المغالطة التاريخية .. الماضي بعيون نبوخذنصر

وردني عبر بريدي الالكتروني هذا المقال من صديق عزيز يبحث بجدية ونشاط بواسطة الاستعانة بالشبكة الالكترونية عن كل ما منشور أو مذكور من مفردات ومواضيع تتعلق بتاريخ وأساطير وحضارات بلاد ما بين النهرين، و خلال تجواله قرأ صدفة مقال عنوانه ( المغالطات التاريخية .. الماضي بعيون نبوخذنصر) منشور على موقع دربونة لكاتب مجهول الهوية ويبدوا أن كاتب المقال ملم كثيرا بتاريخ بلاد ما بين النهرين. كاتب المقال يفند المزاعم والمغالطات على هذه الجملة التي جاءت ( لو لم يتحالف نبوخذنصر مع الأجنبي لإسقاط الدولة الأشورية عام 612 ق.م، لما كان وضع العراق الحالي كما هو ألان) ضمن مقال ل( دوني جورج) رئيس هيئة الآثار العراقية والمدير العام السابق لمتاحف العراق. ارتأيت نشر هذا المقال المنقول ليطلع الأخوة القراء عليه وتعميما للفائدة

darbouna.blogspot.com/2009/05/blog-post_30.html

وديع زورا

wadizora@yahoo.com

2010 07 08

 

المغالطة التاريخية .. الماضي بعيون نبوخذنصر

 

” لو لم يتحالف المدعو نبوخذنصّر مع الأجنبي لإسقاط الدولة الآشورية عام 612 ق.م، لما كان وضع العراق الحالي كما هو الآن” .. هذه الجملة جاءت ضمن مقال لـ دوني جورج رئيس هيئة الآثار العراقية و المدير العام السابق لمتاحف العراق..وهو يقول لنا انه سمعها من أستاذ الحضارات القديمة في جامعة بغداد، البروفسور فاضل عبد الواحد .. كيف ولماذا ؟ لا تعرف .. هي قنبلة صوتية وكفى .. وليس من خصال الجمل المصوتة ان تبرر نفسها او تمنطق حجتها .. الجمل الصوتية تكتفي بصوتياتها ..تكتفي بضوضائها .. هي عندي اغبى جمل الاسبوع .. ومشاكسة الغباء واجب وطني في عصر مقتدى الصدر .

فحوى مقال دوني جورج هو ان الاشوريين اليوم يشكلون قومية اما الكلدانيون فلا يشكلون قومية .. وهو من اجل دعم “الامة الاشورية” يسخر الماضي بانتقائية ليست جديدة علينا من اجل ان ينتصر لـ”امته الاشورية” في الحاضر .. ولكن ما يهمنى في المقال هي القنبلة الصوتية : ” لو لم يتحالف المدعو نبوخذنصّر مع الأجنبي لإسقاط الدولة الآشورية عام 612 ق.م، لما كان وضع العراق الحالي كما هو الآن”.

من يقول لـ دونى جورج ان من تحالف مع “الاجنبي” لاسقاط الدولة الاشورية هو الملك نبوبولاصر وليس ابنه نبوخذنصر .. وهذا الخطأ الذي يرتكبه “رئيس هيئة الاثار العراقية” مضر حتما بسمعة هيئة الاثار العراقية .. ولكنني شخصيا لا اعيره اهمية كبيرة .. في الجملة ما هو اهم عندي من الخطأ في الشخصيات التاريخية .. في الجملة المصوتة نظرة اسطورية للماضي قتلتنا وما زالت تمعن بالقتل .. في الجملة خطأ منهجي يُطلق عليه في “الكواكب” التي تستفيد من ماضيها اسم المغالطة التاريخية.

مفردة “الاجنبي” هي الكلمة الاهم في جملة (” لو لم يتحالف المدعو نبوخذنصّر مع الأجنبي …. الخ).. لانها المسلمة التي يستند عليها المعنى المتضمن العام .. نبوخذنصر تعاون مع الاجنبي .. والمعنى المتضمن هو ان نبوخذ نصر ليس اجنبيا .. اي هو عراقي بالمعنى الكليشياتي السائد اليوم .. هو عراقي من وجهة نظر المحكية العراقية الحاضرة للماضي القديم .. وهنا نحن امام مغالطة تاريخية .. كلمة “مغالطة تاريخية” بالعربي لا تقول الكثير.. ولكن المغالطة التاريخية بالمعنى الاغريقي للكلمة هو خطأ في التاريخ سببه عدم التمييز بين الازمنة التاريخية وبالتالي الخلط بينها.. مثلا حين يتم اسقاط مفاهيم ورؤى الحاضر على احداث الماضي فانت ترتكب مغالطة تاريخية .. حين يقول سعودي اليوم ان النبي محمد سعودي فهو يرتكب مغالطة تاريخية .

غاية التاريخ كـ علم لدراسة الماضي هو فهم او عرض الماضي لا كما نراه نحن .. ولكن قدر المستطاع كما كان يراه ويعيشه ويفهمه الذين كانوا موجودين فيه .. واذا استطعنا فعل ذلك بخصوص “صاحبنا” نبوخذنصر ..فاننا سنفهم عندها الكيفية التي كان ينظر بها البابلي للاشوري او العكس .. و بالتالي معرفة هل كان نبوخذنصر “عراقيا” ام لا .. وهل تحالف هذا البابلي “الخائن” مع الاجنبي كما يقول لنا دوني جورج .

في كتابه “التاريخ بدء في سومر” يصف صاموئيل كرامر ونقلا عن النص السومري اول حرب اهلية ..بالاحرى اول تسجيل تاريخي (كتابةً) لـ “حرب اهلية” بين مدينتيّ لكش و اووما .. و قد كانت حربا من اجل الحدود بينهما ( لاجديد تحت الشمس !!) .. تنتصر لكش في الجولة الاولى .. يتم الاحتفال بهذا النصر على عادة تلك الايام برفع مسلات شارحة للحدث و لاتفاق ترسيم الحدود الخ .. ولكن بعد فترة يقوم اوش ايشاكو قائد اووما بنقض الاتفاق وتحطيم المسلات الحدودية ويسترجع الارض المتنازع عليها .. وتبقى الارض بحوزة اووما لفترة طويلة .. و عندما يتسلم عيناتوم السلطة (وهو حفيد حاكم لكش الذي قاد الحرب الاولى) يقوم بمهاجمة اووما واسترجاع الارض المتنازع عليها .. وما ان يمر جيل على تلك الهزيمة ويستلم السلطة في اووما حاكم جديد هو اور لوما حتى يقوم بنقض الاتفاقية و بتحطيم وحرق مسلات الاتفاق .. ولكن (وهنا المهم في حكايتنا ) ومن اجل ان يضمن اور لوما انتصار حملته هذه ضد لكش فهو يتحالف عسكريا مع ” الاجنبي الذي يحكم في شمال سومر” (التنصيص من كتاب كرامر “التاريخ بدأ في سومر” ص. 77 . من الطبعة الفرنسية لعام 1957) .

مصدر هذه الحكاية هو “مؤرخ” من مدينة لكش .. ولو قرأنا كل الوثيقة لعرفنا انها تطرح رؤية “لكَشية” للصراع .. ونحن اذا ما تذكرنا انتقائية رئيس هيئة الاثار العراقية ونحن في القرن الواحد والعشرين الميلادي .. فاننا حتما سنعذر انتقائية “رئيس هيئة اثار لكش” في القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد !! لا نطلب من اول وثيقة تاريخية عن “حرب اهلية” ان تكون موضوعية .. نحن اكثر من سعداء بهذه الوثيقة الرائعة حتى مع عدم موضوعيتها .. على الاقل ” رئيس هيئة اثار لكش” لايدعي انه يحمل دكتوراه .. ولا يجند مناصبه الرسمية والقابه العلمية كما يفعل صاحبنا “رئيس هيئة الاثار العراقية” من اجل دعم ونصرة قضية الامة الاشورية !!

كما ان مفردة “الاجنبي” في جملة ” رئيس هية الاثار العراقية ” هي اهم ما في جملته .. فان مفردة “الاجنبي” في وثيقة “مؤرخ لكش” هي ايضا اهم ما يهمنا هنا في وثيقته ..واذا ما تذكرنا ان التاريخ كعلم هو عرض الماضي لا كما نراه نحن .. ولكن كما كان يراه ويعيشه ويفهمه الذين كانوا موجودين فيه .. فان ما يقوله اللكشي هنا هو الماضي كما يراه شخص عاش فيه .. و اذا كان صحيح تاريخيا ان اللكشي كان ينعت من يسكن على بعد عشرات الكيلومترات الى الشمال من ارضه بالاجنبي .. فصحيح تاريخيا ايضا هو ان البابلي كان ينعت الاشوري الذي يسكن على بعد مئات الكيلومترات الى الشمال من بابل بالاجنبي .. خصوصا اذا ما وضعنا في نظر الاعتبار الصراع الدائم بين بابل واشور .

فالتاريخ يقول لنا مثلا ان خطر العيلاميين فقط هو ماكان يمنع بابل في بعض فترات صراعهما الطويل من مقاتلة اشور .. حتى حين احتلت اشور بابل خلال ما يقارب مئة عام ظل التمرد ديدن بابل .. لا بل حتى حين نصب اشوربانبيبال شقيقه حاكما على بابل فان هذا الاخير انتفض على شقيقه رغبه منه بالاستقلال عن وصاية اشور .. وقد احتاج اشوربانيبال اربع سنوات حرب لكي يفشل محاولة الانفصال “الاخوية” .. وبعد سنوات من ذلك نجح نبوبولاصر في محاولته .. و نجاح تمرد نبوبولاصر لم يكن بسبب تعاونه مع “الاجنبي” فقط (اشور تعاونت مع الفراعنة في فترة اسبق للتحرر اقتصاديا وبالتالي سياسيا من وصاية بابل) .. بل كان راجعا ايضا الى ذكاء هذا الاخير في التمرد بعد وفاة اشوربانيبال وهشاشة فترة انتقال السلطة التي شهدت كعادة تلك الايام صراع بين الامراء على العرش الاشوري .

اذا فالبابلي كان يرى في الاشوري شخص اجنبي كما كان يرى في العيلامي شخص اجنبي .. ولكن رئيس هيئة الاثار العراقية يرى الماضي بمنظار الحاضر معتقدا ان بلاد ما بين النهرين انذاك كانت تشكل وحدة سياسية .. وتجمعها هوية وطنية واحدة .. و الادهى هو انه يعتقد باعتباره “اشوري” يدافع عن “الامة الاشورية” بان الدولة الاشورية قد نجحت بفرض هوية “عراقية” على بلاد ما بين النهرين .. وهذا غباء ومن النوع المضر بالصحة .. خصوصا اذا علمنا ان الدولة الاشورية كانت تستخدم الحرب كوسيلة نهب اقتصادي وابتزاز لثروات الناس في المناطق الاخرى .. ووحشية الجيش الاشوري معروفة (رغم انها لم تكن حصرا على اشور) .. ونحن نعرف ان اخذ المناطق بالقوة قد يحصل على كل شيء ولكنه لا يستطيع انتزاع الولاء .

“نبوخذ نصر” كان يعتبر نفسه بابلي قبل كل شي .. وهو لم يكن يعتبر نفسه “عراقي” كما يضن دوني جورج .. وبهذا المعنى فان “نبوخذ نصر” .. عفوا نبوبولاصر لم يتعاون مع اجنبي ضد عراقي كما يعتقد دوني جورج .. وانما هو تحالف مع اجنبي ضد ما يعتبره اجنبي وهو الاشوري .. وعندما يعتقد رئيس هيئة الاثار العراقية ان نبوخذنصر او اشوربنيبال هما عراقيان فهو لايقل سذاجة عن المغني السعودي محمد عبده حين قال ان النبي محمد سعودي .. كلاهما يسقط الحاضر على الماضي .. يسقط تسمية معاصرة على الماضي .. والسبب لانهما يخلطان بين الثابت الجغرافي (الجزيرة العربية او بلاد ما بين النهرين) وبين المتغير التاريخي (الانظمة السياسية ومسمياتها وايديولوجياتها التي حكمت تلك الجغرافية) .

لا ننتظر من رئيس هيئة الاثار العراقية ان يقول لنا لماذا لم يقل جملته المصوتة هذه حين ساد شعار” من نبوخذ نصر الى صدام حسين بابل تنهض من جديد” .. لا ننتظر منه ذلك .. فالبشر اكلي خبز قبل كل شي كما يقول فلاسفة اليونان !! ولكنني اتمنى ان يقول لنا يوما (اذا كان يمتلك معلومات بهذا الخصوص) ما اذا كانت عقوبة قطع الاذن التي انتشرت في تسعينيات العراق قد استُلهِمت من شريعة حمورابي التي تقول احدى موادها : اذا قال عبدا لسيده ” انت لست سيدي” .. واذا ما قدم السيد ادلة على ملكيته للعبد .. فمن حق السيد ان يقطع اذن العبد” .. منذ قرأتي لهذا المقطع لاول مرة قبل ثلاث سنوات تقريبا وانا اتسائل هل تم استلهام عقوبة قطع الاذن في تسعينات العراق من شريعة حمورابي .. هذه الاحتمالية اذا صحت ستجعلني امقت اكثر القراءات الاسطورية للماضي .

نعم ..” لو لم يتحالف نبوخذنصّر مع الأجنبي لإسقاط الدولة الآشورية عام 612 ق.م، لما كان وضع العراق الحالي كما هو الآن” .. ربما ما كنا حصلنا على عقوبة قطع الاذن البابلية .. وانما عقوبه فقء العين التي كان يمارسها الملك الاشوري بعبيده واسراه .. المغالطة التاريخية لا تشكل اعتداء على الماضي فقط ولكنها غالبا ما تقتل الحاضر .

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *