اليس ما يقوم به تنظيم داعش وصمة عار في حضارةِ العروبة وإسلامِها؟ – بقلم: د. كوركيس مردو

 

يدَّعي شُذاذ الآفاق الذين في غفلةٍ  اخترقوا العراق، بأنَّ العراقَ وسوريا وغيرهما من بلدان الشرق هم بلدان إسلامية ولا يجوز لغير المُسلمين العيش فيها، ولذلك على هؤلاء إمّا اعتناق الإسلام أو الرحيل عن هذه البلدان، هذا ما أملاه عليهم فِكرُهم التكفيري الإجرامي بحق الإنسانية، وقد أعلنوه صراحة لمسيحيي الموصل التي وقعت فريسة بأيديهم في العاشر من حزيران الماضي 2014 فعاثوا فيها فساداً قتلاً وتشريداً وخطفاً ونهباً وسلباً أمام انظار العالم ومسامعه دون أن يُحرك ساكناً بل بقي ولا زال متفرجاً على مأساة شعب ببرود وبدون خجل! واليوم وجَّهَ الإرهابيون هجومهم البربري نحو بلدة بغديدا أكبر بلدات المسيحيين فلاذ أهاليها بالفرار متوجهين الى منطقة كردستان ولحق بهم أهالي قرى سهل نينوى بدءاً بتلكيف وباطنايا وباقوفا وتللسقف والقوش هرباً من أمام ذئاب داعش الخاطفة، تَبّاً لكم أيها الوحوش الكاسرة.

 أيها الغزاة الطارئون، إن بلاد الشرق كانت المثوى الأصيل لأسلاف المسيحيين المُعاصرين قبل أن تطأها أقدام عرب الجزيرة المسلمين بأكثر من ستة قرون، فبأيِّ صفاقةٍ على نكران الحقيقة تُقدِمون؟ المسيحيون هم أصحاب الحضارة والمحبة والسلام ويُمثلون قلب الشرق فإذا توارى هذا القلب عن النبض فهل يمكن للشرق استمرار الحياة؟ أوطان الشرق بلا مسيحيين ستكون مشوَّهة وهويتها ناقصة. إنَّ المسيحيين الذين تضطهدونهم، فيهم يكمن ضمير الشرق الذي منه تنبع أنهار التقدم والحضارة. ببشارة الإنجيل وايمانهم الراسخ بها قهروا العالم الوثني آنذاك وليس بالسيف والإكراه! فما كان يوماً مسعاهم الى السلاح بل الى الصلاح!

 أيها المُسلمون المعتدِلون من أهل السنة والشيعة، ستندمون على فراغ بلدانكم من المسيحيين ساعة لا ينفع الندم، لأنَّ مجتمعاتكم التي زيَّنها المسيحيون بالقِيَم الحضارية وأشاعوا فيها التسامح والتآخي والمحبة والتعايش المُشترك، ستزول كلُّها وتسود بينكم البغضاء فتفتكون بعضُكم ببعض ولن يكون هنالك مَسيحيٌّ واحد ليقوم بإصلاح ذات البَين بينكم، وسيكون ذلك بمثابة عقاب لكم كنتيجة حتمية لصمتكم على وحشية تنظيم داعش التكفيري، أليس السكوت على الإجرام المُرتكب باسم الدين علامة رضى؟ لا دينَ لمَن يُكفِّر الآخرين باسم الدين، أيها الداعشيون إن كنتم حقاً تؤمنون بالله القادر على كُلِّ شيء، فهل هو بحاجة ليقوم البشر بالدفاع عنه؟ أليست مناداتكم بشعار الجهاد في سبيل الله تجعل من الله ضعيفاً غيرَ قادر على الدفاع عن نفسه؟ أليس ذلك منتهى الكفر والتجني على قدرته اللامحدودة؟

 إذا كان للمسيحيين ثقة مهزوزة بمستقبلهم في العراق بسبب معاناتهم المُرة والمتواصلة حتى قبل احتلال تنظيم داعش الإرهابي لمدينة الموصل وإعلانه قيام دولة الخلافة الإسلامية، فإن تلك الثقة أصبحت الآن في خبر كان! ولم يبقَ لهم أمل في البقاء وإن كانوا على عِلم بخسارتهم لتاريخ مسيحيتهم لمدى ألفي عام في أرضهم إرث آبائهم وأجدادهم، وهذه الخسارة سيُعاني منها المسلمون في العراق والشرق الأوسط أيضاً لعدم اهتمامهم بالحفاظ على المكوَّن المسيحي الأكثر انفتاحاً في مجتمعاتهم من حيث اهتمامه بالعِلم والتعليم وتنشئة الأجيال ومساعدته بتنمية البلد ومناصرته لحقوق المرأة والإعتراف بكرامتها. إن جهود البطريرك مار لويس ساكو ومحاولاته مع اصحاب القرار والسلطة هي مشكورة وجديرة بالثناء، بيد أنَّ مخططات الدول الإقليمية والدولية ذات المصالح في إثارة الإضطرابات يطغى ضغطُها وتأثيرها على توجُّهاته ومطالبه الغالب عليها طابع الإطراء والثناء والرجاء المشوب بالإستجداء أحياناً، وذلك من أجل دفع الأذى وإبعاده  عن رعاياه، لا بل ينظرون إليها بأنها صادرة من موقع الضعف.

لا يمكن إغفال صيحات الإستنكار والشجب والإدانة التي تصدر عن المنظمات الإنسانية الدولية، وصرخات ذوي الضمائر الحية، فإنها مشكورة على اداء واجبها بتقديم المساعدات للمضطهدين والمطرودين من دورهم والمُصادَرة أملاكُهم ومقتنياتهم، ولكنَّ ذلك لا يُمثِّل ردعاً للمُعتدين الظلاميين الموغلين بممارسة الظلم والعدوان، فماذا إذاً بقيَ أمام المظلومين غير السعي كُلٌّ حسب إمكانيته لإيجاد حَلٍّ لمُعضلته، ولا يجوز الوقوف ضِدَّ اختياره.

  يا أفراد العصابات دعاة الباطل الحمقى مغسولي الأدمغة ومعدومي الضمائر إنكم على الباطل، وقد يكون للباطل جولة ولكن للحق جولات. لا محالة بأنَّ باطلكم الذي أردتم تحقيقه سينحسر إن عاجلاً أو آجلاً، وسيطالكم الذل والهوان وستنهزمون كالجرذان طالبين الإختفاء في الجحور ولن تتوفر لكم! سيذكر التاريخ باللعنة أعمالكم المُشينة التي ارتكبتموها بحق الأبرياء! بحق المسيحيين الذين كان لهم السهم الأوفر في نهضة العراق الحديث، كما كان لأسلافهم الفضل في الإبداع الحضاري القديم. أيها الأوباش، إن المسيحيين هم ملح الأرض فإذا أزلتم هذا الملح ستبقى الأرض تافهة وعديمة الجدوى، هم نور الشرق كالمصابيح، فإذا اختفت المصابيح سيُخيم الظلام وسيتلاطم الأنام، وسيتفاقم الظلمُ والخصام.

أيها المسيحيون، ليست الضيقات بغريبة علينا، فقد أعلمنا بها ربُّنا وفادينا يسوع المسيح، بأننا سنعاني الكثير منها من أجل اسمه، وقد خبرها من قبلنا الآلاف المؤلفة من المسيحيين عبر الأجيال، فعلينا أن ننظر بعين الرجاء الى المسيح  مُخلصنا، فهو غير غافل عنا بل يرانا ويعلم بمتاعبنا، فلنوجِّه إليه أنظارنا بايمان وثقة فهو المُعين الحقيقي. إذا أوصِدت الأبواب أمامنا فلنطلب من المسيح فتحها فهو مالك المفاتيح لكُل الأبواب الموصَدة.

لقد اوصانا المسيح الرب: أن نُحبَّ أعداءَنا ونُباركَ لاعنينا ونُصلّيَ من أجل مُضطهدينا وأن لا نُقاوم الشرير! هل هنالك أبلغ من هذه الوصايا؟ نحن لا نهتم بهذا العالم الفاني لأننا نتوق الى العالم الخالد الأبدي، وهذا لا يعني عدم الإهتمام بما هو ضروري لديمومة الحياة كالعمل والبناء والعلم ليتسنى لنا مساعدة أنفسنا وإخوتنا الآخرين. أيها المسيح الرب لا تدع قِوى الشر أن تتمادى في تطاولها على قِوى الخير، إحفظ كنيستك المُفتداة بدمك والحاملة لصليبك على مدى مسيرتها الطويلة، إنَّ النكبات التي تنتابُها هي      المُحفِّز القوي لتجدُّدِها وشقِّ طريقها بعزم وثبات.

 

الدكتور كوركيس مردو

في 7/8/2014 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *