دعوة متشنجة للهجرة من الوطن وأخرى نابعة من القلق على سلامة أبناء شعبنا

 

 

بسبب الأحداث المأساوية المتسارعة التي عصفت بأبناء شعبنا والفاجعة الأخيرة التي حلت بهم، ترتفع بين الفينة والأخرى دعوات من رجال دين وساسة يحثونهم فيها ” للرحيل فوراً لمن لديه جواز سفر، ولمن ليس لديه الحصول عليه بسرعة واللحاق بالأخرين مهما غلت التضحيات ” دون شرح ألية واضحة للخطوات اللاحقة وتحديد خارطة طريق لضمان الوصول إلى الهدف المنشود، وكأن فرماناً على وشك الصدور ضد مسيحيي العراق كافة، وهذا ما قرأته على صفحة الفيس بوك لأحد الكهنة الأفاضل قبل مدة .  

وللتذكير بأني لست ضد هذا التوجه المشروع نتيجة لظروف قاهرة أو تلبية لطموحات خاصة أو بعد رسوخ قناعة لدى البعض بأن هنالك مخططاً مرسوماً لإفراغ العراق من مسيحييه، الأمر الذي يفرض عليهم الهجرة إن عاجلاً في هذا الظرف المعقد، أم أجلاً بطريقة ربما أبشع من سابقتها .

 وبلا شك أن بعض الدعوات نابعة من الحرص والقلق على سلامة أبناء شعبنا من مفاجئات المجهول في أية لحظة كما حصل في مدينة الموصل والبلدات التابعة لها قبل أشهر، بينما غيرها متشنجة لا تخلو من تخمينات وإستنتاجات لتعميم رؤية شخصية لأحداث قاتمة لا يمكن التكهن بحتمية وقوعها، وإهمال بعض الإشارات المتفائلة الصادرة من مراكز صنع القرارات العالمية بعد تحديث بعض المشاهد الدرامية المبهمة، وبنفس الوقت نتمنى أن تكون تلك الدعوة عفوية مخلصة ولا تلقي ظلالاً من الشكوك حول مساهمتها ومن غير قصد بتنفيذ مخطط إقتلاع ما تبقى من جذورنا التاريخية من تربة وطننا.

لذا ينبغي على كل مسؤول مع إحترامنا لمركزه وكل رجل دين مع تقديرنا لمنزلته ومقامه وفي هذا الظرف العصيب بالذات ومن منطلق مسؤولياته الوطنية والإنسانية أوالدينية والتاريخية، أن يتجنب تأجيج مشاعر القلق والهلع في نفوس الذين يقفون على أطراف أصابعهم بعد هروبهم المُبكي ومسارهم المضني ومعاناتهم الطويلة وهم لا يعرفون أين تتجه بوصلتهم نتيجة أوضاعهم النفسية المنهارة والمعيشية المنهَكة وحرب الشائعات تنهش بجسدهم المتعب بينما نواقيس الهجرة تقرع في أذانهم بعنف، فأمسى مصيرهم معلق بخيط هزيل تحركه أصابع خفية، أو كأوراق خريف متساقطة تعبث بها رياح مساومات رخيصة لقوى سياسية في دكاكين التجارة العالمية .

كذلك غير مقبول منا جميعاً أن نفرض أراءنا على كافة أبناء شعبنا في الوطن ونملي عليهم رؤيتنا الشخصية للمستقبل ونطالبهم بالبقاء في الوطن أو المغادرة حالاً دون ترك فسحة زمنية أمامهم لتقييم أوضاعهم بأنفسهم ورسم مستقبلهم، لأنه لو كانت لديهم الرغبة والقناعة والإمكانية المادية لما توانوا عن الرحيل قبل سنين وعقود وحتى في هذه الأيام، ولما إنتظروا مني ومن غيري النصيحة والمشورة، ولكن دون شك وجدوا أمامهم عوائق وكانت لديهم مبررات لبقائهم لحين نضوج الظروف المواتية التي يقررون فيها ما هوالأفضل لحياة أبنائهم .

دعوني أجيب على سؤال ربما يدور في أذهان بعض الإخوة لأقول… بأني رحلتُ عن وطني ليس إستجابة لطلب شقيقاتي وأشقائي الذين كانوا هاجروا إلى أمريكا منذ عدة عقود أو تلبية لنصيحة صديق، بل بعد حادث مؤسف قبل أيام من نهاية عام 2006 الدامي، حينما إستدعتني جارتنا عبيرالساكنة مقابل دارنا، وهي إبنة أحد الضباط المتقاعدين القدماء منذ السبعينات، بعد عودتها من العمل بعد الظهر وهي تبكي وتصرخ ” أبويه “، وحينما هرعت ودخلت إلى بيتهم، شاهدت والدها الطاعن في السن مذبوحاً من رقبته ومرمياً على أرض الغرفة. بعدها واجهت موقفاً صعباً للتخلص من مأزق الشرطة التي وصلت للتحقيق، وتفاصيل كثيرة لا مجال لذكرها . وبعد مراجعة الوضع الجديد والمخاطر المحتملة التي كانت ستواجه أفراد عائلتي من كافة النواحي، إتخذنا بالإجماع قرارالهجرة، ثم ناقشنا كيفية معالجة بعض الامور خلال أيام وإستعدادنا للتأقلم لظروف العيش في محطات الغربة، وبعد إسبوع كنتُ قد تركت عائلتي في سوريا وعدت وحدي إلى بغداد لإكمال بعض الإجراءات الضرورية .

قبل كارثة سقوط الموصل المدوية على يد المجاميع الإرهابية وخلال إتصالاتي المتواصلة مع بعض الأصدقاء في بلدتنا العزيزة ألقوش، كان البعض يبادرني بالسؤال :” ما هو رأيك بالهجرة وهل تنصحنا بالمجئ إلى أمريكا أم لا …؟ ”  فكنت أقول بأنه سؤال محرج لا يمكنني تحمل مسؤولية أخلاقية عند الإجابة عليه فيما لو هبت الرياح بما لا تشتهي السفن، ولكني كنت أذكر لهم الجوانب الإيجابية الكثيرة والسلبية في أمريكا من وجهة نظري الخاصة لأن فقرة ما قد تكون برأي سلبية وبنظرهم إيجابية والعكس بالعكس، وتحديداً في المدينة التي أعيش فيها. وبعد إجرائهم مقارنة موضوعية في ميزان العقل بين الجانبين ومناقشة المسألة بشكل هادئ بعيداًعن الإنفعالات والعواطف، كان عليهم تحديد أفاق حياتهم المستقبلية بقناعة لتجنب إحتقان مشاعر الندم وجلد الذات عند مواجهة الصعاب في الغربة أو المخاطرعند بقائهم في الوطن، وتوجيه النقد اللاذع أو الدعاء يوماً على من شجعهم على أي منهما.

وأخيراً أتمنى لمن صمم على الهجرة الوصول الميمون إلى مرفئ أحلامه بسلام، وأطلب من الرب أن يحمي كل من عاد أو من قررالعودة إلى بيته وبلدته العزيزة بعد تحريرها ويمنحه الإطمئنان والعيش الرغيد والأمان .

بقلم : صباح دمّان

                                                 16 / 9 /  2014                                          

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *