الياس ياقو قودا


الياس قودا( الملقب ابن شلّي) احد رجال القوش البارزين في مغامراتهم اذا لم نقل بطولاتهم، لقد رفع اسم بلدته عاليا بين العشائر في النصف الاول من القرن العشرين. كانت ولادته عام 1897، ثم نزلت العائلة الى بغداد طلباً للعيش، كان معهم عمهم الذي تركهم ونزل الى البصرة، وبعد مدة توفي والدهم هناك، فما كان من والدته( تريزا) وهي من بيت بوكا الا ان تصحبه واخيه الاصغر الى القوش. اصيبت والدتهم في صغرها بعاهة في رجلها، لذلك اطلق على اولادها الياس وداود( 1903- 1935) عند رجوعهم الى البلدة باولاد شلّي. في فترة السفر برلك شبّ الصبيان ليصبحا من رجال القوش الشجعان في فترة العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، نشأ الياس ورضع وتشبع من قيم الرجولة والمغامرة التي كانت سمة ذلك الزمان، حيث لم تكن المثل والمبادئ وحتى القوانين التي نعرفها سائدة، كانت الرجولة تقاس قبل كل شيء بالجرأة والتحدي، في العشرينات شكل الانكليز( الليفي) وهي ميليشيات محلية لحماية مصالحهم، انخرط الياس في تلك الوحدات في مدينة الموصل، هناك تدرب على الاسلحة وفنون القتال والدفاع وغيرها من الاعراف العسكرية، وعند خروجه منها اقتنى سلاح جيد هو البرنو بجانبه المسدس والناظور، واصبحت وجهته المغامرة والولع بالسلاح، وفي احيان كثيرة العصيان في الجبال، وعلى ذلك الطريق اشتدت علاقته باثنين آخرين هم: ميخا زراكا( 1897- 1965) وسليمان كتو( 1904- 1930) فارتبطوا باوثق الصلات واصبحوا باسلحتهم وهندامهم وقيافتهم يجوبون الوديان والجبال، لا يقف عند طموحهم حد، ونتيجة تلك الاعمال وغيرها صاروا مطلوبين بشدة للحكومة.

يذكر المطران يوسف بابانا ما يلي( في سنة 1924 قدم الى القوش حاكم الموصل الانكليزي الجنسية ” نولدن” وطلب من يوسف ﭙولا ان يكلف شخصا لايصال رسالة الى حاكم دهوك ” جالدين” فوقع الاختيار على الياس ياقو قودا المعروف بابن شلي وبينما هو في طريقه الى دهوك فوق جبل سينن وشيخ خدر اذ بطائرة تمر بتلك الاجواء، فصوب الياس بندقيته نحوها واخذ يطلق الرصاص دون ان يصيبها فاخذت الطائرة تحوم حول المنطقة تفتش عن مصدر النار غير ان الياس اختبأ في بعض الشقوق ورجع الى القوش دون ان يكمل مهمته التي كلف بها ومنذ ذلك الوقت اصبح مطلوبا للعدالة) * ص 165 هذا هو احد اسباب التحاق الياس بالجبل، وهناك من يقول انه قتل احد الغرباء حول القوش فاصبح مطلوبا، وقسم اخر يقول بان الياس قام بسلب احد البدو في اطراف القوش فاعتقل بسبب ذلك وعندما خرج، سمع بهروب اثنين من اصدقائه الى الجبل وهم ميخا زراكا و سليمان كتو، ربما ارادها حجة قوية ان يلتحق بهم فطعن زوجته” شمي بوكا” عدة طعنات بالخنجر ولكنها لم تمت، عندما حضر القس ابلحد عوديش لاعطائها مسحة الزيت شاهد الدم الغزير ينزف منها فتركها وخرج ثم عالجها اطباء البلدة الشعبيون فشفيت، اما الياس فقد هرب نحو الجهة الشرقية من القوش وعندما وصل الى الغدير كانت الشرطة تتعقبه فانتشرت في الارض التي بني فيها بيت المعلم يوسف رئيس، صاح الياس بالاولاد المتجمعين ان يبتعدوا حتى يصوب على الشرطة هنا يقول احدهم وهو صادق ياقو برنو ان مامور المركز اوقفنا قائلاً ” لا تبتعدوا، ابقو معنا !!.

تعهد امام سلطات الموصل احد مفوضي الشرطة بانه قادر على اعتقال الثلاثة المطلوبين الى الحكومة، فنقل الى القوش وسكن في بيت وردكي شيخو المجاور لقنطرة القوناغ( مقابل بيت رزوقي السعرتي) فلما سمع الثلاثة بعنتريات المفوض امام الاهالي، نزلوا من الجبل في جنح الظلام وتسللوا الى باحة المنزل الذي يسكنه، ثم طرق احدهم باب غرفة نومه، فاستغرب من ذلك الطارق الذي تجاوز الباب الرئيسي، ثم فتح الباب فرأى امامه الثلاثة بكامل اسلحتهم واستعدادهم، ارتجف من الخوف، قالوا له” نحن امامك الان فقم باعتقالنا ” هنا بدأت زوجته بالبكاء، فقالوا لها “لا علاقة لنا بك، فقط جئنا نسلم انفسنا الى زوجك” ، اخذ المفوض يعتذر منهم بشدة، ويقول” انا لم اقل ذلك والناس تبالغ وتنقل اخبار غير صحيحة “، فقالو له” اطلب فورا نقلك من هنا ومن اجل مصلحتك” ، ويقال انه في اليوم التالي استدعى احد سواق البلدة ليعود به وعائلته الى الموصل.

منذ ان كنت صغيرا وانا اسمع بتلك العملية التي ذاع صيتها، لقد حدثت في عام 1930 وتروى هكذا: وصلت اخبار بوجود الياس في كهف بمحلة اودو ويقال ان الشرطة انتشروا في الازقة واسطح المنازل ويقال ايضا بان اثنين من الانكليز كانوا معهم لمساعدتهم في القبض عليه، اعتقل شقيقه داود في المركز وعندما سمع الياس بانهم سيستخدموا اخيه داود درعا للدخول الى الكهف، اقلقه ذلك كثيرا اذ اي اطلاق على الشرطة سيصيب اولا شقيقه، لذلك اخذ يذرع المكان ذهابا وايابا وهو مطوق باحكام، وينقل عنه ما يلي: كان العطش قد اظماه فراى قلة ماء قرب باب الكهف فاندفع اليها يروي ظمئه، دخل الى عمق الكهف واخذ يفكر ان يقاتل بالمسدس حتى لا يقتل اخيه ويحاول بكل امكاناته سحبه دون اصابة الى عمق الكهف. بعد ذلك غير خطته بسرعة فوضع خمسة طلقات في مخزن البندقية واطلقها تباعا باتجاه باب الكهف، احنى المهاجمون رؤوسهم فاستغل تلك الفرصة فخرج مثل السهم الى فضاء الحرية عبر الازقة الضيقة، وعندما وصل الى بيوت آل وزّي صاح بالمهاجمين ان يلقوه خارج البلدة وسينتظرهم في تل المقبرات ليكون الحسم، لكنهم بدلا من اللحاق به، اخذوا يطلقون الرصاص في الهواء دون ان يتمكنوا منه.

فجر يوم من ايام القوش الجميلة، غادر سليمان كتو بيته وهو بكامل قيافته القتالية، ليحتمي بالجبل من مطاردة الشرطة له، واتجه شرقا ً فدخل وادي دير الربان هرمزد، وبعد قليل انحرف يسارا ً ليدخل وادي( برسملي) الرهيب بسكونه وسعته ووعورته. انه يعرف طريقه الذي اعتاد ان يسلكه في كل مرة، ليصل الى اماكن اكثر أمنا ً، وليمضي شطرا ً من حياته فيها مع عدد من اصدقائه المطلوبين ايضا. يبدو ان الحكومة قد جندت بعض القرويين للايقاع به، و كانت تلك المجموعة بقيادة حسن مصطو المعروف في المنطقة. بعد استطلاع ومراقبة جيدتين اتخذت تلك المجموعة مواقعها خلف الصخور، تنتظر مرور سليمان كتو، وحين اصبح في الوسط، تفاجأ بصوت واضح يأمره بإلقاء سلاحه وبرفع يديه، عزّ عليه الاستسلام فقال لهم( كيف القي سلاحي وانا رجل معروف لديكم، هناك متسع من الوقت للتفاهم ومعرفة اسباب كل ذلك) وجاء الجواب باستحالة التفاهم قبل التجرد من السلاح. في تلك الاثناء كان هناك رجلا ثالثا يراقب الموقف من مكان حصين، وقد سمع كل الحديث الذي دار فصرخ قائلا ً( كيف تجرأتم وبلغت بكم الصفاقة حدا تهددون حياة سليمان، انكم تحت مرمى نيراني، عليكم برمي سلاحكم جميعا ً امام صاحبي) . عرف حسن مصطو صوت ميخا زراكه فقال( يا سيدي( بالكردية أسْ بَني) ايها المحترم، ما كنا نود أيذاء سليمان، وهو صديق لنا، بل مازحناه لنختبر يقظته واستعداده) ، فاجابهم إجابة قاطعة( عليكم نزع اسلحتكم فورا ً أمام سليمان) ، وهكذا تم له ما اراد. ظل سليمان مسمرا ً في مكانه لا ينبس ببنت شفة، وهو مذهول لما يحدث امامه، عندها خرج ميخا من مكمنه فعانق سليمان بحرارة، وتصالحا بعد قطيعة وجفاء أحاطت علاقتهما في تلك الفترة، ووسط فرح الصديقين ببعضهما، اعادا اسلحة الجماعة، فأثنوا على موقفهما وهم خجلى من الحالة التي هم فيها، وكرروا شكرهم  لرجلي القوش في تلك الفترة سليمان كتو و ميخا زراكه.

كان ميخا زراكه عائدا من القوش الى معقله في الجبل، فوقع في كمين محكم لرجل اثوري اسمه ننّو، وهو نفسه مطلوب للحكومة ويعتد بنفسه وشجاعته، في تلك الايام دعته الحكومة وطلبت منه مقابل الاعفاء عنه ان يمسك الرجال الثلاثة( سليمان، ميخا، والياس) ، فاخذ يتحين الفرص ويتصيد ليوقع بهم، تحدث ميخا زراكه قائلا: كنت يوما عائدا من القوش الى الجبل فدخلت وادي برسملي وانا احمل بندقيتي وباقي تجهيزاتي، وانا كالعادة ماضي بحذر، ولكن في غفلة نادرة، واذا( نَنّو) الاثوري الذي اعرفه يشهر سلاحه قائلا ارم سلاحك فوراً( راپي توپخ) قلت: غيّر بدّل! قال: قلت لك ارم سلاحك! فقلت له: ننو انا اعرفك رجل شجاع ومقتدر ولكن ماذا ستقول الناس وانت صاحب غيرة أليس عيباً ان يقال بان فلان جرد ميخا زراكه من سلاحه، هذا شيء غير مقبول منك وانت ذلك الشهم، وهكذا وبنفس الاسلوب السابق، ارتخت آذان ننو كما يقال، فعلق بندقيته ليواجهني كصديق، وبلمح البصر انزلت بندقيتي آمراً: ارم سلاحك الان( راپي توپخ!! ) ومهما حاول بل وترجى ان اتركه، قلت حازما: ارم السلاح بسرعة؟ فرماه، ارمي كل معداتك؟ ففعل، ثم قلت: انزع ملابسك؟ …. حتى ابقيته على الداخلية فقط، تركته وعدت الى مجموعتي، وعندما رآني الياس مقبلا قال: ما هذا؟ قلت: مقتنيات ننو الاثوري، فقال هل قتلته؟ قلت: لا لم اقتله، فابدى رفيقي امتعاضه، وقال لو كنت في مكانك ما ترددت لحظة في قتله، فقلت له: تركته ليكن امثولة لغيره وليرجع الى بيته خائبا ولتسمع الحكومة ما جرى لمجندها.

كان الياس مطلوبا من قبل الحكومة، لا عمل له يعين اسرته، فاضطر عدة مرات لقطع طرق القوافل التجارية، في احد الايام نزل بسلاحه مسافة في دشت القوش مستصحباً معه احد شباب البلدة، بعد مدة قصيرة رجع ومعه بغال محملة بالاجبان، كان ذلك الزمان يناسب تلك الاعمال وتعتبر شجاعة وحاجة في آن، اشتكوا اصحابها في مركز شرطة القوش فتوجه المامور مع الشرطة الى بيت الياس الذي صادف ذهاب والدته لجلب الماء من الابار المجاورة فدخل مامور المركز يفتش البيت، وعند رجوع ام الياس الى البيت رأته منقلبا بمحتوياته فخرجت تستفسر من جارتها فقالت انها الحكومة. فانزعجت وانذرت، شقت طريقها الى المركز، دخلت دون استئذان غرفة المامور، واخذت تهاجمه بالقول: انت رجل وتدخل بيتي، والله لولا خجلي كأمراة لكنت امسكت بك واعطيتك جزاء لرعونتك، وجعلتك مثلاً( مثله ومرّه) امام اصحابك، ثم غادرت المركز وسط خرس ورعب شرطة المأمور.

بتاريخ 17- 5- 1930 ليلاً تواجد الياس قودا، ميخا زراكا، وسليمان كتو في احد احياء القوش، امام بيت ممو قلو القديم، اما ميخا فدخل ضيفا عند اسطيفو بجي بلو، في تلك الاثناء عبرت دورية من الشرطة امامهم وتفرسوا بوجوه بعضهم وعند وصولهم الى منعطف بيت وزي اطلقت الشرطة رصاصة باتجاه الرجال فحدثت معركة بين الطرفين انتهت بمقتل سليمان كتو واحد افراد الشرطة، فتركا البلدة كل من ميخا والياس الى الجبل واصبحا مطلوبين من قبل الحكومة، في تلك المعركة كل واحد من الثلاثة قاتل في جهة، وبعد وصولهم دير الربان هرمز عرف الياس باستشهاد رفيقهم سليمان مما تصاعد غضبه وطالب رفيقه ميخا بالرجوع والانتقام من مركز الشرطة، وكان يسمع حديثهم احد رهبان الدير فنصحهم بل ترجى منهم في العدول عن اصرارهم والتسبب في مشاكل اضافية  للبلدة وفوق طاقتها، بقيا مدة في الجبال المحيطة، ثم قال ميخا لالياس: لم يعد لنا حياة في العراق… فذهبا الى سوريا ومن هناك بعثوا خبرا الى رجل من بلدتهم اسمه نعيم متيكا صارو كان يعمل مترجما لدى القنصل الفرنسي وطلبو منه ان يتوسط لهم في الاقامة واستحصال رخصة حمل السلاح في البلدة( سي ملكا) ، بعد فترة قصيرة ادخلهم نعيم الى المسؤول الفرنسي وهم بعدتهم وقيافتهم الجميلة وكانهم بطلي افلام، فقام من مكانه ورحب بهم مصافحا وجلس يتحدث معهم ثم قال( اريدكم باسلحتكم ان تنزلوا الى المدينة التي ستخضع لكم) هكذا ظهروا في المدينة وفي وسط سوقها التي صارت العامة تحييهم وتحترمهم وبعد فترة اصبح ميخا زراكه رئيسا لتلك البلدة واشتهر هناك باسم( سفر اغا)حيث عاش مع عائلته واولاده، وهناك ولد له صبري وصبرية، ولم يعودوا الى العراق الا في حدود عام 1947. بعد مدة اختلف الاثنان فانفصل الياس وذهب الى منطقة الجزيرة عابرا الحدود السورية وهناك استقر في قرية كردية اسمها( شف صور).

في الثلاثينات، كان الياس يملك مهرة كحيلة رباها ودربها من ايام زمان، اينما يكون يصيح عليها فتاتي في الحال، يقال انه كان يمتطيها ليلة قي برية قفراء، فجاة توقفت، ضغط عليها فمشت مسافة قصيرة وتوقفت، عندها علم ان هناك شيئ غير طبيعي، فنزل من ظهرها واخذ يفحص امامه فراى اكواما متتالية لم يعرف كنهها، مشى مسافة اخرى وامامه تلك الاكوام الغريبة، اخذ يمشي على الاربعة ظنا انها مواقع تستهدفه، وظل يتقدم نحوها الى مسافة امتار فصاح عليهم بالسريانية والكردية والعربية فلم يجاوبه احد، قال ساكرر كلامي ثانية ان لم تجاوبوا ساقتلكم، جاوب احدهم فقال: نحن( بالعربية) فقال له: انهض، قال: لا استطيع لاني مكتوف، فقال: انت تكذب، قم على رجليك، قال: انا مربوط، فقال: اقلب، فقلب، عندها عرف ان عصابة قد سلبتهم بضاعتهم واسلحتهم بعد ان كبلتهم بالحبال، قالوا له: نحن اثنا عشر رجلا مع اثنا عشر بغلا محملا بالبضاعة( عبصي) وكل منا سلب منه سلاحه من بندقية ومسدس. تركهم هناك مشدودين بعد ان سالهم عن زمن الحادث، فقالوا في حدود نصف ساعة من الان، ركب الكحيل وتوجه في طريق ومن خبرته بالمنطقة والعصابات المتوقعة استطاع ان يصل الى القافلة، فظل خلفهم يتابعهم حتى وصلوا الى وادي فسبقهم وجلس ينتظر مرورهم في وسط الوادي، معلوم ان القافلة باسرها تسير وراء البغل الاول، واية كلمة( هوش) تتوقف الكروان، راهم يتقدمون وانتبه الى واحد منهم كان يسير بعيدا عن القافلة فعرف انه رئيسها ودائما في مثل تلك الحالات يكون اقوى الرجال واكثرهم بأساً، صاح عليهم بالاستسلام ثم صوب بندقيته باتجاه رئيس الكروان واطلق، ثم اعقبها باخرى فثالثة وهو لا يبغي قتله، ترك الرجال القاقلة وانهزموا هنا تقدمت البغال نحوه فاوقفها، ادار البغل الاول وضربه على مؤخرته فدار الجميع لا يعلم ما حدث للرجال هنا احتار هل يركب مهراه اذ ربما الرجال كامنين امامه، لذلك ربط المهرة باخر بغل وسار بجانب القافلة باتجاه اصحابها الموثقين من قبل العصابة، في الطريق لم يسمع صوت او حركة امامه فتيقن ان تلك العصابة قد ولت هاربة، حتى وصل الموثقين، حل وثاق احدهم وقال له: اذهب الى بغلك وسلاحك ففعل وهكذا جميعهم، وسالهم ان كان كل شيء قد استعيد فقالوا كل شيئ كامل وليس هناك نقص، فقال لهم تستطيعون المواصلة فقالوا قسما لن نذهب قبل ان نهبك بضاعتنا فقال لا اريد شيئا ثم اصروا ان يعرفوا من يكون فقال لهم لا تتكلموا في هذا الموضوع، ساستمر معكم حتى تتجاوزوا اماكن الخطر، هكذا كان، وقبل ان يفترقوا طلبوا اسمه بالحاح، فقال ادعى الياس شلي من القوش، فشكروه كثيرا ومضوا،( تبين فيما بعد انهم كانوا من العشائر المؤثرة في مدينة الموصل).

الياس ترك زوجته شمي في القوش ولم يكن لهم اولاد، هناك خارج حدود العراق في قرية شڤ صور( بالكردية ومعناها الليل الاحمر)  تزوج ارملة من تلك القرية كان لها طفلين من زواجها الاول، اما البنت فتوفيت فيما بقى ابنها خليل مع امه وزوجها الجديد الذي انجبت له ولد سمي فيما بعد جميل الذي تزوج في حدود عام 1950 من ابنة عمه حياة داود قودا، وثلاث بنات اسمائهن: هدية، زكية، وحمدية. اما خليل فقد كبر مع اخواته وامهم واستقروا في دهوك بعد ان انفصل عنهم الياس شلّي عند عودته الى القوش ورجع الى زوجته التي انجبت بنتا اسمها( سعيدة ) . تشاء الصدف ان يصبح خليل من افراد قوة البيشمركة في الجبال المحيطة، وفي احد الايام جاء برفقة المرحوم الياس حنو الى بيتهم المعروف موقعه، يقول الصديق نجيب الياس حنو بانه راى خليل يركز نظراته باتجاه الجبل، فقلت ما الذي يشغلك؟ فقال لي: هل ترى ذلك الضوء البعيد الخافت عند الجبل، قلت نعم ذلك بيت الياس شلي، فقال: انه بيت ابي، ولم اقتنع كيف يكون هذا الفتى المسلم ابن الياس المسيحي، في اليوم الثاني سال نجيب والده فاجابه: انه ابن زوجته الذي تربى في كنفه، وروى له كامل القصة. في اواخر الثلاثينات وصلت والدته وبعض اولاد اخيه داود الذي قتل في اواسط الثلاثينات، فاصبحت عائلته تتكون من والدته واولاد اخيه جمعة و حليمة، قضوا عدة سنوات في تلك الاصقاع من ريف ولاية الجزيرة( تركيا حاليا) وفي النهاية عادوا الى العراق.

كم كانت تمتعنا جدة والدي المدعوة نني ساكو( دادا ننيكي 1864- 1961) عندما تنقل عن شلّي والدة الياس عبورهم نهر دجلة في رحلة العودة الى العراق، وكيف استقلوا وسيلة نقل اسمها القايغ( بالتركية بمعنى الصحن الكبير او ما يشبه القفة) التي كانت مطلية من الداخل بالقير، استقلوها وسط نهر هائج في ذلك الوقت، وقد حبسوا انفاسهم والاطفال معهم، لكن في النهاية وصلوا الى شاطئ الامان فصدر عنهم هتافا لا زال صداه الموسيقي يتردد( خير الله، وعبرنا الشط) ، فيما بعد وكلما تسمع دادا ننيكي خبرا سارا حتى تنهض مبتهجة، راقصة، ومرددة ذلك النداء الجميل الوقع( خير الله وعبرنا الشط). عادت شلي واولاد داود الى القوش فيما بقي الياس مدة اخرى في الجبال القريبة من البلدة.

في تلك الفترة كان الياس شلي عند بيت الشيخ نوري( 1870- 1944) كان الديوان يعج بالرجال، خاطب الشيخ القوم بالقول: انتم لا تستطيعون جلب طالان( المواشي والابقار والدواب) العشيرة المجاورة، اذ كلما حاولتم طاردكم رعاتها فترجعون خائبين، وكرر كلامه، هنا انبرى الياس شلي بالقول: انا اذهب لجلب الطالان،  فقال الشيخ: اختار ما تشاء من الرجال، اجابه بانه سيختار برغبته، فاجاب الشيخ: لا مانع لدينا، فاخذ رجلين غير مسلحين احدهما اعرج والاخر مشلول( گجّا) فقال الشيخ: ما هذا يا فلان! اجابه قائلا:  الم اقل انا اختار، فوافق الشيخ على اختياره. يروي الياس القصة كما يلي: بكّرنا فجرا وتوجهنا الى قرية تلك العشيرة، انتظرنا حتى خرج الطالان وبرفقته اربعة رجال مسلحين ابتعدوا مسافة من القرية فصحت بهم ان يسلموا الطالان، فهبوا للدفاع وجميعهم بدأوا باطلاق النار باتجاهنا، واخذت اطلق عليهم مغيرا مكاني الى مواقع مختلفة فردوا علي بالمثل، هنا صحت بهم ان يتركوا الطالان وان بامكانه قتلهم جميعا، فانسحب الاربعة تباعا واستلمت الطالان وجعلت الرجل الافلج( كجا) يقوده والاخر في المؤخرة وانا سرت بجانب الطالان لحراسته، حتى وصلنا بيرفكان. فرح الشيخ كثيرا وتعجب كيف برجل واحد يفعل ما عجز عنه الرجال؟ قد يسأل احد لماذا اختار معوقين من رجال الشيخ؟ لانه بالتاكيد سمع بمغامرة اخرى شبيهة وتروى كما يلي:

عندما طرح موضوع الطالان كان رجل اخر شجاع من القوش اسمه شمعون طعان المتوفي عام 1954 جالسا في مناقشة الموضوع في ديوان الشيخ البيرفكاني فعبر عن رايه بالقول لماذا نسلب طالان العشائر المجاورة اليس الافضل ان نذهب بعيدا الى حدود السوران مثلا، فوافق المجلس على الاقتراح، وكلف شمعون بالمهمة وطلب منه اختيار الرجال، فاختار شمعون طعان ثمانية من رجال الشيخ لجلب طالان بعيد في منطقة السوران، قاتل شمعون لوحده الحراس وقتل واحدا منهم، فيما تولى الاخرون سوق الطالان، وعند عودتهم كان الثمانية يسيروا مع الطالان وشمعون في الخلف، شاءت الصدف ان يحمل اتجاه الريح صوتهم وهم يتآمرون لقتله، فلحق بهم وجعلهم يسيرون امامه حتى وصلوا بيرفكان، جلس شمعون لا يتكلم شيئا، فيما تحدث الرجال عن شجاعتهم في العملية وانهم قاتلوا بشدة ونسبوا كل شيء لانفسهم دون ان يعطوا دورا لشمعون، لم يصدق الشيخ كلامهم فدعى شمعون ليروي ما عنده فروى له ما حصل، عندها اخذ الشيخ يذم ويشتم رجاله، ثم اصدر امرا بالقاء سلاحهم والذهاب الى بيوتهم.

في احد الايام كانت نوبة الياس شلي في حراسة القرية بيرفكان، هكذا كانت القرية تضع حراسات من الصباح وحتى المساء لمراقبة المنطقة تحسبا من الاعداء، كانت اليقظة سمة تلك الايام. انهى نوبته وعاد الى القرية وفيما هو قرب ديوان الشيخ فاذا بثلاثة من اهل تلكيف معتقلين هناك، عرفهم، فقال لهم بلغة السورث الدارجة: لا تخافوا شيئا انا هنا، ثم دخل الديوان الذي كان يعج بالرجال كالعادة فلم يقم الياس باداء السلام الواجب واتخذ له مكانا في الديوان، هنا قال له الشيخ: ما هذا يا الياس انك لم تؤدي السلام، فاجابه: وهل هناك رجال حتى اسلم عليهم، غضب الشيخ من هذا الكلام، فيما جلس الياس على ركبة واحدة لمواجهة الموقف، قال له الشيخ: اخبرني بالمسالة، فقال الياس انا عائد للتو من حراسة من؟ فاجابه الشيخ من حراستنا، اذن كيف تاسرون اقربائي واحدهم متزوج من ابنة اخي وترموهم امام الديوان، فقال لجماعته ان يسكنوهم ويوفروا له متطلباتهم من الاكل وغير ذلك، قال الياس انا بامكاني استضافتهم.

في اوائل الاربعينات رجع الياس الى القوش في ليلة حالكة الظلام حيث خرج من احدى فتحات جبلنا الى احد الكروم التي كانت تحيط القوش في تلك الفترة، تفاجأ صاحب الكرم برجل مسلح، كامل العدة، رشيق القامة، سريع الحركة، لم يعرفه للوهلة الاولى لانه كان قد اطلق العنان للحيته، ولغيابه الطويل في الجبال جوالا في سوريا وتركيا والعراق، فقد طوى الزمن ذكرياته القديمة. ما ان شخصه صاحب البستان( خيرو قيا بلو) حتى تعانق الاثنان وجلسا يتحدثان، عندما سمع من الياس بانه ملّ حياة التجوال بين الصخور والاقامة في الجبال والكهوف حتى انها اي تلك الاماكن ملت منه، لذلك قرر الرجوع الى البلدة للعيش فيها ما تبقى من عمره، فارسل صاحب البستان من يجلب ماكنة حلاقة، فازال لحيته الكثه ليظهر طبيعيا في بلدته. يقال بان جماعة القوش من عقلاء( معقوله د ماثه) ورجال دين رحبوا به عائدا الى بلدته ولكنهم اشترطوا عليه ان يعطهم اليد والامان( ايذا وهيمَنتا) كي يوفق في اقامته الجديدة فلا يجدد الثار او ما شابه ذلك، فوافق ولكنه عاش حذرا مسلحا على الدوام، ومطلوبا قانونيا للحكومة.

في القوش لا يعطى حق الرجل الشجاع دائما، الياس لم يكن استثناء فلجأ الى بيت الشيخ البيرفكاني. لم يقتل احداً من بيت حاج ملو، بل انقذ الكثيرين من بيت الشيخ بوجوده بينهم، فهم لا يطلقون الرصاص عند حضوره دليل معزتهم لاهالي القوش، كان بيت حجي ملو يبعثون في طلبه لكنه لم يذهب اليهم، عندما صدر عفو حكومي عن رجال الحاج ملو دعوه ان ياتي معهم كاحد رجالهم لنيل العفو فرفض، ويذكر ان البطريركية الكلدانية في شخص مار عمانوئيل تومكا( 1852- 1947) لعبت دورا في العفو عنهم، وقد قيم بيت الحاج هذه المسالة فكانوا كل عام يبعثون بمنتجات زراعية خاصة الى مقر البطريركية في الموصل. في الفترات الاخيرة من حياته بعث في طلبه الشيخ صديق البيرفكاني وقد قرر ان يقيمه وكيلا على املاكه في قرية تلخش خلف جبل القوش فلم يوافق على ذلك.

حدثني الاستاذ الراحل جورج جبوري خوشو( 1920- 2003) انه عندما قرر السفر الى القوش لعرض مسرحية يوسف الصديق التي اخرجها عام 1943، كلفته ممرضة القوشية من بيت قودا في بغداد، بارسال بعض الادوية الى ابن عمها الياس، وهكذا حملها معه، وقد زاره في بيته في محلة سينا وصوّر له هذه الصورة:

في اواسط الاربعينات كان الياس معزوما عند جماعة قادمين من الموصل، ومتخذين من الغرف المحيطة بمار قرداغ مقرا لاقامتهم، كان الوقت غروباً عندما جهز نفسه ومر من امام رجال جالسين في احد بيادر محلة سينا، سلم عليهم، فردوا السلام، وطلبوا منه الجلوس ولكنه اعتذر لانه على موعد، ثم الحّوا عليه ليجلس قليلا. امتثل لطلبهم، وبعد الترحيب به( بشينا ثيلوخ) ناوله احدهم كيس التبغ فلف سيكارة ثم ارجعه الى صاحبه قائلا تعيش( خاه مارح) وما ان اشعل سيكارته حتى سمعت اطلاقة بندقية، فقال الياس على الفور انها اصابت جسدا اما ان يكون بشرا او حيوانا( يذكر والدي يونس وكان حارسا لغلته في تلك الليلة، انه بعد سماع صوت الرصاصة، صاح البصير إيّا حنّونا: ها هم الرعاة قد جندلوا ذئباً) ، وبعد قليل وصلت النداءات( الهاور) تنبأ بمقتل حنا حنينا مأسوفا عليه، فقال الياس انها مصادفة ان اجلس معكم قليلا والا كنت مارا في تلك المنطقة القريبة من الحادث( بيادر محلة التحتاني) قاصدا بناية مار قرداغ لتلبية الدعوة، ربما كانت تنتظرني مشكلة جديدة.

كان ججو تمو يسكن في البيت الذي شغله جردو القس يونان واولاده، وهو احد حكماء البلدة، ويتواجد باستمرار في الموصل، يقول ججو تمو بان المواصلة الذين كان لالياس فضل في انقاذهم عبر الحدود مع سوريا، اخبروه بان يبذلو كل ما في وسعهم لاخراج عفو عام عن الياس، لكنه رفض العرض وهو يقول: لا اريد عفو الحكومة، وفي احدى المرات جاء المدعو ايو بتو وكان يعتمر العقال والكوفية الى بيت الياس وهو قادم من الموصل من طرف العشائر والاغوات فيها( ايو بتو رجل من القوش يعيش في الموصل ومقرب الى اقوى عشائرها: عشيرة عجيل الياور) وهم بمثابة السلطة الحقيقية فيها، وطلب منه الامتثال الى طلب العفو وسيقدم على مساعدته رؤساء عشائر الموصل، وبانهم لم ينسوا فضله عليهم، فرفض تلك الدعوة ايضا.

ظل الياس يرفض الكثير من دعوات التوسط لنيل العفو عل قضايا سابقة معلقة، وحتى فترة الخمسينات، عندما كانت احدى قريباته تعمل في بيت الوزير عمر نظمي في بغداد، فعرضت الموضوع عليه، وعندما راجع لم يعثر على اية قضية ضده وافهمها بان اوراقه لم تصل الى بغداد وانها بين الموصل والشيخان، وسيعفى عنه حسب القانون الذي ينص على اعفاء من ارتكب جناية وامضى اكثر من 15 سنة خارج بلاده، فاخبرت الياس بذلك. اضافة الى وجود المعلم المعروف سليمان يوسف بوكا في القوش، هنا اقتنع الياس باستحصال العفو الرسمي فارسل ابن اخيه( جمعة داود) صبيحة احد الايام الى عين سفني وهو يحمل رسالة من سليمان افندي، ويروي جمعة قصة ذهابه الى قضاء الشيخان كما يلي:

كان الوقت شتاء، اخذت معي عصا صغيرة، قصدت بلدة عين سفني مارا بطريق يبتدأ من القوش عند آبار الماء، وما ان قطعت مسافة قصيرة حتى نزعت الحذاء( كالك شيروخ) وعلقته في كتفي لان الطين كان كثيرا، بعدها لحقني راكب مسلح( ايزيدي) قال لي: الا تخاف وحدك ، قلت: لماذا اخاف، قال: قبل قليل تجاوزت ذئاب كانت على طرفي الطريق، في الحقيقة اني رايت واحدا على المرتفع فظننت انه راعي مغطى باللباد( كبنك) ثم افترقت عن المسلح في قرية بيبان الايزيدية، غادرتها شرقا فاذا الطريق ينقسم الى اثنين فاخترت واحدا ثم تفرق الى اربعة طرق فتوقفت حائرا، رايت رجلا فسالته فاشار الى احدها وبعد مسافة تشعب الطريق ايضا، فاتخذت طريق الوادي حتى وصلت قرية الجراحية، خرجت منها، واذا مئات الكلاب ملتمة فانتابني الهلع، وفكرت لماذا كل هذا العدد متجمع، ثم اهتديت الى وجود جثة بغل، فاي كلب يحاول الوصول الى الغنيمة تضج الكلاب وتتقاتل بينها فيتراجع، فجاة رايت صبيا يركض وراء حمار، صحت عليه بالكردية ان يعبرني، ولكنه اجاب بلغتي( السورث) بانه لا يريد مساعدتي، ثم لمحت امراة تخاطب الصبي بالسورث، فقلت لها انا منكم( سورايا) رجاء عبروني من الكلاب فصاحت المراة باللهجة الاثورية( يا بروند ݘلبه، اوه سورايه ديّنيلي رخش مهاييره) اصر ان لا يساعدني فجاءت المراة وعبرتني، بعد وقت عبرت مجرى ماء باتجاه قرية النصيرية التي كان يعيش فيها انذاك بيت هرمز ممو نيسان، هناك شاهدت رجلا داخل في( لوذا) سلمت عليه قائلا: هيفاراته بخير، خرج من التبن واجاب: خير وسلامت، قلت كيف اذهب الى قرية( ألمامان) قال مشيرا بيده من هناك. انا خرجت من القوش وكانت الدنيا ضبابا يحجب الرؤيا تماما وغيوما كثيفة تلبد الاجواء، كنت لا ارى شيئا، اتذكر عند خروجي وكانت الدنيا فجرا بين الظلام والضياء الاول( خشكا وبيرا) قال العم عيسى قودا لعمي الياس: نحن نريد ان ننقذ واحدا وانت ترسل اخرا، قال: دعه يذهب سوف يتبدد الضباب( خيبوثا) .

على اية حال خرجت من النصيرية وهناك طرق كثيرة، ثم لمحت قرية امامي فقصدتها وعندما جلست لارتاح فوق صخرة، خرح رجل ومعه حيوان ضخم( قنيانا) تاملته فاذا هو منصور( مشو) كجوجا من قرية( الحسينية) جاء يسالني: ماذا تعمل هنا، قلت، انا ذاهب الى المامان، تصور اني متمرد على البيت( زعلان) فقال: هيا نذهب الى بيتنا في الحسينية، قلت: لا انا ذاهب في مهمة، قال تلك قريتنا اطلب اولادي وهم يدلونك على الطريق. انت ترى القرية قريبة ولكنك عند السير اليها تطول المسافة اضافة الى الماء والاطيان التي تغوص فيها، كان الوقت عصرا والغيوم لا زالت تنذر بهطول اشد الامطار، صحت في قرية الحسينية فخرج رجل عرفته( بحو عبد الله خرات) ها ماذا تفعل هنا، قلت دلني على المامان فدلني باشارة من يده، قصدت القرية فرايت ساقية يجري فيها الماء هناك امراة تغسل الملابس على الضفة، ملابسها القوشية تكلمت معها السورث وانا اسال عن موقع بيت( الياس جونا كريش) كانت لا تجاوب، الححت عليها ودون جواب، عرفت بعدئذ انها لا تتكلم مع بيت الياس، هكذا كانت حياة القرى اضافة لضراوتها فان مشاكلها الاجتماعية كثيرة ايضا، واخيرا قالت: انهم في الطرف الجنوبي.

على مقربة من بيتهم لم ارى احدا، فصحت يا الياس( وو الـّو) فاذا عشرات الكلاب تخرج باتجاهي، ليس في يدي ما اجابه سوى العصا فاحركها واهرب منهم، الى ان خرج الياس واخيه كليانا الذي كان ينتشل عصا تستخدم في الحقل لاجتثاث الفئران، واخيرا وصلت اليهم، فقال الياس: خيرا ما الذي جاء بك في هذا اليوم الشتائي ولوحدك، قلت: يا الـّو انا اريدك توصلني الى عين سفني اليوم، قال: هل تستطيع، الست تعبانا، قلت: بامكاني، معلوم خطورة تلك السنة واصحابنا حذرين من الاعداء المتربصين بهم بعد حادثة القتل المعروفة، قال الياس لاهله ساذهب معه في هذه الوقت المتاخر واذا لم نعد حتى ساعة كذا فلا تقلقوا، واذا سمعتم صوت نباح الكلاب فانتبهوا بحذر، كان المساء يخيم في تلك الاجواء الريفية وانا والياس نسير على الاقدام باتجاه عين سفني.هناك نهر ونحن نعبره ضربنا ضفافه فتبللت ملابسنا تماما خرجنا الى ارض صلبة( قراجا) وغسلنا واعدنا تنظيف احذيتنا( الكالك) ثم وصلنا عين سفني وناولت الامانة الى الياس فاخذها ودخل الى بيت المسؤول الحكومي، فدعاني وقال لنا: ساكون غدا في القوش. سالني الياس: ان كنت مستعدا للرجوع الى المامان في هذا الوقت، قلت: نعم، رجعنا واذا الجو صحوا وقد اختفت الغيوم ليحل محلها القمر والنجوم، في تلك الاجواء قال الياس: لدينا قطعة مزروعة بالعدس سمعنا ان الرعاة ادخلو فيها اغنامهم ولنرى ما حصل، شاهدنا في ذلك الليل بعض اطرافها قد التهمت من قبل اغنام الرعاة. وصلنا النهير الذي قبل المامان، رايت الماء الجاري بقوة وانا لا اجيد السباحة فرميت نفسي الى الطرف الاخر وسالني الياس: هل انت بخير، قلت: نعم، تردد الياس قليلا ثم عبر ايضا، هنا اطلقت الكلاب نباحها واذا صوت يطالب بهويتنا، فاجبناه: اننا الياس وجمعة فرحبوا بقدومنا. نمت تلك الليلة في المامان وصبّحنا في اليوم التالي على الثلوج وهي تغطي المنطقة، ثم عرفت ان قافلة صغيرة متوجهة الى القوش، فساني الياس كريش: ان كنت مستعد للذهاب معها، قلت: نعم، هناك شخص اسمه( سليمان رشو) كلفني بايصال حمار له الى القوش فقبلت المهمة على مضض، لان الحمار سبب لي الكثير من المشاكل في المرور بتضاريس طينية، ولو كان احدا مكاني لتركه في الطريق، ولكنني صارعت من اجل ايصاله واوصلته.

قضية العفو عن الياس حركها من بغداد عمر نظمي ومن القوش حركها المعلم المعروف سليمان يوسف اسطيفان بوكا وكان معلما في مدرسة القوش الاولى للفترة من 1946- 1952، وكان على علاقة وثيقة بالمسؤول الحكومي في الشيخان. هكذا صدر العفو النهائي عن الياس قودا من قبل الحكومة العراقية، ولكنه لم يترك سلاحه وحذره الشديد في السنوات اللاحقة.

كان بيت الياس يملك حصان وبغل وزوج من الكلاب الشرسة التي دربها بعناية فكان اهالي البلدة وغيرهم يهابونها، لذلك كان اهل بيته يربطوها في النهار ويطلقوها في الليل. في احد الايام كانت مجموعة من اللصوص( گناوي) خلف بيت شلي عند الارض التي كان بيت بتي تولا قد وضع الاساسات لبنائه، هناك جلس اللصوص، عندما اشرف النهار على الانتهاء والمطر يزخ برذاذه، اخبر ابن اخيه ان يطلق الكلاب كالعادة كل يوم، وبسرعة خرجت الكلاب تعدوا عبر السطح الى السفح الصخري واصبحت تنبح بشدة، ويزداد نباحها كلما حاول اللصوص التحرك، وعندما يلتزمون اماكنهم تسكت الكلاب، وهكذا حتى عيل صبرهم، واستمر ذلك لعدة ساعات، اراد الياس ان يهاجمهم ولكنه كان محموما في ذلك النهر وقدر ان لا ضرر منهم لحد تلك اللحظات، بعدها غادر الرجال وسط نباح الكلاب ودخلوا وسط البلدة، بعد مدة قصيرة طرق الباب(من الصفيح او التنك يحدث الكثير من الضوضاء عند الطرق عليه) واذا الطارق شعيا( شعوكي) فتح الولد الباب، فخاطبه شعيا قائلاً: قل لعمك بان دواب عيسى سرقت، حاول الياس عند سماعه الخبر ان يلبس ملابسه ولكنه لم يستطع بسبب ارتفاع حرارته فقال له: اذهبوا الى وادي اسمه( گلي وشته) و( يقع في الجبل غرب القوش) هناك تقطعون طريقهم، اجابه شعيا بان اللصوص اتخذو وجهتهم جنوبا، فقال الياس تذكر ما قلته. لم يقتنع الرجل بل تذمر قائلاً” لا زال ابن شلي في افكاره القديمة” فاجاب: انتم احرار. عندما سرقت الدواب اطلقت زوجة صاحب الدار نداء الاستغاثة( الهاور) فخرج اخوه ليمسك ذيل البغلة المسروقة وصار يمشي في الركب، بعد ان عبر اللصوص موقع يسمى( رش كوزا) قال كريم يقوندا فيما بعد وكان يحرس غنمه قرب ذلك الموقع” سمعت صوت الدواب، لكن أنّى لي ان اعرف انهم لصوص، ويقول ايضا في الفجر اسمع ضجيج الفلاحين( حراث الارض) فانهض من نومي واسرج دوابي لاذهب الى المرعى” ،عند عين محلة سينا شهر اللص سلاحه مخاطبا اسحق( اذا لم تترك البغلة ساطلق النار عليك) فتركها وعاد الى البيت.

اذن سرقت دواب( قنيانه) احد بيوتات القوش، شدّ اللصوص رحالهم باتجاه الجنوب حتى بلغوا التل الكبير( كرا) هناك جلسوا لبعض الوقت للراحة ثم قفلوا راجعين باتجاه( كلي وشته) الذي حددها بدقة العارف الياس شلي، ومنها ارتقوا الى قرية السيدا( سيدايه- سكانها من الاكراد الرحل- كوݘر) تتبع الاقوشيون آثار الدواب بواسطة قدم( صمّه) بغلة كانت احدى رجليها لا تستقر طبيعيا على الارض بل تظل شبه عمودية( ضريرة) ان وقع ذلك الحافر كشف وجهة اللصوص وبانهم من تلك القرية، فقد دخلت اثار الحافر الضرير ولم تخرج منها الى اي مكان اخر، فتاكد لهم بشكل قاطع ان الحرامية من سيدايه، فشكوا عند الحكومة بالموصل، فانكر اهل سيداي فعلتهم، فقالت الحكومة اخرجوا اثار الدواب المسروقة من قريتكم، فعجزوا ولكنهم دفعوا مبالغ من المال ليحصل التراضي بين الطرفين، لقد كانت توقعات الياس شلي في مكانها ، ففي الصباح الباكر خرجت ابقار( بُقرا) سيداي وفي طريقها الى المرعى ازالت كل اثار الدواب المسروقة من القوش.

خرج الياس يوما وكالعادة لوحده من القوش مساء، ودخل وادي الدير العلوي هناك شرع المطر ينهمر فاسرع الخطى باتجاه الدير وحتى لا يطول الحديث، عند وصوله الى بوابة الدير كان المطر قد بلل ثيابه تماما، وصار الماء يجري سواقيا في جسمه، طرق الباب، فسال البواب( دركفان) عن الطارق، اجاب: افتح انا الياس شلي، قال اصبر لاسال ابونا الرئيس، كان ذلك قانونا صارما، فلا يفتح الباب في الليل الا بامر رئيس الدير، نظرا للنوائب التي وقعت على  الدير في تاريخه، وفي ذلك الموقع الجبلي النائي والخطير. عندما سمع الرئيس بان القادم هو الياس امر الراهب المناوب بفتح باب الدير الضخم ليدخل الياس، سلم على الرهبان ثم اجلس على مقربة النار التي تضرم في الاماسي الشتوية في الدير الذي كان انذاك يعج بالصوامع وبالاخوة من مختلف قرى الشمال بخاصة، تناول العشاء عندهم وتناولوا ايضا الاحاديث المتشعبة التي كانت تشغل بالهم آنذاك، وقبل مغادرته مودعا باحترام، اعطي ثلاثة قناني من خمر الدير المعتق، فشربها في الطريق الذي يتجه شرقا الى قمتي( برگاره) و( نيره د ايوه) نزل الى البرج الطيني الذي اقامه الرهبان لحراسة بستان العنب( كرمه ديره علايه) كان السقف قد انهار من شدة الامطار الساقطة وبصعوبة دفع الباب البسيط الذي ضغطت عليه كمية من اغصان اشجار البلوط ( طره- او ݘلو) تجاوز الليل منتصفه فاراد ان ينام والماء يحيط به من كل جانب، فجمع الاغصان الغنية بالاوراق ونام فوقها واصبح ماء المطر يجري تحتها. عندما خلد الى النوم قليلا صار يسمع اصوات اشبه بحرف الشين( شش… شش) فز من نومه معتقدا انه كمين اعداء في طريقه، وخرج فورا من البرج( برجا) وصار يتعقب الاصوات حتى اقترب منها وهو حذر ويده على زناد بندقيته، واذا به يرى عددا من الاغنام يقودها اثنان من الامام والخلف، راقبهم جيدا ليعرف وجهتهم وعددهم فكانو يسرحون جنوبا في كرم عنب الدير ومعهم الاغنام وعددهم فقط اثنين من المسلحين. تيقن انهم لصوص قد سرقوا تلك الاغنام من احدى قرى السهل امام جبل القوش، تسلل حتى دخل وسط الاغنام، ثم استقام واطلق رصاصة في الهواء واعقبها باخرى فلاذ الرجلين بالفرار فيما التفّت حوله الاغنام مذعورة من صوت الرصاص، وبعد فترة من التنصت ساد الهدوء فتاكد من هروب الرجال، فساق الاغنام واحصى عددها فكانت 14 غنمة، ساقها عبر المرتفعات والوديان الى كهف قرب محلة سينا فوق مغارة تسمى( حلاوي) هناك ذبح الاغنام كلها وارسل خبرا الى اقربائه، فاقبلوا في دواب وحملوا ما تمكنوا من حمله من اللحوم الى بيوتهم، والباقي عبأ بالازيار( الدنان) ودفن في الارض وللان لم يعرف مكان دفنها .

دار حديث بين جماعة الثائر الاشوري المعروف هرمز ملك جكو( 1930- 1963) عن بطولات الياس شلي، فقال هرمز على مسمع رجاله: يجب ان التقي به، فارسل خبرا ينبأ بوصولهم مساء، فما كان المساء الا ودخل هرمز ومعه العشرات من المسلحين( قرابة الستين) وبعد الترحاب الحار والتحية والسلام: سأل الياس: هل انت ابن مالك جكو، قال هرمز: نعم، قال الياس: من الاسد تولد الاسود، ثم سأل هرمز مضيفه الياس قائلا: انت رجل مشهود لك بالشجاعة ما الذي كنت تخشاه؟ قال الياس: لم اكن اخشى شيئا، كنت اخترق الجبال والوديان في الظلام، لم يدخل الخوف الى قلبي، بل كنت مطمئنا بان الجبل والوادي يخافاني! عندما نطق الياس بتلك الكلمات ترقرق الدمع في عينيه، فقام هرمز من مكانه وقبله في جبينه.

ثم ساله كيف ترى يا عمي قوتنا: هل انت مقتنع بنا واننا سنحقق شيئا، فقال الياس: انكم في عرس انتم مجموعة وكلكم مسلحين اما انا فكنت اغلب الاوقات وحدي اتصدى لعوامل الطبيعة من برد وثلج وحر اضافة الى من يتربص للنيل مني، ثم طلب هرمز من الياس الانضمام الى القوة واضاف: ستكون على رأسها، فان قبلت ذلك فلن تصمد حتى الموصل امامنا، اعتذر الياس بسبب اعتلال صحته، وشكر هرمز زيارته التاريخية تلك.

في بيته كانت له عدة اشجار من بينها شجرة تين رشيقة تصعد الى الاعلى، جاء عصفور وحط في اعلى التينة ووالدي جالس عند الياس يرجع بندقيته بعد سياحة في وادي دير الربان هرمزد، قال لالياس اعطني بندقيتك اضرب الطير في راسه فقال له: هذه التينة عزيزة علي ربما تصيب الغصن الفارع، يقول جمعة داود: بان والدك دقيق الرماية ولكن مع ذلك لم يوافق عمي على المحاولة، ويضيف جمعة قائلا: كان والدك دائم الزيارة لنا. توطدت علاقة والدي به في نهاية الاربعينات عندما تزوج ابن خاله سنحاريب گولا ابنة اخيه حليمة داود، في احدى زيارات والدي له في البيت لاحظ ان اخمس بندقيته برنو متوسطة لم يكن جذابا، وقتها كان الوالد يعمل نجارا في سوق القوش فاقترح عليه تصليحه، فوافق، اخذ الوالد البندقية معه، فكك اخمسها، وصقله جيدا ثم صبغه باصبغ خاصة من نفس اللون فاعطت في النهاية البريق الذي افرح ابو جميل.

كانت بندقيته التي حملها على اكتافه في اخر زمانه البرنو متوسطة الطول وقبلها كانت له بندقية المانية سميت محليا هدية باش، كان شديد الاعتزاز بسلاحه من خنجر الى ناظور الى البندقية، يوما طرق بابه، فخرج ابن اخيه ليفتح الباب فيما هب الياس وحمل بندقيته، فتح جمعة الباب واذا الطارق زبير( زبو) المعروف من قرية بيبوزي وهو بكامل سلاحه واستعداده، قال له جمعة: من انت؟ قال: انا زبو، وماذا تريد؟ هل عمك هنا؟ نعم، اريد مقابلته، فقال جمعة: اصبر حتى ابلغه، رجع جمعة يبلغ عمه بهوية الطارق فقال له: هل هو مسلح، قال: نعم، ومن معه، قال: لوحده، قال: قل له ان يدخل، فدخل باحترام وسلم على الياس وجلس ثم ساله: عن قصد الزيارة، فقال: زبو جئت لاشتري بندقيتك، قال: هذا هو الغرض، قال: بلى، اجابه اجابة فيها نبرة حزم( بالكردية- زبو زبو تديت ايك جناوي فروشي) كرر اسمه مرتين تاكيدا واستصغارا: هل رايت احدً يبيع زوجته. فتلعثم زبو ولم يدري كيف يغادر بيت الياس شلي.

عانى في اواخر عمره من مرض في اطرافه السفلى كان يعيقه من السير الطبيعي، فاستعمل العصا( الكوال) لتعينه في المشي، قضى معظم وقته في البيت الملاصق للجبل او في الحقول الزراعية فلاحا، واصبح يجلس في ديوان محلة سينا، وتقرب من الكنيسة وغدا عضوا في اخويتها، صار يستقبل الزوار لمن سمع به وتاثر بمغامراته وبطولاته، كانوا يقصدونه من الموصل وبغداد وتلكيف، وشخصيات القوشية معروفة في ذلك الزمان منهم: جورج جبوري خوشو مدير مدرسة اللاتين، عبد الرحيم اسحق قلو، سليمان يوسف بوكا، منصوري دنحا( تلكيف) وغيرهم. كان مهندما ودائم الحذر والترقب، حتى باب بيته كان من الصفيح فاي احتكاك بالباب او طرق طارق فياخذ على الفور حذره. مات في اوائل 1964 في القوش، اقبلن بناته من دهوك يبكين عليه، وشاركن في مراسم الدفن المهيبة على تل مقبرات البلدة التاريخي، وهن ينشجن الاغاني الحزينة باللغة الكردية.

كان توما توماس دائم الزيارة له،حيث لا يبعد داريهما سوى بضعة مئات من الامتار، تحدث توما يوماً قائلاً: انه كان مهاجم من قوة عسكرية في القوش وكان الياس جالسا امام بيته معاق من الحركة بسبب عجز في اطرافه السفلى، دعا توما اليه فاقبل رغم ضيق الوقت بسبب هجوم القوات الحكومية، قال له يمكن لن تراني مرة اخرى اترك القوش امانة لديك فلا تغترب عنها ولا تعطها ظهرك بل تذكر انها بحاجة اليك، اودعك، فاحتضنا بعضنا واذا وجه الياس تغمره الدموع، يعقب توما بانه عنما اختط طريقه عبر الجبل لم يفكر ابدا بكمين امامه او قوة تتعقبه بقدر ما شغل فكره كلمات الياس الاخيرة، بعدها لم يلتقيا ابدا.

توما توماس بگو عراق ول سورية

شمّه ايذيئه بأرد عجم ول تركية

كُد كماخيله أرخِح بطورا ين بگلية

دمرَت وولِه الياس شلّي ين برد سِيّة

معنى الابيات بالعربية:

توما توماس في العراق وسوريا

اسم معروف من ايران الى تركيا

عندما يقطع طريق الجبل او الوادي

كأنه الياس شلي او ابن سية

ملاحظات:

1- المصدر الرئيسي للمعلومات هو جمعة داود قودا.

2- المصادر الاخرى: المحامي المعروف عبد الرحيم اسحق قلو تولد عام 1919، الشماس صادق ياقو برنو تولد 1918، يونس ياقو دمان تولد 1928، تيفو خيرو بلو 1937، نجيب الياس حنو تولد 1946، حكمت جميل قودا 1964.

3- كتاب القوش عبر التاريخ تاليف مار يوسف بابانا- بغداد 1979.

4- فواجع الانتداب في حكومة العراق- يوسف ملك 1932.

nabeeldamman@hotmail.com

June 15, 2012

USA

You may also like...