القوش كجبلها سوف تبقى شامخة عبر الزمن .. ولكن ؟

 

القوش تبقى القبلة التي تتجه نحوها بوصلة حياتي  في حلي وترحالي ، في البعد المكاني عبر الشريط الزماني لعمري ، الذي مهما طال امده ، سيكون لحظة من الزمن الأبدي  ، وفي مخيلتي دائماً اختصر الوطن العراقي في نقطة واحدة عزيزة الى قلبي وهي القوش ، فوطني العراقي يتجسد في القوش وسوف أذهب ابعد واقول : إن كان عودة للحياة مرة اخرى وسُئلت عن المكان الذي افضله للعيش فسوف اختار القوش لقضاء العمر الجديد .

 وحينما تشدني وشائج الحنين الى الوطن وترشدني البوصلة الى هذه النقطة ، فكلما اقترب من القوش يداهمني سرعة خفقان القلب ، وكأنما ارى المدينة لأول مرة ، فينتصب امامي جبلها الشامخ الذي يحتضنها بحنان وتبدو وكأنها الشبل الرابض الواثق من قوته ، وعبر تقلبات الزمن بقيت القوش مع قرينها الجبل وكأنهما صنوان لا يفترقان ، إنهما معاً عبر الزمن في الشدائد والمصائب والمحن ، فهامته تبقى شامخة تعانق اعنان السماء ومعه القوش ، هكذا كانت بالأمس وهكذا هي اليوم ، وهكذا كانت القوش عبر الآلاف السنين  وسوف تبقى هكذا الى ابد الآبدين .

كم يسعدني ان اسرح في ازقة القوش القديمة ، وتتدفق الذكريات من الزمن الجميل ، الذي انسل امامنا كشعاع ضوء عابر ، وأتساءل وأقول كم من الشموس غربت وكم من المراكب ابحرت من موانئ حياة هذه المدينة والتي ابحرت ولن تعود .

واليوم وانا في هذا العمر

حينما اقطع هذه الأزقة وألمح عيون فتاة جميلة

اعلم ان هذه العيون لم تعد تقصدني ،

 وفي بقية البيوت القديمة لم يعد فيها من اعرفهم ،

ولا هم يعرفون من انا ،

 إنني غريب في مدينتي ،

وفي البيوت الجديدة الجميلة اراها مقفلة ،

وحينما ارمي بسؤالي لأحدهم :

 اين من كان يقطن هذه الدار يعود الصدى ليخبرني :

 إن من جئت تطلبهم بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا …..

انا لم انسى مدينتي ، فهل يا ترى تنساني هذه المدينة التي هي حزء من كياني ، فيبدو ان الشمس التي كانت تشرق لي إنها تشرق اليوم على جيل جديد ، لا تشده أزقة القوش ودروبها التاريخية ، ولم يعد يرضى بهذه الحياة فهو يطمح ان يطير بعيداً كالطيور المهاجرة التي تحن لموطنها الأول فتقفل راجعة ، مرددة لحن :

 ما احلى الرجوع اليه .

شبابنا يطيرون بعيداً لكن دون عودة .

إن عبق الأزقة هذه وأنا امر امام الكنيسة لألوج القوناخ وأعرج الى مرقد النبي ناحوم لأنسل الى قنطرة محلة اودو وألف وأدور في هذه الأزقة التي لم تمتد اليها يد التعمير ، فأشعر فيها بنكهة التاريخ وعطر الأرض الطيبة ، وفي الليالي الصيفية القمراء من على سطح بيت عمي كيكا أتفرج على مهرجان الجمال والتأمل على مسرح السماء الصافية المرصعة بالنجوم  التي يتوسطها بمهابة القمر وهو في صورة البدر التمام .

حينما اكتب عن القوش تداهمني الحيرة من اي باب الوج الى هذه الدوحة هل ابدأ من تاريخها السحيق الذي يرجّح الثقات انه يعود الى العصور الحجرية ؟ ام اكتفي بتاريخها المكتوب في العصور التاريخية من السوبارتيين والآشوريين والكلدانيين ، لننتقل الى العهود الفرثية والسلوقية والساسانية والفتح الأسلامي والعهد العثماني والى اليوم ، ام اكتب عن ايمانها المسيحي منذ القرون الأولى للمسيحية ، ام الى يوم توجه نحوها الراهب ميخا النوهدري في القرن الرابع ويشيد فيها مدرسته العتيدة التي  لا زالت شاخصة الى اليوم ، ام الى ديرها العتيد دير الربان هرمز ، ام اقول : انها كانت مقراً للبطاركة العظام من النساطرة الكلدان كما يظهر من اختامهم التي كانت تذيل بها قراراتهم .

هل اعرج الى مبنى ناحوم الألقوشي ليتجلى التاريخ امامي من جموع اليهود الذين يتقاطرون الى هذا المرقد من مدن وقرى بعيدة ، وهل ابقى في المدارس والكنائس ام اتجه الى الحقول وأرى امامي السنابل تتمايل وتتراقص على انغام النسيم في فصل الربيع لتنبعث براعم الأمل والحياة وتجددها ، وكما كان يحتفل بها اسلافنا من الكلدانيين والآشوريين والسريان وجميع الأقوام الذين قطنوا هذه الديار .

 سابقى في طرق ومنعطفات ولحظات من الزمن قد تحتاج مساحتها الكتابية الى مجلدات ، ولهذا سأعزف عن الأستمرار في تلك الدروب ، لكي اكتب عما آل  اليه الحال اليوم  في هذه المدينة العريقة .

عبر الزمن تواترت على المدينة مظالم ونكبات وأمراض ومحن وغزوات .. الخ ، لكن اليوم يتسلل الى اوصال  القوش  مرض خبيث  ليس له علاج ، إنه سرطان الهجرة الذي اصاب الكيان العراقي بشكل عام ، لكن هذا المرض تفشى بشكل مريع بين المكونات الصغيرة  منهم الكلدانيون والاشوريون والسريان والأزيدية والصابئة المندائيين ، وفي القوش تسلل المرض في اوصالها وبات يهدد كيانها التاريخي ، فالوجود الديمغرافي للألآقشة  يسير باتجاه واحد دون ان يكون له بديل ، إنها عوائل بكاملها تنطلق من القوش دون رجعة ، وهنالك من ينتظر معاملات جواز سفر ، وآخرين ينتظرون بيع ممتلكاتهم وبيوتهم ، والقائمة  تطول ، الأسباب كثيرة والنتيجة واحدة ، الصديق (ع) يقول ان ابنه راح مع الزوعا بأمل ان يحصل على وظيفة وحينما ياس التحق مع البارتي ، وحينما لم يجد وظيفة توكل على الله وانطلق الى ارض الله الواسعة ، والصديق (س) يقول ان ابنه الكبير حينما تزوج ولم يجد له مسكناً ولم يعد لنا متر مربع واحد على هذه الأرض ولم يبق امام ابني سوى السفر وانا سالتحق به ، وسنذهب الى البلد الذي يمنحنا متر مربع من الأرض .

تحضرني الذاكرة لابن عمي أمجد وهو خريج كلية الزراعة ، وحينما هُدد في بغداد ، سافر الى القوش طالباً الملاذ الامن واسباب المعيشة ، ووجد امامه ابواب موصدة ، وانتقل الى عين سفني ليعمل في اعمال البناء ثم مشغل مولدة ، وهو يسكن مع عائلته الصغيرة في بيت حقير اقرب الى الصريفة ، وشاهدته يوماً مع طفليه وهو يظهر في قناة عشتار الفضائية التابعة للمجلس الشعبي ، وهو يحمل بيده كيس فيه بطانية وهو يقدم آيات الشكر والأمتنان لهذه   ((((( المكرمة ))))) من المجلس الشعبي ، وحينما خابرته استعلم منه إن كان ثمة مساعدات  اخرى فأفاد ان المساعدة لم تزد عما شاهدته بيدي من الأغطية .  ولم يبق امام ابن عمي سوى ان يأخذ عائلته ويتجه نحو تركيا ليتحلق بركب من ركب تلك الموجة .

 هذا هو واقع الحياة فأسباب الهجرة عديدة  لا يمكن ان نلم بكل جوانبها بمقال واحد لكن النتيجة واحدة . 

 كان الصديق آنو جوهر عبدوكا قد اشار الى ناقوس الخطر وشخص القوش ، ورد عليه الأخ رعد دكالي نافياً تلك المعلومات ، وكان الأخ رعد منطلقاً من محبته لالقوش ولبقائها ، لكن الواقع الموضوعي يشير بجلاء الى الحالة التي لا نريدها لكنها حقيقة مرّة لا مجال للتهرب منها .

ويبقى السؤال :

 الى اين تصل المعادلة ومتى يتوقف جسم القوش من النزيف الدموغرافي الخطير ؟

 لحد الآن لا تلوح في الأفق علامات ودلائل لوقوف او تقليل النزيف ، وبالعودة الى الوضع العراقي العام سوف نجد ان هذا الوطن المنكوب لا زال يعاني من التشرذم وعدم التوافق ، وحالة من التناكف من اجل الهيمنة على مقاليد الأمور ، وآخر ما يفكر به جميع القوائم الفائزة هو مصلحة الوطن ، فمصالح احزابهم  في البداية ومن ثم مصالحهم الشخصية وآخر شئ هو مصلحة الوطن العراقي . ولاشك ان القوش جزء من هذا الواقع المؤلم ، فإن استقرت امور الوطن العراقي فإن لألقوش نصيب في هذا الأستقرار ، وحينها سيكون واقع القوش جزءاً من الواقع العراقي . وفوق ذلك ثمة ألاقشة مخلصين تبقى مصلحة مدينتهم فوق مصالحهم ، وهم باقين في هذه الديار ، إن بقاء القوش هو اساس مكين للحفاظ على الوجود المسيحي في الوطن العراقي ، لقد ظلت القوش قلعة حصينة للمسيحية ولشعبنا الكلداني بالذات وحينما قصدها الأخوة الأثوريون في عام 1933 كان الألاقشة يقفون بشرف معهم ولم يهز موقفهم المشرف كل الأخطار المحدقة بهم .

إن القوش وجبلها الشامخ وبهمة شبابها وبحكمة كبارها  ومفكريها ورؤسائها الروحانيين ، وبمحبة اولادها المنتشرين في ارجاء المعمورة ، ستبقى القوش صامدة وشامخة كجبلها وستبقى القوش ( يما دمثواثا) الى الأبد .

 هذا ما انا واثق منه ، ومن يحب القوش ومن هو مخلص لها من اشخاص ومنظمات وأحزاب ،ان  يعمل من اجل بقاء هذه الدوحة الكلدانيـــة العظيمة محتفظة بخصوصيتها وبتراثها وبتاريخها وبلغتها ، وأنا واثق من اخلاص الجميع لها ، لكن الأمر يحتاج الى تضافر الجهود ، وتضافر الجهود يحتاج الى التفاهم والى نبذ الأنانية ، والى التصرف بحكمة مع جميع الجهات في المنطقة إن كانت عربية او كردية أو تركمانية او أيزيدية او شبكية او آشورية او سريانية .

 

حبيب تومي / القوش في 26 / 09 / 2010

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *