الطائفة النسطورية.. من الهرطقة الدينية إلى الهرطقة التاريخية 1-5 / بقلم محمد مندلاوي

الهرطقة، وعند العرب المسلمون، تسمى الزندقة، هي فكرة شيطانية، تقوم على تضليل الآخر، وإبعاده عن جادة الصواب بفذلكة لسان، وهدف البدعة الهرطقية هو تغيير العقيدة الدينية، أو المنظومة الفكرية السائدة في أوساط معتنقيها، حسب أهوائها ورغباتها الآنية، قد تُحرف جانباً من تلك العقيدة التي تنفث فيها من بدعها، أو مجملها، وبه، تُحرف تلك العقيدة من إطارها العالم، المثبت في بواطن أمهات مدوناتها العقائدية، تماماً كما فعل شخص نسطورس مبتدع مذهب النساطرة (Nestorianism)، الذي خالف الأناجيل الأربعة، وأنكر ألوهية المسيح، التي تعتقد بها وتتبناها جميع الطوائف المسيحية، باستثناء النساطرة. كانت هذه مقدمة مختصرة جداً لموضوعنا الذي سنخوض فيه بالتفصيل، ونرد من خلاله على أحد النساطرة الذي كتب رداً مشوشاً على إحدى مقالاتنا.

في الأسابيع الماضية، نشر موقع (الحوار المتمدن) الكبير والمتميز، نداءاً، طالب فيه الموقعون عليه، بلدية مدينة أربيل بإلغاء اسم الثائر الكوردستاني (سمكو شكاك) الذي أطلقته حديثاً على إحدى شوارعها. وأنا بصفتي مواطن كوردستاني الواجب الوطني يفرض علي أن أذود عن وطني عندما يتعرض إلى أي نوع من الهجوم أو التشويه من قبل محتليه وأذنابهم، فلذا كتبت مقالاً توضيحياً عن القائد الكوردستاني (سمكو شكاك) وتلك الواقعة التي قُتل فيها رجل الدين النسطوري مار بنيامين شمعون. ألا أن الذي سردته في مقالي من حقائق، لم تعجب النساطرة، فعليه، وبعيداً عن أخلاقية المهنة، وبسبب عجزهم عن الرد المنطقي علينا، انبرى لي مجموعة منهم، وقذفوني بسيل من الشتائم والسباب، وفي جانب آخر من هجومهم علي، ارتكزوا واعتكزوا على جملة من أقوال أولائك الأشخاص الذين نحن أدناهم في مقالنا، وقلنا أنهم، هم الذين ابتدعوا التسمية “الآشورية” للنساطرة، بالإضافة إلى ادعاءاتهم المزورة التي تفتقد لسند معتبر وموثق، وأنها ليست بحجة علينا، لأن كتابها مشكوك بهم، لأنهم كتبوا التاريخ بدافع سياسي، خدمة لأسيادهم القابعون في لندن. بينما يعرف القاصي والداني، أن التاريخ يجب أن يكتب كما حدث بدون رتوش و زيادة ونقصان، وألا لا يعتبر تاريخ. والقسم الآخر من المصادر التي أشاروا لها، تلاعبوا بها، أو لم يفهموها على حقيقتها، فلذا، نحن في ردنا هذا سنتطرق إلى أحدهم، المسمى، آشور كيواركيس، الذي اقتحم حرمة الكتابة، ورد علينا بمقال كيدي، تحت عنوان ” حتمية الهوية الآشورية قبل مجيء الإنكليز (ردا على المندلاوي)” وأشار فيه إلى عدة مصادر… من هنا وهناك بطريقة عشوائية، لكي يموه ويشوش بها فكر القارئ. ونحن كعادتنا في ردودنا على الآخرين، سننشر نص مقال الكاتب النسطوري، ونناقشه بروية وموضوعية، ونرد عليه رداً مفصلاً، ونذكر له المصادر الموثقة و المعتبرة التي لا تقبل بالنساطرة كامتداد للآشوريين، بالإضافة إلى تحليلنا واستنتاجنا وفق ما يقبله العلم والعقل والمنطق، للحوادث القديمة، التي أشار لها التاريخ و لم يخوض فيها بالتفصيل. للعلم، أن التوراة بعد القرن السابع قبل الميلاد، والإنجيل، والقرآن، والكتب القديمة، والعُهَد التي أعطاها النبي محمد، ومن بعده الخليفة الثاني عمر بن الخطاب للنصارى، وكذلك شعراء العرب في الجاهلية قبل الإسلام، وخلفاء المسلمين، كأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وكتب مؤرخي المسلمين في صدر الإسلام، كالطبري، والبلاذري، والمسعودي، وابن أثير، وغزو المغول للمنطقة، وبعدهم الصفويون، والعثمانيون الأتراك، وكذلك في المعاهدات الدولية الحديثة، التي أسست على موجبها الدول والكيانات في الشرق الأوسط، كمعاهدة سيفر وغيرها، جميع هذه المصادر المشار إليها، لم تذكر اسم الآشوريين أبداً، ولم يأتي ذكرهم على ألسن الأشخاص الذين أشرنا لهم، لا من قريب ولا من بعيد، بل ذُكر اسم طائفتي دينيتين في بعض تلك المصادر التي أشرنا لها، وهما النساطرة، واليعاقبة في كوردستان، وقال المؤرخون والرحالة الأجانب، أن هذين الطائفتين هم من نصارى الكورد.

دعونا الآن نذهب إلى ما قاله الكاتب كيواركيس النسطوري، والنقاط التي أثارها في رده علينا، الذي سنناقشه وسندحضه فقرة بعد أخرى. يقول الكاتب الهرطقي:” قرأنا ببالغ الضحك مقالة المدعو محمد المندلاوي حول قاطع الطرق البدوي الفارسي سيمكو الشيكاكي، حيث حاول الكاتب المذكور تبييض صفحة سيمكو الذي يخجل به حتى المثقفون الأكراد، ليس كونه قاتل القائد الآشوري الشهيد مار بنيامين شمعون فحسب، بل كونه قاتل عشرات الآلاف من النساء والأطفال كذلك، وهذا ما يشهد عليه كل من عايش الحرب العالمية الأولى وإباداتها بحق الآشوريين والأرمن واليونانيين، تحت إشراف الضباط الأتراك وبتنفيذ الجيش التركي والأكراد، ولكن الأكثر ما يثير للسخرية في مقالة المندلاوي هو التشديد على إنكار استمرارية الوجود الآشوري حيث حول دعم ادعاءاته بالمصادر البعثية علما أن الدخول في مسألة التحقيق في وجود انتماء قومي “كردي” يتطلب مجلدات من مصادر المؤرخين أمثال نيكين ومينورسكي وغيرهم من الذين لم يتفقوا على أصل هذه الأقوام، لذلك فضلنا التطرّق فقط إلى موضوع الهوية الآشورية التي تهزّ مضاجع الدخلاء وذلك بالتوضيح للقراء (وليس للكاتب لأنه يعرف الحقيقة أصلا) بأن الإنكليز قدموا إلى المنطقة وأستعملوا الإسم الآشوري على سكان المنطقة الأصليين لأنهم لاحظوا بأن السكان نفسهم يطلقون على أنفسهم الهوية الآشورية، وأدناه غيض من فيض ما لدينا، على أمل أن يعمل من لا يعلم، أما إن لم يكن يريد أن يعلم، فلا حولَ ولا قوّة إلا بآشور”.

ردنا: يا سيد، أن الاسم (سمكو) بدون حرف الياء، وهو الصيغة الكوردية لاسم إسماعيل، وكذلك لقبه، شكاك، بدون ياء أيضاً. أليس من الأولى بالكاتب، أن يقدم دليلاً على ضحكه أولاً، ومن ثم يضحك، لكي لا ينطبق عليه المثل الشائع “الضحك بدون سبب من قلة الأدب”. إن كان القائد (سمكو شكاك) عندكم هو فارسي لماذا تلومون الكورد على قتله لمار بنيامين شمعون!!. لماذا لا تشير إلى السبب الذي دفع الزعيم الكوردي (سمكو شكاك) إلى قتل مار بنيامين شمعون؟!. نحن جئنا في مقالنا السابق بمصادر مسيحية تقول أن مار بنيامين شمعون اجتمع بممثلي الدول الاستعمارية ورجال مخابراتها المعادية للشعب الكوردي. لكن، أنا أقول لكم لماذا تتهربون من ذكر السبب الذي قام به زعيم الثورة الكوردستانية (سمكو شكاك) بتنفيذ حكم الشعب بالمدعو مار بنيامين شمعون، لأن ذكر الحادثة صراحة يحرجكم، لأنه خان الشعب والأرض التي آواه، وطعنهما من الخلف، حين ارتضى لنفسه أن يكون أداة طيعة بيد أعداء ومحتلي الشعب الكوردي و وطنه كوردستان. حقاً أن حبل الكذب لقصير، الأستاذ قبل أن يبدأ، وقع في شرك أكاذيبه وتلفيقاته التي لا أساس لها من الصحة، حين يصف قائد الثورة الكوردستانية (سمكو شكاك) بقاتل اليونانيين أ وهل يوجد يونانيون في شرق كوردستان (إيران) حتى يقتلهم سمكو شكاك!!، اليونانيون يا كيواركيس، كانوا موجودون فيما تسمى اليوم بجمهورية تركيا، ليس لليونانيين أي وجود في شرقي كوردستان، (إيران). لكن ماذا نقول غير “إن لم تستحي فافعل ما شئت”. يتهمني الكاتب النسطوري، بأني دعمت مقالي بمصادر بعثية، يا حبذا يقول لنا، أي من الذين أنا ذكرتهم كان بعثياً يوماً ما؟، أضف، أني من أشد المعارضين لحزب البعث المجرم، لأنه أجرم بحق الشعب الكوردي، وقتل مئات الآلاف من خيرة بنات وأبناء شعبنا، وأحرق آلاف القرى في كوردستان، ودمر مدننا، واستعمل ضد نسائنا وأطفالنا وشيوخنا وفتياتنا وفتياننا الغازات السامة المحرمة دولياً، ونفذ ضد شعبنا الكوردي عمليات الأنفال سيئة السيط، وباع أعداداً من فتياتنا في سوق النخاسة في مشيخات الخليج وجمهورية مصر (العربية)، الخ. حقاً يا كيواركيس، أن كلمات ردك علينا، ممزوجة بماء الكذب، لكن لا يهمنا هذا، بل يقوي من عزيمتنا، وسنرفع أي حجر تختبئ تحته، ليرى القارئ بشاعة وجهك الذميم. كعادة الهراطقة، يحاول أن يهرب من الموضوع، وذلك بتشككه بأصالة أسياده، الشعب الكوردي، ويذكر في هذا الصدد اثنين من كبار مؤرخي العالم عاشا في كوردستان في بداية قرن العشرين، وكلاهما روسيان، لهما كتابان قيمان عن الشعب الكوري، الأول هو كتاب ” الأكراد ملاحظات وانطباعات” للعلامة (فلاديمير مينورسكي)، طبعه سنة (1915) ولم يذكر هذا العالم في كتابه اسم الآشوريين، بل ذكر اسم الآثوريين في ص (32) نقلاً عن (لالايان) قال عنهم:” للآثوريين الجبليين عادة عامة في التغني بالأغاني الكردية، وقص الحكايات الشعبية الكردية”وذكر اسم النساطرة في صفحات 17، 19، 20، 26، 72، 79، وقال عنهم في ص 26 “أن النسطوريين واليونان الذين كانوا يعيشون في كردستان قد نهضوا أيضاً وحاربوا تحت راية يزدان شير”. أما الكتاب الثاني، هو كتاب “كورد وكوردستان ” للعلامة (باسيل نيكيتين) الذي كان نائباً للقنصل الروسي في أرومية، وهو أحد الذين التقى بهم مار بنيامين شمعون مع المجموعة التي ذكرتها في مقالي السابق. وفي كتابه ذكر النساطرة في هكاري. إن هذين العالمين مينورسكي و نيكيتين، تطرقا بالتفصيل إلى الشعب الكوردي ووطنه كوردستان. لكن الذي يعكر مزاج النساطرة، ومنهم الكاتب كيواركيس، أنهما، لم يذكرا شعب أو ملة أو طائفة باسم الآشوريين، بل ذكرا النساطرة كطائفة دينية. وكذلك ذكرا اسم “الآثوريون” قد يوجد هناك من يجهل مدلول هذا الاسم الأخير، أنه بعيد كل البعد عن مضمون اسم الآشوري، لأن الآثوري محرفة عن الآتوري أي الجبلي، حتى جاء في القرآن في سورة (التين) آية (2) “وطور سينين” أي طور سيناء، بمعنى جبل سيناء، بالمناسبة هو اسم أعجمي ليس بعربي، لابد أن القارئ الكريم سمع ب”تورا بورا” جبل في أفغانستان يقال أنه كان معقلاً للقاعدة. فلذا أن النسطوري حين تقول له أنك آثوري ينزعج، ولا يقبله منك، يريدك أن تنسبه زوراً وبهتاناً إلى الآشوريين الذين انقرضوا قبل الميلاد بعدة قرون. يزعم الكاتب ” أن الإنكليز حين قدموا المنطقة رأوا أن السكان يطلقوا على أنفسهم الهوية الآشورية فلذلك سموهم بالآشوريين” هذا الكلام مضى عليه قرن أو أكثر، طيب من أين جئت أنت بهذا الكلام؟ أين مصدرك؟ أ هكذا تطلق الكلام على عواهنه؟. أخيراً في الجزئية أعلاه، بعد أن لم يجد شيء يتكل عليه الكاتب النسطوري، رجع إلى أصله الوثني، بدل أن يتكل على يسوع المسيح، اتكل على وثن كان يعبده الآشوريون أبان وجود دولتهم قبل الميلاد، والأستاذ من أجل مطمع دنوي يترك مسيحه، ويتمسك بأذيال ثوب آشور الصنم، الذي انتهى من الوجود مع فناء عبدته الآشوريون في عام (612) ق.م.

يزعم الكاتب كيواركيس، قائلاً:” يذكر المستشرق الإنكليزي ويغرام (المتــّـهم بـ”أشوَرَة النساطرة)، بأن يزجرد الأول الملك الفارسي (399-420م) كان قد اعترف بالآشوريين كـ”ملة” أي قومية (1)، كما قال الأب ساوثغات خلال زيارته لطور عبدين ودير الزعفران في جبال آشور الغربية (تكملة جملته الواردة آنفاً) : [وما أثار دهشتي هو تشابه “Assuri” التي يطلقها الأرمن على السريان في تركيا، مع “Assyrians” التي نطلقها على من ينسبون أنفسهم إلى آشور](2). إن هذه الجملة توضح بأن الإنكليز الذين قدموا إلى المنطقة سمّونا “آشوريين” بالإعتماد على التاريخ ولأننا ننسب نفسنا إلى الآشوريين قبل مجيئهم، وقد اهتمّوا بهذا “الإكتشاف” الجديد لأسباب سياسية ودعموا (شكلياً) استقلال القومية الآشورية عن الشعوب المحتلة، وكذلك لأسباب دينية كونهم كانوا يعتقدون بأن الآشوريين قد تم فناءهم كما جاء في المجلة السياسية اليهودية (التوراة) وكان لقاء “النساطرة والسريان والكلدان” بالنسبة لهم اكتشافاً تاريخياً خصوصاً بما يتقلدون به من عادات وتقاليد وثراث “آشوري بحت” تحدّث عنه الكثير من الرحالة الإنكليز والألمان. وفي الأسطر التالية سنعتمد حصراً على ما يذكر الآشوريين قبل القرن التاسع عشر (مجيء الإنكليز)، وهذا الموضوع جديرٌ بالإطلاع كون هناك أجيالٌ آشورية تقوم على الفهم الخاطئ للتاريخ وسنورد “بعض” المراجع التي تدل على الحقيقة الدامغة حول استمرارية الشعب الآشوري لغة وأرضاً وهوية – رغم سقوط كيانه السياسي عام 612 ق.م، علماً أن الكثير من الكتاب والمؤرخين من آشوريين وغيرهم قد سبقونا إلى رفد المكتبات ببحوث شيقة حول ذلك ولكنها للأسف لا تزال مُهملة من الكثيرين، وهذا واضح من خلال بعض الآراء التي نقرأها أو نسمعها من بعض البسطاء.

ردنا: قبل أن أبدأ بالرد على الجزئية أعلاه،سأفضح أمر هذا الكاتب النسطوري الذي لا يحترم قلمه، والذي يحرف كل شيء يقع عليه نظره، كالكلمة التي ذكرها في الفقرة أعلاه و قال أنها تعني القومية، وهي بيت القصيد في الجزئية أعلاه، ألا وهي كلمة “مِلَّة” أنه يقول دون خجل وحياء، أن هذه الكلمة تعني القومية، و وضعها بين الشولتين المزدوجتين وهذا رسمهما ” ” وهذين الشولتين يوضع بينهما الكلام المقتبس، أي أن الكاتب اقتبس الكلمة من المصدر الذي أشار إليه، وأضاف من عنده، أنها تعني القومية. عزيزي القارئ، لكي لا يقال أني أفسر الكلام من رأسي، دعونا نذهب إلى قواميس اللغة العربية لتعريف كلمة “ملة” لقد تفحصت أهم قواميس اللغة العربية وجميعها تقول أنها تعني “الشريعة أو المنهاج أو السنة أو الطريقة” وتضيف هذه القواميس قائلة: “كملة الإسلام، وملة النصارى” وجاء في القرآن أيضاً في سورة البقرة آية (135): (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل مِلَّة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين )، أي قل أتبع منهاج وشريعة إبراهيم، وفي آية أخرى جاءت في القرآن في سورة البقرة آية (120): (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم…) أي حتى تتبع شريعتهم، وهذه الكلمة سائدة إلى اليوم في العقيدة المسيحية بهذا المعنى أيضاً، حين يتحدثوا عن الملة الأرثوذكسية، والملة الكاثوليكية الخ، لاحظت عزيزي القارئ، أن الكاتب لم يلتزم بقيم المهنة، ولم يحترم قلمه، ولا يعير أي اعتبار لما جاء في معاجم اللغة، وأعطى لنفسه الحق أن يزور مضمون الكلمة ويزعم أنها تعني “القومية”. في هذا المضمار، يقول الكاتب المسيحي (حنا بطاطو) في كتابه (العراق الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العهد العثماني حتى قيام الجمهورية) ج الأول ص (37-38):” الملة عبارة عن جماعات دينية كانت تحظى باعتراف رسمي، كالمسيحيين واليهود” انتهى الاقتباس. هناك كتاب تاريخي شهير يبحث في ثنايا المِلل والطوائف يسمى (المِلل والنِحل) ل(أبو الفتح الشهرستاني) (476- 548 م) يتحدث فيه عن الطوائف والاعتقادات الوثنية والمذاهب الدينية السماوية. آخر ما أقوله في هذه الجزئية للكاتب ومن يسير على نهجه الهرطقي، هو نصاً أكاديمياً أنقله من “قاموس كتابهم المقدس” صادر عن إحدى أرقى جامعات المسيحية في العالم وهي جامعة (أكسفورد) التي أصدرت عام (1982) “الموسوعة المسيحية العالمية” وهي حصيلة أبحاث قام بها (370) باحثاً في (223) دولة، وقد استغرقت نحو (12) سنة، بين عام (1968- 1980) وجاء فيها أن عدد الطوائف والملل والنحل في المسيحية (20800) ملة. انتهى الاقتباس . يعلم القارئ النبيل جيداً، أن الكاتب يجب أن يمتاز بسعة معلوماته عن عوام الناس، وحين يكتب عن أية مادة، يجب عليه أن يصفها بصورة صحيحة وسليمة. لكن بخلاف القاعدة المتبعة عند الكُتاب، إن الكاتب كيواركيس في الجزئية أعلاه، حين يتحدث عن قومية (دبليو.إي. ويغرام) يقول عنه، “المستشرق الإنكليزي” أن كيواركيس كعامة العراقيين يقولوا لكل شخص شعره أشقر وعيونه زرق، أنه شخص إنكليزي، بينما شخص (ويغرام) الذي ذكره الكاتب كيواركيس، هو شخصاً اسكتلندياً وليس إنكليزياً كما زعم الكاتب النسطوري كيواركيس، لأن المملكة المتحدة (بريطانيا) دولة اتحادية منذ (213) سنة تكونت من أربع كيانات، وهي إنجلترا، (إنكليز) وايرلندا الشمالية، واسكتلندا، و ويلز، هذه (الدول) اتحدت معاً، وكونت من جزيرة بريطانيا، وشمال ايرلندا المملكة المتحدة، (United Kingdom of Gret Britain and Northern Ireland) والإنكليز يا كيواركيس واحدة من هذه الكيانات الأربعة، التي انبثقت منها بريطانيا. ثم، أن شخص ويغرام ليس بحجة علينا، لأنه كان عميلاً للمخابرات البريطانية سراً، والسلطات العراقية ألقت القبض عليه بتهمة التجسس أثناء الحرب العالمية الأولى، وكان عضواً في بعثة رئيس أساقفة كانتربري إلى النساطرة علناً، وبإيعاز من المخابرات البريطانية أطلق اسم “الآشوريون” على النساطرة، كيف تريدنا أن نقبل به كمصدر وهو لا يعتبر ثقة عندنا؟ لكن رغم هذا، دعنا نغوص قليلاً في شخصية ويغرام، وما قاله في هذا المضمار في مؤلفاته قبل كتابه الذي يشير إليه الكاتب كيواركيس، والذي ألفه كما أشار له الأستاذ في الهامش سنة (1929)، دعونا نقدم للسيد كيواركيس كتاباً ألفه ويغرام سنة (1914)، أي خمسة عشر سنة قبل كتابه الذي جاء به كيواركيس، واسمه (مهد البشرية الحياة في شرق كردستان) ترجمه خالد الذكر، المسيحي (جرجيس فتح الله المحامي) سنة (1966) وطبعه سنة (1971) لم يشر ويغرام في هذا الكتاب إلى النساطرة كامتداد للآشوريين ولا مرة واحدة، ولم يذكر فيه اسم الآشوريين قط. الكتاب موجود على الانترنيت تستطيعوا الاطلاع عليه. دعني أنقل لك وللقارئ الكريم مقتطفات منه، يقول في ص(15): “إن سكان تركيا الآسيوية يتحدثون بست لغات، العربية الغالبة على السهول، والكوردية والسريانية تسود مناطق الجبال، والأرمنية لغة الشمال، واليونانية منتشرة في غرب آسيا الصغرى، واللغة الرسمية للجميع (اللغة التركية) هي غير شائعة إلا في الأناضول” انتهى الاقتباس، أين اللغة الآشورية هنا يا كيواركيس؟، ليس أمامك هنا مخرج، إلا أن تنسب السريان إلى الآشوريين زوراً وبهتاناً. وفي صفحة (36) يشير إلى مذابح التي حلت بالأرمن عام (1895) يقول ” كانت المذبحة سياسية، لا علاقة لها بالدين، والدليل على ذلك، أن المسيحيين السريان وعددهم في ديار بكر كبير، لم يصبهم شيء مما حل بالأرمن أخوانهم في الدين، كما أن من لجأ إلى بيعة اليعاقبة، – أي بيعة السريان- لم يلحقهم أي أذى، خلا الذين وقعوا في هياج الغوغاء. والسبب لقتل الأرمن يعود لكره الأتراك للأرمن، لأن الأرمن هو الشعب الوحيد الذي يخشاه الترك بين سائر شعوب الأخرى الخاضعة لهم، فالعرب والكرد هم أخوان لهم في الدين، ليس بينهم التحام قومي أو وطني، والسريان اليعاقبة والنساطرة قليلوا العدد لا يكونون مصدر خطر” ، أين ذكر الآشوريين؟ هذا هو ويغرام… يذكر اليعاقبة والنساطرة كطائفتين دينيتين. ويتحدث في ص (69) عن موصل، يقول: “في موصل أسقفيات كثيرة لا توجد بهذا العدد في أية مدينة أخرى فهنا ما لا يقل عن … أساقفة للرومان الكاثوليك وهناك أسقف واحد لليعاقبة وأسقف واحد نسطوري وثم طوائف أخرى من الأرمن الأرثوذكس والإنگليكان”، هل ترى يا أستاذ أن لا ذكر للآشوريين في قلب عاصمة الآشوريين القدامى ؟. وفي ص (70) يتحدث عن الكلدان النساطرة المتحدون والسريان اليعاقبة المتحدون” أين ذكر الآشوريين؟؟. في مقالنا السابق تحدثنا عن الزي الذي يلبسه النصارى في كوردستان وقلنا أنهم يرتدون الزي الكوردي، ألا أن كلامي لم يرق لأحدهم، إليكم ما قاله صديقكم ويغرام عن هذا الزي في ص (95):” الزي الجبلي المعتاد هو سترة كالصدارة تلبس فوق قميص واسع وسروال عريض جداً يخرط بقوة حتى يزم فوق الخصر النحيف… الخ، وفي النهاية يقول: وهذا هو الزي الكوردي”. وجاء ذكر الزي الكوردي الذي يرتديه النصارى في كتاب (طريق في كوردستان) للمهندس (أي.ام.هاملتون) الذي شق الطريق الذي يحمل اسمه إلى اليوم “طريق هاملتون” يقول في ص (248):” دخل الرجل العجوز متكئاً على ذراع ابنه وهو مالك إسماعيل زعيم تياري العليا كان وقوراً مهيب الطلعة يرتدي كعادته زيه القومي وهو الزي الكردي…” هذا الشخص (هاملتون) بريطاني، يسمي زي الذي يلبسه النصارى بالزي الكوردي، وهو هكذا فعلاً، الزي كوردي، وما في داخل الزي كوردي أيضاً، ألا أنهم ابتعدوا عن أبناء جلدتهم بسبب المعتقدات الدينية ليس ألا. للأخوين ويغرام كتاب آخر باسم (تاريخ البيعة الآثورية) سبق وأن شرحنا في سياق مقالنا هذا ماذا تعني كلمة آثور، بالثاء وليست بالشين. لو كانت النساطرة حقاً آشوريين، لأطلق عليهم هذا الاسم منذ أن ألف كتابه الأول، وليس بعد أن اختمرت الفكرة في أروقة المخابرات البريطانية وأوعزت إليه بنشرها بين النساطرة مع حبكها بشيء من الأساطير والفنتازيات التاريخية البعيدة عن الحقيقة و الواقع. في سياق سرده المدلس، ينسب الكاتب إلى شاه إيران (يزدجرد الأول) كلاماً لا يوجد في أمهات الكتب الإيرانية، أقول لهذا النسطوري كيواركيس وغيره من أبناء طائفته، للأسف، أن الحظ لم يوافقكم هذه المرة أيضاً، لأني مطلع على تاريخ وآداب إيران، وأجيد اللغة الفارسية كأحد أبنائها، وتوجد في مكتبتي الكتب الفارسية المعتبرة، ككتاب (تاريخ إيران من البدء حتى انقراض القاجارية) عبارة عن (1200) صفحة، وكذلك عندي (دائرة المعارف الإيرانية) للعلامة (علي أكبر دهخدا) المعروفة ب (لغت نامه) عبارة (23911) صفحة، هذا المصدران من أهم الكتب الفارسية في إيران وخارجها، أنهما لا يقولان أن (يزدجرد الأول) اعترف بالآشوريين…، بل يقولان، أنه اعترف بالمسيحيين وسمح لهم بالعبادة جهاراً، و ببناء وإعادة كنائسهم، ألا أنه في النهاية ناصر (يزدجرد الأول) الزرادشتيين على المسيحيين. وقال كيواركيس في الجزئية أعلاه، أن (يزدجرد الأول) اعترف بهم ك”ملة” والملة كما وضحنا، تعني جماعة دينية. وهذه الجماعة الدينية النسطورية بعد أن رفضها مجمع أفسس وأمر بغلق مدرسة رها نزح طلابها إلى مدرسة نصيبين التي كانت واقعة ضمن حكم الإمبراطورية الساسانية، إن الساسانيين قبلوهم في نصيبين ليس حباً بموسى، بل كراهية بفرعون، أي نكاية بالدولة البيزنطية (الرومانية الشرقية) أضف أن نصيبين كانت معقلاً لكنيسة المشرق. للعلم، أن الكثير من أبناء الكورد والفرس، كانوا على الدين المسيحي، حتى جاءت الأعراب وفرضت الإسلام بحد السيف عليهم. أقول للكاتب النسطوري يجب عليه أن يفحص الكلام ويدقق فيه قبل أن يقتبسه، لكي لا يقع في شرك أخطاء غيره، خاصة في عصر الانترنيت، أن كثيراً من الكتاب يقتبسوا أموراً جمة دون أن يراجعوها، وصفحات الانترنيت مليئة بهذه الأمور التي تزخر بالأخطاء والهفوات، فالأفضل للكاتب، أن يقتبس ما يبحث عنه من الكتب الموثقة و المعتبرة التي وضعت من أجل تعريف تلك المادة التي يحتاجها، لكي لا يفقد مصداقيته عند القراء. في هفوة أخرى للكاتب النسطوري كيواركيس، الذي يقتبس الكلام دون تفحص، حيث يصف وجود “طور عابدين” في غربي جبال آشور القديمة، حسب معرفتي المتواضعة في الجغرافية -لا أجزم- أن طور عابدين تقع في شمال جبال آشور وليس غربها. لقد أشرنا خلال سردنا في الجزئية أعلاه، أن الأخوين ويغرام لم يطلقا على النسطوريين النصارى، اسم الآشوريين من قبل، وذلك من خلال كتابيهما اللذان ذكرنا عنوانيهما. تجنباً للتكرار، لا يحتاج أن أذكر أسماء الحشد الكبير من علماء الآثار والمؤرخين، الذين رفضوا تسمية الآشوريين التي أطلقها البريطانيون على النساطرة، لأني ذكرتهم عدة مرات في مقالاتي السابقة، قد أضطر أن أذكرهم مجدداً في سياق هذا المقال في الحلقات القادمة. يعترف الكاتب في الجزئية أعلاه: “أن هناك أجيال من (الآشورية) تقوم على الفهم الخاطئ للتاريخ”. وهذا يعني، أن هذه الأجيال تعرف نفسها باسمها الصحيح “النساطرة” وهذا ما لا يروق للكاتب كيواركيس وغيره من متعصبي طائفته النسطورية، فلذا يصفونهم بالمخطئين.

“ولي وطن آليت أن لا أبيعه … وأن لا أرى غيري له الدهر مالكا”

(ابن الرومي)

محمد مندلاوي

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *