العـنب بكـميات كـبـيرة لإنـتاج الـنبـيذ ( خـمرا ) للكـنيسة .

عـمّي حـنا سيـﭘـي والأب أبلحّـد عـوديش :

في أحـد أيام العـطلة الصيفـية في الستينات كـنتُ واقـفاً في زقاقـنا وعـمّي المرحـوم حـنا سيـﭘـي مُـتــّـكِـئاً عـلى جـدار بالقـرب مني ، ومَرّ المرحـوم الأب أبلحّـد عـوديش وأومأ بسلام إلى المرحـوم عـمي ( عـم والدي كان فاقـداً لحاسة السمع ) الذي ردّ عـليه السلام ثم قال الأب الفاضل لعـمّي مستخـدماً الإشارات وحـركات الشفاه : لماذا لا تـذهـب إلى الكـنيسة ؟ ردّ عـليه عـمّي : ألا يكـفي أنّ السيّدة ( ؟؟ ) تذهـب إليها ؟ فإبتسم الكاهـن ولم يُعـلـّق ثم واصل سيره إلى مقـصده .

الأب يوحـنان ﭽـولاغ والرهـبنة :

حـدّثـني الأب المرحـوم يوحـنان ﭽـولاغ في منـتصف الستينات من القـرن الماضي بعـض الشيء عـن الأديرة والرهـبنات ، فـقال إنّ الصَّلاة وخـدمة الناس واجـب عـلى كـل المؤمنين والمؤمنات ، ولكـن حـين يَـنـذر شـخـص نفـسَه للإنخـراط في الأديرة والعُـمُرات ، يَعـرف أنّ الحـياة فـيها وإنْ كانت طبـيعـية شـبـيهة بعـض الشيء بالأقـسام الداخـلية للطلاب والطالبات ، حـيث يخـدمون أنفـسهـم بأنفـسهـم ويتـضرّعـون لرب السماوات ، إلاّ أنهم يكـونون مقـتـنعـين وقابلين إلزاماً بفـروض الدير الثلاث وهي : ( البتولية ، الطاعة ، العـمل ) بالإضافة إلى تجَـرّدهم من الممتـلكات ومناصب الدنيويّات ، وإن إلإلتزام بها لا مناصّ منه وإلاّ ، فـمَن يرفـض واحـدة منها لا ينـتسب إلى الدير أبـداً ، وكـل ذلك إمتـثال لأقـوال ربنا يسوع المسيح ولحـياته مُحاكاة . ولما تقـدّمَـتْ بنا السـنون واخـتبرنا الحـياة صِرنا ندرك أن رسالة الراهـب مَهَـمّـة ترتـقي به إلى مستوى فـوق الأرضيات ، تـتطلب منه الإلتزام بالإبتعاد عـن ملذات الذات الآنيّات ، وإغـراءات الدنيا المتلاشـيات . إنه يتفـرّغ للخـَيار الذي إخـتاره لنفـسه وليس مُجـبَراً عـليه بل بمحـض إرادته الشخـصية ، ويسترخـص الصكـوك الورقـية والمناصب الترابـية ليسمو بقـلبه وذهـنه وكل أحاسيـسه إلى فـضاءات الأرواح السماوية ، فـلا يرتبط بأسْرة بل أسْرتـُه هي البشرية ، إنه شخـص واحـد في ربه الواحـد فإذا صار ذي إلهَـين مزدَوَجَـين أمسى مزدوجَ الشخـصية ، وحـينـئذ يتيه في التـنقــّل ما بـين هـذين المعـبودَين كخادم سـيّـدَين ومناقـضاً لمبادئه الإنجـيلية ، فـلابدّ من أن يوقـر أحـدهـما ويهـز ذيله أمام الآخـر ، أو يُسرع مع الثاني ويتباطأ مع الأول ، وبذلك قـد يربح العالم كـله بقـيمته الوهـمية بعـد أن يخـسر نفـسه المشـتراة من رابـية الجـلجـلة الحـقـيقـية .

وبّخـني فـخـجـلتُ :

أتذكـّر أن رئيس أخـويّـتـنا كان نوئيل صادق برنو الذي غادر ألقـوش (( في عام 1967 كما أظن )) وأصبحـتُ المرشـّح الأكـثر إحـتمالاً لسد الشاغـر لأنـني الأكـبرعـمراً وأعـلى مرحـلة دراسية وأكـثر كـفاءة وأقـرب إلى أجـواء الكـنيسة . فـلمّـا عُـرض عـليَّ الموضوع إعـتـذرتُ بحـجّـة ركـيكة رغـم إلحاحهم وفي الأخـير رفـضتُ ، وأصبح زميليّ أكـرم صادق يلدكـّـو و وديع يونس ﭽـولاغ هـما المرشـحَـين . ولما أجـرى الأب هـرمز صنا إنـتخاباً سرياً ولكـنه عـلنيّ بالنسبة إليه وذلك بأن طـلب من كـل منـّـا عـلى إنفـراد الإدلاء بإخـتياره لأحـد المرشحَـن المذكـورَين ، فـفاز الأخ أكـرم بالرئاسـة . لا يخـفى أنـنا كـنا مُكـلـّـفـين بأن ندعـوَ أكـثر ما يمكـن من الإخـوة للإنضمام إلى أخـويّـتـنا وهـنا أتذكـر في أحـد الإجـتماعات أن عـدد الذين لـبّوا الدعـوة كان كـبـيراً ، فـقـد جاهـد أعـضاء الأخـوية كـثيراً وإستطاعـوا أن يجـمعـوا هـذا العـدد المُلفـت للنظر وحـضروا إجـتماعـنا ، ولكـنـني أعـرف أن أغـلبهم ليسـوا مؤهـلين لهـذه الدعـوة ، كما أن العـبرة ليست بالكـمية وإنما بالنوعـية . فـلما حانتْ فـرصة المناقـشة سألتُ وقـلتُ : هـل يمكـن أن يفـسّر لنا الإخـوة الجُـدَد ما هـو إنطـباعـهم عـن الأخـوية وما الذي دفـعهم إلى قـبول الدعـوة هـذه ؟ وهـنا إنبرى المرحـوم الأب هـرمز صنا موبّخاً إيّايَ أمامهم قائلاً : هـذا الكلام غـير مسموح به ولا يحـق لك أن تسأل هـذا السؤال ! وفي الحـقـيقة خـجـلتُ كـثيراً وكان دفاعي عـن نفـسي ضعـيفاً وفي الأخـير لم يصدر مني سوى السكـوت ولكـن بدون إعـتـذار .

أمسية العـيد وهـديّـتي كـتاب الـ حـوذرا :

وكم من مرة أيضاً نظــّـمْـنا أمسية في ليلة رأس السنة نحـن أعـضاء الأخـوية مع الكهـنة تـتخـلـّـلها فعاليات مُسلـّية ، وأتـذكـر أنّ إحـدى الأمسيات كانت في صالة الإستقـبال في مقـر المطرانية ( قـونـَخ ) بحـضور المطران نفـسه مع كافة الكهـنة ، وفي قـرعة أجـريَتْ عـلى أسماء جـميع الحاضرين حـصلتُ عـلى كـتاب الـ ( حـوضرا – الجـزء الـثالث ) وذلك في مساء يوم السبت المصادف 1/1/1966 وإستغـرقـتْ أمسيتـنا زهاء الساعـتين والنصف .

هـل مِن نظام جـباية ثابت ؟

إن نظام جـباية الكـنيسة الذي كان متـّـبعاً هـو أن يزور الكاهـن مع أحـد الشمامسة أو الساعـور بـيوت أهـل البلدة ويصلـّـيان ثم يطلب الكاهـن من أهـل البـيت قائلاً : إنـنا نجـمع الـ ( ﮔـيويثا دْ ريشـيثا – جـباية الرئاسة ) والمقـصود بها : جـباية للرئاسة الكـنسية لسد حاجات الكـنيسة بصورة عامة والكـهـنة والمطران لأنها تمثـل إحـدى قـنوات مواردهم هـذا بالإضافة إلى صينية يوم الأحـد وإستحـصالهم مبالغ عـن خـدماتهم الروحـية عـلى مدار السنة ، وما تـدر عـليهم ممتـلكات الكـنيسة ( أوقاف ) من دور وأراضي زراعـية . وقـد سألتُ مرة المرحـوم الأب يوسف توماس ( قـبل أن يصبح مطـراناً ) : لماذا لا تضعـون نظاماً كـنسيّـاً دَورياً ثابتاً لجـباية النقـود من المؤمنين شهـرياً أو بأي ترتيب آخـر لكل حـقـبة زمنية ، وبالمقابل تكـون كافة الخـدمات الكـنسية مجانية ، كالعـماذ والتعـليم المسيحي وتـناول القـربان المقـدس ومباركة الزواج ومرافـقة الموتى إلى مثواهم الأخـير ، وتـزويـد الوثائـق الكـنسية وغـيرها عـنـد الحاجة ؟ قال : ( إن الجـماعة ـ ويقـصد المومنين ـ سوف يستهـزئون بالعـملية ويُسمعـونـنا تعـليقات مزعـجة نحـن في غـنى عـنها ) ! إن في كلام الأب يوسـف شيء من الصحة محـلياً ، ولكـني أرى في رجال الدين عامة شيئاً آخـراً ، إنهـم لا يقـبلون بتحـديـد مدخـولهم ، بل ينشـدون الحـرية في جـبايتهم أو ترويج بضاعـتهم ، وكل بضاعة بسعـرها الخاص .

ملاحـظة : في هـذا السياق كان للمطران عـبـد الأحـد صنا تـدبـير حـكـيم في مجـريات عام 1974 وذلك حـين حـدد المبالغ المستـوفـية من المؤمنين عـن الخـدمات التي تـقـدمها الكـنيسة لهم كالعـماذ والزواج والنسخ الورقـية للوثائق … وفي حـينها نشر إعلاناً بها في لوحة إعلانات الكـنيسة قـرأتها بنـفـسي ، وجـدير بالـذكـر أن من بـين تلك الـتعـليمات ( لا يُـسـتـوفى أي مبلغ من أهـل المتوفي إذا كان يرافـقهم كاهـن واحـد فـقـط إلى المقـبرة ) أما إذا أراد أهـل المتـوفي أكـثر من كاهـن واحـد أو يريـدون المطران أيـضاً للـتـباهي ! فإن مبلغاً معـيناً يُـستـوفى منهم …. أما الـيوم فإن كـهـنـتـنا وحـتى بعـض أساقـفـتـنا لا يقـتـنعـون بهـكـذا إجـراء حـسب تـصوّري الشخـصي .

محاولة غـير مُجْـدية لتعـلـّم الـ ﭘـوشاقا :

كـنتُ أتردد إلى دار المرحـوم سليمان مقـدسّي ( ساعـور سابقاً ) ومعي كـتاب الرسائل ــ الـ شليحا أو الـ قـريانا ــ فأقـرأ أمامه جـملة باللغة الكـلدانية الفـصحى فـيترجـمها لي وهـكـذا حـتى نهاية الرسالة فأحـفـظ ترجـمتها إلى لغـتـنا المحـكـية عـن ظهـر قـلب لأتهـيّـأ لقـراءتها في الأحـد المقـبل ، ولكـنني لم أستمرْ عـلى هـذاالمنهاج بسبب إنشغالي بالدراسة وإنـتـقالي إلى بغـداد لمواصلة الـدراسة فـلم أستـفـد كـثيراً . هـذا ما بقي عالقاً في ذهـني من ذكـرياتي مع الكـنيسة وأنا أسكـن في ألقـوش وبعـد ذلك إنـتـقـلتُ إلى مرحـلة جـديدة وهي السفـر إلى بغـداد في الربع الأخـير من سنة 1966 .

 مايكل سيبي

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *