بمناسبة الذكرى الثانية والأربعين على مأساة صوريا

أستذكاراً لأرواح شهدائنا الكلدان الذين قضوا في سبيل دينهم وإيمانهم في أبشع مذبحة همجية تتعرض لها الإنسانية في العراق والمسيحية بشكلٍ خاص ، نُعيد ذكراهم الفوّاحة في هذه الأيام الخالدة التي أستقبلت فيها أجواق الملائكة في السماء أرواح ملائكة أبرياء أُزهِقَت ظُلماً وعدوانا على الأرض .

في مثل هذه الأيام تمر علينا ذكرى مذبحة قرية صوريا الكلدانية الأصيلة في 16 / ايلول / 1969 الذكرى الثانيةو الأربعين لمذبحة صوريا الشهيدة .

لقد خط الشهداء الكلدان سفراً خالداً يضاف إلى شهادات من سبقهم ، خطت بدمائهم الزكية وروت أرض العراق الطاهرة التي يسترخص في سبيلها الغالي والنفيس.

قرية صوريا التي تتبع إداريا قضاء زاخو التابع لمحافظة دهوك ، هي قرية كلدانية كانت تغفو على صوت خرير الخابور الذي يمر بالقرب من القرية ، وكانت تستيقظ على زقزقة العصافير وتغريد البلابل ، هذه القرية الوادعة وداعة أهلها الكلدان ، أبى لها المجرمون أن تبقى كذلك فأختاروا أن يكون لها أسم جديداً هو” القرية المفجوعة ” أو ” القرية الثكلى بأبنائها ” لا لشئ بل لحقدهم الأعمى على كل ما هو برئ ووديع ومُحِب ومُسالم .

نعم صوريا قرية الشهداء الأبرياء ، لم يدخلوا حرباً ، ولم يشتركوا في قتال ، ولم يكمنوا لدوريات ، ومع كل ذلك فقد أستشهد فيها الرضّع كما أستشهد الأطفال ، وأستشهد الشباب مع الشابات والنساء مع الرجال والشيوخ ، كذلك الأشجار والبيوت وكل شئ في القرية استشهد ، وحتى رجل الدين ، كاهن الله لم يسلم من غدرهم وخسّتهم فقد أستشهد هو الآخر ، ذلك الكاهن الذي كان يقدم الخدمات الدينية لمؤمني القرية نالت منه رصاصة الجبناء الخبثاء الخنثاء .

فأية رجولة هذه ؟ تقتلون شعباً آمناً مُسالماً !!!! يكفي أنهم يحملون إيمان سيدنا يسوع المسيح ومحبته للكل ، شعباً أعزل غير مسلّح ، وديعاً ، ماذا قال ضميركم أيها الأراذل عندما رأيتم الدم الزكي يروي تلك التربة من الأرض ؟ ماذا قال ضميركم أيها المشاركون في تلك الجريمة البشعة القذرة !!! كيف تمكنتم من النوم ليلتها ؟أكيد لقد تحولت الإنسانية عندكم إلى وحشية قذرة

في يومٍ كئيب كان المفروض أن لا يكون كذلك ، لأنه كان يوم أحد ، ففي يوم الأحد المصادف 16/أيلول / 1969 مرّ رتل عسكري مكوّن من أربع عجلات عسكرية في طريقها إلى معسكر فيشخابور ، وما أن وصلت تلك العجلات على مقربة من القرية الشهيدة حتى أنفجر لغم تحت إحدى العجلات مما أدى إلى سقوط بعض الجرحى من الجنود ،

آمر القوّة العسكرية كان الملازم عبد الكريم خليل الجحيشي تصرف هذا الجبان بما يمليه عليه حقده على كل إنسان ، تصرف بوحشية فاقت أكثر الوحوش شراسةً ، لقد أمر القوة التي كانت تحت إمرته بالعودة إلى أقرب قرية قرب الحادث ، فكان نصيب صوريا ، وجمعوا كل أهالي القرية للمثول بين يدي ذلك الضابط ، وتم جمع كل أهالي القرية في بستان صغير قرب القرية ، وكاهن القرية يشجعهم على تنفيذ الأمر ويقول لهم سوف أذهب لأتفاهم مع آمر القوّة وأشرح له الوضع بأننا مسيحيين وأناس بسطاء ونشتغل بالزراعة وتربية المواشي ولادخل لنا بما حدث ، على أساس كونه رجل دين وأحترام رجال الدين واجب على كل الفئات ، وكان كاهن القرية قد أنتهى لتوّه من إقامة الذبيحة الإلهية لأهل القرية ، ولم يكن يدر بخلده بأنه يقيم آخر قداس إلهي هذا اليوم ، وإنه سيلتحق بمخلصه الإلهي في نفس اليوم ،

ولما مثلوا بين يدي الضابط المجرم اوقفهم في صف واحد وراح يهيئ رشاشته الكلاشنكوف أستعداداً للرمي ، وعندما هَمَّ بالرمي قفزت عليه بطلة أبية شجاعة ، فتاة ألبسها الله ثوباً من الشجاعة ومنحها الروح القدس القوة ، كانت هذه الشجاعة هي ليلى خمو ، تشابكت مع الضابط وأستطاعت إيقاف عمل رشاشته الجبانة ، وأرادت أن تمنعه من قتل الأبرياء وهي متيقنة بأنها بعملها هذا تدفع حياتها ثمناً ، وهكذا تشابكت مع الضابط الجبان ولكن عندما يلبس أبليس ثوب إنسان يتصرف كشيطان ، لقد تغلبت قِوى الشر في لحظة ضعفت وأختفت كل مظاهر الإنسانية عند ذلك الجبان وفي قلبه ، فعمد ذلك الجبان إلى مسدسه ورماها برصاصة غادرة خرّت ليلى على أثرها وهي صرعى مضرجة بدمائها ، فكانت أول شهيدة يروي دمها الطاهر أرض صوريا ، لقد ضحّت ليلى بروحها دفاعاً عن الحق وعن أهلها

” والجُودُ بالنَفْسِ أقصى غايةَ الجُودِ ”

بدأ الضابط الجبان بحصد أرواح الأبرياء واحداً واحداً وهو يتفاخر بفعلته الشنيعة هذه ولا يدري بأنه سيلحقه الخزي والعار ويلحق أولاده وأهله من بعده .

ثم أمر بإشعال النيران في البستان لكي لا يَنجُ أحد ، فمن نجا من إطلاقات رشاشة عبد الكريم خليل الجحيشي أكلته النار ، ومَنْ نجا من النار أخمدت أنفاسه الدخان ، ولكن إرادة الله أقوى فقد نجا عدداً منهم ليكونوا شهوداً على جريمة أقترفها هذا الجبان العليل .

لقد نجا عدد قليل جداً من هذه المجزرة فمنهم مَن هام على وجهه لا يدري أين يتجّه ، ومنهم من بقي واقفاً أمام جثث أهله وإخوانه وزوجته وأطفاله ، منهم أطفال بقوا واجمين أمام جثث والديهم أبوا ألا يفارقوهم لأنه ليس لديه معيل ، فظلّوا يبكونهم ، وهكذا بقيت الجثث ثلاثة أيام في العراء وأصبحت طعماً للكواسر ثم دُفنوا في قبرِ جماعي ، وهذه المقبرة الجماعية للمسيحيين لم يتحدث أحد بها ولم يذكرها أحد ، فقد سبقت المقابر الجماعية المعروفة بعدة سنوات.

مأساة أخرى تعرض لها من نجا من هذه المجزرة من الجرحى ، بأن المستشفيات رفضت إسعافهم بحجة أنهم من ” العصاة “، وهذا لفظ كان يستخدم من قبل الحكومات العراقية للدلالة على من يقف ضد السلطة من الأكراد في شمال العراق .

لقد دفعت صوريا الشهيدة ثمناً لعمل لم ترتكبه !!!

نعم لقد تواجدت جهات سياسية وعسكرية وحزبية متعددة وضد السلطة في تلك المنطقة ، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو :

ألم يحن الوقت لكي يتقدم الشرفاء ممن لهم ثقلهم السياسي الآن ويعترفوا بوضعهم اللغم في الطريق ؟

أو أن تعلن إحدى الجهات مسؤوليتها عن الحادث وتعطي الشهداء حقهم في الممات بعد أن حُرموا منه في الحياة ؟

أين الأستاذ سركيس أغا جان من تكريم هؤلاء الشهداء المغدورين ؟

هل يمكننا مطالبته ومطالبة حكومة أقليم كردستان وعلى رأسها الأستاذ الفاضل مسعود البرزاني ليصنعوا تمثالاً للشهيدة البطلة ليلى خمو يحكي قصة أستشهادها ويضعوه في مدخل القرية لا سيما وأن أحد الشهداء كان أسمه بديع بارزاني .

ألا يحق لنا مطالبة الحكومة العراقية وعلى رأسها مام جلال والسيد المالكي بتكريم ذوي الشهداء ، والشهداء جميعا ؟

ألا يحق لنا المطالبة بصنع تمثال للكاهن الشهيد ونطالب ببناء كنيسة تحكي قصة أستشهاده؟

ألا يجب على مؤرخينا الأفاضل أن يوثقوا تاريخ القرية الشهيدة صوريا ، ويذكروا المجرم الذي قام بفعلته الجبانة وتمثيله بجثث الأبرياء ؟

ألا يحق لنا مطالبة حكومة أقليم كردستان بإصدار طابع تذكاري بمناسبة مرور الذكرى الأربعون على هذه المجزرة البشعة ؟

إخوتي الأكارم

إننا نوثق جزءاً من تاريخ أمتنا الكلدانية ، لكون الرجال هم مَنْ يرفعون شأن أمتهم عالياً ، وبهم تُستنهض الهِمَم وتتدافع فتيان الأمة بالمناكب للذود عن هويتهم القومية وتراثهم التاريخي الثر .وكحال أمتنا الكلدانية والمحن التي مَرَّت و تمر بها والشر المستطير النازل عليها والمؤامرات التي تُحاك ضدّها وضد وجودها القومي ، يجدر بهذا الجيل أن يعي كنهه ويعرف ما ضيّه ليبني حاضره بناءً قوياً يكون اساساً صلباً لمستقبله ومستقبل الأجيال التي تليه .

أستشهد أهالي صوريا ومثواهم الجنة خالدين فيها لأنهم لاقوا وجه ربهم بعد أن تزودوا بالزاد الإلهي الأخير وأستمعوا إلى الكلمات الربّانية ، فذهبوا أطهار أنقياء القلب والضمير ، تخلصوا من كل خطية ، فلهم جنات الخلد مع يسوع والقديسين .

لتبقى ذكرى مجزرة صوريا فخراً لكل النساء العراقيات لما قامت به الشهيدة ليلى خمو .

المجد والخلود للشهداء جميعاً ومنهم شهداء صوريا الكلدان.

عاشت أمتنا الكلدانية البطلة .

دمتم ودامت أمتنا الكلدانية بألف خير .

نزار ملاخا / ناشط قومي كلداني

‏13‏/09‏/2011

 

You may also like...