الـﭙـاﭙـا فرنسيس اليسوعي وثقافة الشعب : إن وعي الشعـوب هو الذي يحدد مستوى قادتها!!

 

 

إن إنـتـشار الشبكات الإلكـتـرونية الـيوم عَـبر الأثير هـو أحـد ثمار الـنهـضة الأورﭙـية عـلى يـد قادة الـثـورة الفـلسفـية والعـلمية والمعـلوماتية، والتي إخـتـصرتْ الجـهـود وقـصَّرتْ المسافات وقـلـصتْ الأزمنة بل ألغـتْ قـيمة مفاهـيم كالسرعة والـبُـطء والحـدود وكأنَّ العالـَم أمسى مدينة صغـيرة يمكـن الـتـنـقـل بـين أزقـتها المضيئة دونما حاجة إلى تأشـيرة دخـول أو وسائط نـقـل، فـتجـتمع القارات وساكـنيها خلال ثـواني عـلى لـوحة الـكـومـﭙـيوتـر، ولكـن هـناك شعـوباً لا تـزال تـتـداول في قـواميسها كـلمات كالإستعـجال والتأخـر والإنـتـظار وتعال غـداً.

لـقـد غـلـبتْ المنهجـية العـلمية في القارة الأوروﭙـية بـتـكـنـولوجـيتها فـتعاملتْ مع ماديتها وروحانيتها فأنجـبتْ شعـباً مثـقـفاً واعـياً يستـخـدم عـقـله فـيـدرك حـياته ويـنـتبه لِما يـدور حـوله ويتعامل بمنـطـقه ويميِّـز بَـديهـياته، فـنـراه يحـتـرم الـقائـد ولكـنه لا يسجـد له، يرفـض صكـوك الـغـفـران ولكـنه يتبرع لـفـقـراء العالم، أبعَـدَ الخـرافات عـن فـكـره ولكـنه إقـتـرب من الـواقع الملموس فـطالب بحـقـوق الإنسان وحـريته. أما عـلى المستـوى الروحي فـقـد قـفـزتْ ثـقافـته عـلى مفاهـيم اللاهـوت الـقـديمة لـيُـقـدِّم لـنا لاهـوتاً عـصرياً يتـناسب والـتـطـوّر الـفـكـري للإنسان.

فـقـد إستمعـتُ إلى محاضرة كاهـن عـراقي كاثـولـيكي دومنيكي معاصر ــ درس في أورﭙا ــ وهـو يفـسر المقاطع الأولى الـبسيطة من سِـفـر الـتكـوين، أعـجـبتـني مثـلما أدهـشتـني وفي الـنهاية إنـفـردتُ معه فـسألـته ــ وفي نيتي أنْ أجـيـب عـلى سـؤالي بنـفـسي ــ وقـلتُ له : لـو أنك قـدَّمتَ هـذه المحاضرة قـبل خـمسين سنة في ألـقـوش مثلاً! أتـدري ماذا كان يُـقال عـنك؟ لم ينـتـظـرني الكاهـن! بل أجاب بنـفـسه مباشرة وقال: سـيقـولـون عـني شـيوعي.

إن المسيحـية إيمان وممارسات في عالم واسع المساحات، حـدثـتْ فـيها أخـطاء شخـصية إبّان العـصور الماضية المظـلمة حـين كان رجال الـدين مهـيمنين عـلى حـياة ومقـدرات الشعـوب ولكـن معادلة الـيوم تغـيَّـرتْ بعـد أنْ تأثـرَ قادتها اللاحـقـون بالنـقـلة الـنوعـية الأورﭙـية وبـوعي الشعـوب وصاروا يواكـبون الزمن ويـتابعـون حاجاته المرحـلية بمنـظارها الـﭙانـورامي ولم يعُـد بإمكانهم تـكـرار تلك الممارسات التي شـوَّهـتْ صورة المسيحـية لحـقـبة من الـزمن، وعـليه فـقـد جاء الـﭙاﭙا يوحـنا ﭙـولس الـثاني نموذجاً رائعاً من بـين القادة الـكـنسيّـين الأفـذاذ، فـكان ضرورة لعـصره وأنجـز بنجاح المهام التي تـطـلـَّـبتها مرحـلته بالإضافة إلى إعـتـرافه بأخـطاء الكـنيسة، وإعـتـذاره الشخـصي بـدلاً عـن مرتـكـبـيها جـميعاً، وهـكـذا كان بَعـدَه قـداسة الحـبر بـينـدكـتـوس السادس عـشر لـيواجه معـضلات عالمية من نوع آخـر فأعـطى جـلَّ طاقـته حـتى إستـقال لـيواصل المهام الـﭙـاﭙـا فـرنسيس رئيس الـكـنيسة الـكاثـولـيكـية المنـتخـب في 13 آذار 2013 الـذي لم يألُ جهـداً منـذ أيامه الأولى، إلاّ ويستـثمره بكـل محـبة وإخلاص وبـذل الـذات لأجـل السير بها نحـو أهـدافها المرسومة بـذكاء وحـرص.

 إنه يقـتـفي آثار يسوع المسيح ويترجم وصاياه وتعاليمه إلى عـمل بما يستـطيعه وتـصل إليه يـده، إنه يكـلم البشرية بـرزانة وبساطة معـتبراً الـناس وُدعاء مثـقـفـين يعـرفـون المنـطق. لـقـد أتى هـذا الحَـبر من أرجـنـتين اللاأورﭙـية متشبعاً من بساطة شعـبه ومترفـعاً فـوق أبَّهة عـصره فـيتـنـقـل بواسطة وسائل النقـل العام كـما تخـلى عـن شَغـل مقـر إقامة الأساقـفة الفخم في بوينس آيرس. لـقـد كانت أولى عـلامات تـواضعه حـين أطـلَّ من شـرفة الـبركات/ البازيليك الـﭬاتيكانية عـلى المؤمنين المتجـمعـين لـتحـيتهم للمرة الأولى في 14 آذار عـنـد الساعة 20:22 عـقـب إنـتخابه وخـطـب قائلاً: أطلب إليكم أن تـصلوا إلى الرب لكي يـباركـني، صلاة الشعـب لـطلب البركة لأسقـفه، فـلـنـقـم بهـذه الصلاة بصمت، وفي لحـظة صمت إنحـنى الـﭙاﭙا لينال بركة الشعـب….. وهـنا تكـمن عـظمة الشخـص المتـواضع حـين أبـدى حاجـته إلى صلاة المؤمنين أولاً وليس الـعـكـس كـما يفـعـل الـكـثيرون وبتـكـبُّـر!.

وفي 16 آذار قال الـﭙاﭙا فـرنسيس للصحـفـيـين: المسيح هـو المحـور ومن دونه فإن الكـنيسة والـﭙاﭙا ليسا شيئاً، وأنَّ تـقـديم أخـبار الكـنيسة من وجهة صحـيحة هـو أمر هام، ورغـم إنـتـشارها فإن الكـنيسة ليست واقـعاً سياسياً، هي شعـب الله المقـدس ومن خلال الـنظر من هـذه الوجهة فـقـط يمكـنـنا أن نـفهم ما يجـري في الكـنيسة. لكـنـنا نرى الكـثيرين ــ وهـم عـلى دراية ــ قـد جـعـلوا من مُجـمَّع الكـنيسة منبراً دعائياً ومرتعاً لـنشاطات تـنـظيمات سياسية مكـتسية بـرداء إجـتماعـي للـتموية عـلى الـبسطاء، ودون أنْ نـفهم ما يجـري في الكـنيسة من مقايضات حـيث لا شيء لـوجه الله!!.

وفي 19 آذار يوم الإحـتـفال في الـقـداس بَعـد تـنـصيـبه قال: هـذا ما طلبه الله من داود، كما في الـقـراءة الأولى ــ الله لا يريـد بـيتاً يـبنـيه الإنسان بل يريـد الأمانة لكـلمته، لمخـططه، والله نـفسه يـبني البـيت مستخـدماً حجارة حـية مطبوعة بروحه ودَعـونا لا نـنسى أبـداً أن السلطة الحـقـيقـية هي الخـدمة . إلاّ أنّ حـياة آخـرين خـلتْ وتخـلـَّـتْ عن روحانية الله وأمانة كـلمته، وطـغـتْ عـليها المادِّية بحجة بناء بـيت لله وسياجه، وما أدراك ما خـلف السياج.

وفي كـلمة وجَّـهها يوم الأربعاء 20 آذار إلى الممثـلين عـن الجـماعات الكـنسية والهـيئات المسكـونية الـدولية والـديانات غـير المسيحـية الـذين إستـقـبلهم في قاعة كـليمنـتينا في الـﭬاتيكان قال: أحـيـيكم جـميعًا وأشكـركم بحـرارة أيها الأصدقاء الـذين تـنتـمون إلى تـقالـيد دينية أخـرى، أولاً المسلمون الـذين يعـبدون إلـهاً واحـداً حـياً، يجـب أن نـدع الـتعـطـشَ للمطلق حـياً في عالمنا، من دون أن نـدعَ تهـيمنُ رؤية الكائن البشري المبنية عـلى بعـد واحـد، الـتي وفـقاً لها يتخـذ الإنسان حجـم ما ينـتجه وما يستهلكـه، وهـذه واحـدة من أخـطر المعاثـر في عـصرنا. ولكـن الـبعـض لم يعُـد المطـلق في جـدول أعـماله بل بُـعـداً واحـداً متـناسباً مع الظاهـر من وزنه فـقـط، يستهلكـون ولا ينـتجـون!.

وكان غـبطة الـﭙاطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكـو قـد إلـتـقى في صباح يوم الخميس 21 آذار 2013 بالـﭬاتيكان قـداسة الـﭙاﭙا فـرنسيس ودعاه لزيارة العـراق كما فـعـل القـديس فـرنسيس الأسيزي الـذي سافـر إلى الشرق وإلتـقى السلطان مالك الكامل، مضيفاً: هكـذا نأمل أن يأتي الـﭙاﭙا إلى العـراق ليثبتـنا في الإيمان ويعـطي لجـماعـتـنا الصغـيرة في أرض إبراهـيم الشجاعة والرجاء…. فـفـرَحَ قـداسته كـثيراً بهـذه الدعـوة. وفي حـديثه مع قـداسته طلب غـبطته منه أن يتكـلم عـن المسلمين ويلتـقي معهم، كما كان يفعـل القـديس فـرنسيس مشددًا عـلى أهـمية الحـوار الـديني لأنّه عـندما يتحـدث رئيسُ الكـنيسة إلى العالم الإسلامي، سنُـقـيـّم نحـن المسيحـيون وسيحـترمنا الناس. الـبعـض يسافـر تمـلـقاً وتحـسُّـباً وتلافـياً ودرءاً عـن كـشوفات محـتـملة لـصفـقات مثيرة.

أما في يوم الخـميس 28 آذار فـقـد إحـتـفل الـﭙاﭙا فـرنسيس بعـيد الفـصح بطريقة غـير مسبوقة في أحـد سجـون روما عـندما أقـدم عـلى غـسل أقـدام مسجـونين بـينهم فـتاتان إحـداهـما مسلمة من صربـيا وذلك لأول مرة في أجـواء طغى عـليها الخشوع وقال: أنه أتى لـيقـوم بتلك الخـطوة من كـل قـلبه كـكاهـن وأسقـف، وأضاف مخاطـباً الفـتيان والفـتيات الإيطاليـين وغـيرهم من المسيحـيـين وغـير المسيحـيـين: إن المسيح أتى إليكم ليخـدمكم ، فـكـروا في ذلك ملـياً هـل نحـن حـقاً مستعـدون لـنخدم الآخـرين؟

المحافـظـون الـتـقـلـيديون إستهجـنـوا العـمل هـذا، لـيس كـُـرهاً بل تحـفـظاً، وآخـرون لـيـبرالـيّـون مدحـوه لا تملقاً وإنما شمولـية وإنـفـتاحاً، وفي كـلـتا الحالـتين فالشعـب يعـبِّـر عـن شعـوره بـوعي وإدراك ويعـرف ماذا يقـول وليس إنجـرافاً عـمياوياً. ولكـن هـناك شعـوباً تـقـبل أن تكـون كالـبلهاء لا تـفـكـر عـميقاً ولا سـطحـياً ولا تميـز الرياح الشرقـية من الـغـربـية. إن وعي الشعـوب هـو الـذي يحـدد مستوى قادتها!!.

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *