الكلدان : بين الأسلام الوطني , والأسلام الأمريكي



ملاحظة :
يُقصَد بالكلدان مسيحيوا العراق بكافة كنائسهم , لكون الكلدان الثقل الأساسي للمسيحية في العراق .

لم يكن هدف أمريكا الذي خطَّطَت له بعد أنتهاء الحرب الأيرانية العراقية في آب 1988 , بل وقبلها , لم يكن هدفها أعادة العراق الى ما قبل عصر النهضة فقط ( كما قال جيمس بيكر لطارق عزيز ) من النواحي العسكرية والصناعية والأقتصادية فقط , بل كان هدفهم الرئيسي تفكيك بُنية المجتمع العراقي وتقسيمه الى طوائف وقوميات ومذاهب للقضاء على الرابط الجامع للشعب العراقي وبالتالي القضاء على رابط التلاحم الوطني وزرع بذور الفرقة والفتنة الدائمة بين مكونات الشعب العراقي , وتكريس المفهوم القومي والطائفي والمذهبي في جميع مكوناته مستندة بذلك على الشعار الأستعماري الأزلي ” فَرِّقْ تَسُدْ ” وتكريسا لهذا المبدأ وتثبيتاً للفرقة والتناحر بين مكونات الشعب العراقي , ربطت هذه المكونات برابط فولاذي يصعب التخلّص من شباكه , هو الدستور الذي سَنَّتْهُ على عجل وفرضته على القيادة التي أسلمت لها أمور البلاد ما بعد التحرير المزعوم .

لم يكن حال المسيحيين العراقيين بأفضل من أبناء وطنهم من الديانات والقوميات الأخرى من حيث ما طالهم من الأرهاب والقتل والتشريد والتهجير المنَظَّم , فأصبحوا أقليّة بين القوميات والمذاهب الأخرى بعد أن كانوا القومية الثالثة من بين القوميات , والديانة الثانية بعد الديانة الأسلامية , فأنخفض عددهم الى أقل من الثلث عما كان قبل عام 2003 , وأصبحوا لا يكوّنون سوى أقل من 2% من الشعب العراقي بعد أن كانوا 5% في عهود ما قبل الثورات التي كانت بدايتها عام 1958 , وكان لهم خمسة نوّاب في مجلس النواب العراقي الذي كان عدد نوابه مائة نائب , أي 5% من مجموع نوابه , فضلا عن العضو الدائمي لهم في مجلس الأعيان .

وفي مقارنة لحالتين من حالات المسيحية في العراق , في زمن الأسلام الوطني الذي يبدأ من تحرير العراق من الهيمنة العثمانية , والأسلام الأمريكي الذي يبدأ من بعد الأحتلال الأمريكي , نلاحظ مدى التغيُّر الذي طرأ على التعامل الأسلامي مع المسيحيين العراقيين .

1 – المسيحية في عهد الأسلام الوطني :

يروي الأستاذ صلاح عمر العلي في مقال له بعنوان “العلاقة بين الأسلام والمسيحية قبل 100عام” رواية عن الشيخ كاظم الدجيلي في رسالة له الى الأب أنستاس الكرملي عن ثورة العشرين, أن الأنكليزبعد أن يئسوا عن أيجاد ثغرة بين المذاهب الأسلامية , عمدوا الى أثارة الشحناء بين الطوائف الدينية وذلك بأختلاق وسيلة يتوصلون بها الى الفتك بأهالي بغداد , وقد أعدوا الفرصة المناسبة لذلك يوم ” عيد الجسد ” (1) وتدبروا تلك المكيدة الشنيعة وهي أنهم يأتون بعدة رجال من البوليس الوطني من المسلمين ويلبسونهم ثياب العلماء الأسلامية وعمائم بيضاء ويعطون لكل واحد منهم مسدساً ويتركونهم يندسّون بين المحتفلين حتى أذا ما مرَّ الموكب في الجادّة الكبرى (2) هجموا عليها وقتلوا بضعة أنفس وبذلك يتسنَّى للحكومة ضرب الأهلين والمطالبة بحفظ الأقليات “بأسم الدين “. ولما عَلِمَ المسيحيين بالمؤامرة , خافوا على أولادهم فطلبوا من رؤسائهم الروحيين أن يكون الزيّاح محصورا داخل المحلة ” عقد النصارى ” التي بينها الكنائس الأربعة وهي : “اللاتين – السريان – الأرمن – الكلدان ” (3) , ولما سمع المسلمون بالأمر ونوايا الحكومة السيئة أرادوا أن يزيدوها غيظاً , فأجتمعوا في يوم الأحتفال الذي صادف عصر يوم الأحد 6 حزيران , وساروا جمعا واحدا الى كنيسة الكلدان حيث يكون شروع الزيّاح منها وأشتركوا فعلا بالأحتفال مع المسيحيين , ولم يكتفوا بذلك بل أنقسموا الى قسمَيْن , قسم منهم أشترك في الأحتفال , والقسم الآخر وقف صَفَّيْن على الطريق الذي يمرّ منه الموكب وفرشوه بالسجّاد النفيس وحملوا بأيديهم الورود المختلفة الألوان , ومائها ” ماء الورد ” ولما مرّ الموكب أخذوا ينثرون الورود ويرِشُّون مائها ويهتفون ” ليَدُمْ مَجْد المسيح ” ويذكر أيضا أنه عندما وصل خبر المؤامرة الى المجاهد الكبير الشيخ مهدي الخالصي في الكاظمية قبل بدء الأحتفال بيوم , فما كان منه الاّ أن يوجِّه دعوة عاجلة الى عدد كبير من علماء المسلمين “شيعة وسنّة ” للأجتماع والتباحث حول كيفية أحباط المؤامرة البريطانية , وفي ذلك الأجتماع تقرّرَ أبلاغ رجال الدين المسيحيين بخبر المؤامرة البريطانية , ولما أجتمع الوفد مع رجال الدين المسيحيين وأخبروهم بالمؤامرة , قالوا لهم بأننا علمنا أيضا بالمؤامرة , ولكي نُفَوِّتْ على الأنكليز هذه المكيدة , قررنا ألغاء الأحتفال لهذا العام, ولكن أخوانهم المسلمين أجابوهم على الفور , بأننا نُصِرّ على أقامة الأحتفال لهذا العام وبحمايتنا لكي يعرف الأنكليز بأننا شعب واحد بديانات وطوائف مختلفة .
هكذا كانت العلاقة بين المسيحيين والمسلمين في عراقهم قبل مائة عام , حينما كان الأسلام نقيّا من البدع وتدخلات المصالح السياسيّة ويقوده علماء أجلاّء مُشبَعين بالروح الوطنية الخالصة لوطنهم والخالية من أيّة مصالح دنيوية مادية ويعملون وفق مبادىء الأسلام الصحيح قبل مائة عام .

2 – المسيحيون في عهد الأسلام الأمريكي :

أسلام اليوم ولا سيّما بعد 2003 لم يترك حجّة لم يستخدمها للنَيْل من المسيحيين في العراق , أتهمهم الشيعة الصفويون بتهمة البعث والمد العروبي , ووضعوهم في نفس خانة السنّة والعروبيين , وأوكلوا مهمة أضطهادهم وأخلائهم وتهجيرهم من بيوتهم ومصالحهم في مدن بغداد والجنوب الى المليشيات الصفوية الشيعية وعناصر الجيش والشرطة التي يقودها مسؤولين عسكريين كبار( كما حصل في نوادي المشرق وجمعية آشوربانيبال وأحتقارهم الرموز الدينية للمسيحيين ) , بينما حاربهم الأرهاب القاعدي والبعض من السنّة ( المتأمركين ) ووضعوهم في خانة عملاء أمريكا بسبب ديانتهم , أستغلّهم الأكراد أبشع أستغلال بالضغط عليهم للمطالبة بمحافظة مسيحية في سهل نينوى , وبالحكم الذاتي , ليتم ألحاقهم بكل يسر فيما بعد الى حدود دويلتهم الموعودة , بحجة حمايتهم من الأرهاب , وبذلك أسسوا لفتنة بينهم وبين العرب وباقي القوميات في محافظة نينوى بدعوى التآمر مع الأكراد في أستقطاع أجزاء من محافظة نينوى وتسليمها للأكراد . في الوقت الذي كان أكبر نزوح مسيحي من محافظة نينوى الى الشمال قد حدث في ظل الحكومة الكردية التي كانت تسيطر على محافظة نينوى في عام 2008 , وفي عهد تلك الحكومة المحلية جرى تصفية عدد من رجال الدين المسيحيين في نينوى وعلى رأسهم شهيد الكلدان المطران فرج رحّو, ومؤخرا خرج الى الساحة لأضطهاد المسيحيين في شمال العراق الأسلام الأمريكي الكردي , المُطَعَّمْ بوهابيّة القاعدة لأرهاب المسيحيين المسالمين ومحاربتهم في مصالحهم وأرزاقهم وتدمير محلاتهم ( كما حدث في زاخو وسمّيل ودهوك ) , أنه أرهاب أسلامي أمريكي مُنَظَّم لأفراغ العراق من أصحابه الأصليين اللذين عاشوا فيه أجدادهم منذ طوفان النبي نوح , يحدث كل ذلك تحت أنظار الدُمى التي تُعتَبَر ممثِّلةً للمسيحيين في البرلمان دون أن تُحَرِّك ساكنا , لسبب واضح وهو كونها لا قاعدة مسيحية لها لأنها لا تُمَثِّلْ الا نفسها والأحزاب التي تنتمي اليها , وليس لها أية علاقة بالشعب المسيحي الذي يزداد أضطهاده يوما بعد يوم . أذْ في عهد الأسلام الأمريكي , سُلِبَت حقوق المسيحيين السياسية , ففي الوقت الذي كان من حقّهم عدد من المقاعد في مجلس النواب يتراوح بين ” 12 – 15 ” مقعد حسب القاعدة التي طُبِّقَت مع العرب والأكراد وبقية القوميات أي مقعد واحد لكل مائة ألف نسمة , لم يحصلوا الا على خمسة مقاعد , لا تمثيل فيها لكلداني واحد ,وبذلك جُمِّدَ سياسيا ” أكثر من ” 800 ” ألف كلداني في العراق والمهجر وحُرِموا من أي تمثيل حقيقي لهم في برلمان بلادهم . ولَم تلقَ ندائاتهم وأعتراضاتهم آذانا صاغية , لأن الذي تُسمَع كلمته في العراق الأمريكي هو حامل البندقية والصاروخ أذْ ليس من شِيَم المسيحي العراقي الا حمل صليبه فقط .

بطرس آدم
6\9\2012

(1) يبدو أن المسيحيين العراقيين في ذلك الوقت كانوا يخرجون في مناسباتهم الدينية ” بزيّاح ” في شوارع المدينة , وخارج الكنائس بكل حريّة وأمان .
(2) على الأكثر يقصد شارع الرشيد القريب من منطقة الكنائس في عقد النصارى
(3) يلاحظ عدم ذكر الكنيسة الآثورية وذلك لعدم وجود آثوري واحد في العراق آنئذٍ


You may also like...