الفلسفة الكلدانية في الموسوعة البريطانية / ترجمة: الأستاذ الدكتور دنحا طوبيا كوركيس

توطئة

بينما كنت أبحث عن تاريخ الفلسفة ونشأتها، عثرت من قبيل الصدفة على عنوان فرعي ضمن مدخل “الفلسفة” تحت مسمى “الفلسفة الكلدانية” في المجلد السادس عشر من الموسوعة البريطانية التي ظهرت طبعتها الأولى سنة 1797 وتوالت طبعاتها منذ ذلك التاريخ حتى سنة 2010 . قرأت المعلومات الواردة في صفحة 307 من هذا المجلد فوجدتها مألوفة لدي إلى حد ما. ولكن لما كانت هذه المعلومة حبيسة الموسوعة ولم تر النور بالخط العربي (حسب اطلاعي)، قررت ترجمتها دون أي تصرف خشية ألا يتهمني أصحابي المقربين أو غيرهم مجددا بأنني أتعمد في حشر لفظة الكلدان في عناوين مقالاتي لغاية في نفس يعقوب أو يطعن بنزاهتي العلمية في النقل.

ترجمة النص عن الأصل

ثلاثة هي المواضيع التي تتناولها الفلسفة: الله، الطبيعة، الإنسان. نسمـّي تلك التي تتناول موضوع “الله” باللاهوت، وتلك التي تتناول “الطبيعة” بالفيزياء وما ورائها، بينما يخضع “الإنسان” لجدلية علم المنطق والأخلاق. ورغم الفصل بين هذا وذاك، إلا أن المواضيع الثلاثة تتداخل فيما بينها. وبما أن الإنسان حاول تفسير الظواهر من حوله إزاء مسبباتها منذ بداية وجوده، لا يمكن أن نعوّل على أية محاولة تسعى لتثبيت أصل الفلسفة بدقة. أما يبدي الأطفال إهتماما بدقات الطبل وإيقاعاته؟ لذلك، يمكننا اعتبار الأطفال، حالهم حال أي شخص أمـّي، فلاسفة زمانهم عبر العصور. بيد أن علينا الإقرار بأن الشعب الكلداني كان أول الشعوب التي اتخذت من الفلسفة ميدانا للبحث والتقصي. ومما لا يقبل الشك، فإننا لم نقرأ فلسفة لأي شعب سبقهم في التاريخ الإنساني. ورغم حيازتنا على نصوص موثوقة وموغلة في القـِدم عن الشعب العبراني، بل وسابقة لأية أمة قديمة أخرى، ما علينا سوى التسليم بحقيقة وجود شعب كلداني وحضارة لا سابق لها من بين الأمم. لكن الظروف الغامضة والغريبة التي ألمـّت بهذا الشعب طمست معالمه وأصبح البحث عن إرثه أمرا متعذرا، بل وأعاق مسيرة البحث العلمي الجاد. يزعـُم المصريون بأنهم أول أمة فلسفية أخرجت للناس، وأنهم أول من بشـّروا بتعاليم الدين ونشروا نور العلم في أرجاء المعمورة، لكن هذا الزعم باطل وعار عن الصحة بسبب ما تيسر لدينا من وثائق تاريخية أتلفها الدهر، وثائق تقيم الحجة بأن الكلدان شكلـّوا أمة حضارية عظيمة قبل أن يوطد المصريون سلطة حكمهم.

قيل الكثير عن الفلسفة الكلدانية وعـُرف القليل منها، وأهمها ما يتعلق بالعلوم الفلكية التي اشتهر بها الكلدان وذاع صيتهم. فعندما استولى الإسكندر المقدوني على بلادهم، كانوا يتفاخرون بأنسابهم بغلو مفرط، إذ كانوا يدّعون بأنهم تواصلوا في رصد الكواكب والنجوم على مدى 470000 سنة. ويبقى التفاخر شيمة من شيم كل الأمم التي تزهو بتاريخها. كان على (ليسثينيس)، الفيلسوف والمؤرخ اليوناني الذي صحب الإسكندر في حملاته الشرقية، أن يزود أرسطو بتقرير عن أصل العلوم في بلاد الكلدان. وجاء في تقريره بأن تاريخ مراقبة ورصد علماء الكلدان للنجوم والكواكب لا يتعدى حدود سنة 1903 – 2234 ق. م. ولكن يتعارض هذا التاريخ وحسابات بطليموس الذي لم يكن بوسعه تسجيل أي أثر كلداني لرصد الأجرام السماوية يسبق عهد نبوخذنصـّر أو سنة 747 ق. م. كحد أقصى. ورغم هذا الفارق الشاسع في تحديد التاريخ الدقيق، لا نشك في قدرة الكلدان على زرع بذور الفلسفة في وقت أبكر من هذا التاريخ لأن أرسطو، وفي معرض حديثه عن أقدم سجـّل لتاريخ الفلسفة، يتناول طقوس السحر الكلدانية التي سبقت ممارسات كهنة مصر، مما جعله يقرّ بأن الكلدان كانوا أهل علم حتى قبل ظهور النبي موسى على ساحة الأحداث. ومع ذلك، لم يتسن للمؤرخين الحصول على أدلـّة عما إذا كان الكلدان قد إشتهروا بعلوم أخرى إضافة إلى علوم الشريعة المتعلقة بحركة الكواكب والنجوم. جـُلّ ما استطاعوا الحصول عليه هو محاولات الكلدان في إقناع الجماهير بأن كل السلوك البشري مرهون بحركة الكواكب والنجوم والإفصاح عن درايتهم بالطبيعة والقوانين الكونية التي تتحكم بهذا السلوك. وفضلا عن ذلك، فقد دأب حكماء الكلدان على التظاهر بأن ما من أحد يجاريهم في قراءة الطالع والمواليد.

ومما تقدم، بوسعنا القول أن الوثنية والخزعبلات نشأت في هذه البقعة الجغرافية. ورغم الاعتقاد بأن الكلدان إنهمكوا بممارسة الخرافات، لا يمكننا نكران فضل الكلدان علينا، وإن كان محدودا، في نشأة التاريخ الحقيقي للعلوم. وخير شاهد نستدل به هو ما اقتبسه صاحب السيـّر اليوناني (لوكياس بلوتارك) والمهندس المعماري الروماني (ماركوس فيتروفياس) عن المؤرخ الكلداني بيروسز (بيروشا) قوله بأن خسوف القمر يحدث عندما يكون الجزء المواجه للأرض فاقدا للنور. وكما يحفظ لنا (سينزيلوس)، نقلا عن (بيروسز) أيضا، فأن نشأة الكون لدى الكلدان تتلخص بفكرة مفادها أن في البدء كان ظلام وماء وأن العناية الإلهية شطرت هذه الكتلة الرطبة وكوّنت العالم وأن العقل البشري إنبثق من الطبيعة الإلهية.

إن الأرض الشاسعة التي احتضنت الإمبراطوريتين الكلدانية والآشورية كانت أول مهد للبشرية على وجه الكرة الأرضية. ومن تلك البقعة الجغرافية إنتشرت مبادىء العلوم إلى أرجاء شتى من العالم. ولكن من كانت الأمة التي تلت الكلدان في رعايتها للفلسفة؟ إنه سؤال صعب يصعب تحديد جوابه بدقة.

الأردن في 30/9/2010

المصدر:
Anonymous (1797). Encyclopaedia Britannica: OR, A Dictionary of Arts, Sciences, and Miscellaneous literature.
Edinburgh: Archibald Constable & Co., Vol. 16, p. 370.

 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *