الشعب الكوردي لن يسمح بإفشال تجربته الرائدة

habeebtomi@yahoo.no

الأكراد من الأقليات القومية الكبيرة في منطقة الشرق الأوسط التي لم يسجل لها تكوين دولة قومية بعد إسدال الستار على الحرب العالمية الأولى وتفكك المبراطورية العثمانية ، فقد تمخضت نتائج الحرب على ولادة اكثر من دولة عربية واليوم على الخارطة اكثر من عشرين دولة عربية الى جانب دولة قومية للاتراك وأخرى للفرس ( ايران ) ، لكن الأكراد رغم ارتباطاتهم الأجتماعية ولغتهم المشتركة وقوميتهم الواضحة فلم يكن لهم حظوظ في تشكيل دولتهم ، والسبب يعود كما هو معلوم الى الوضع الجيوسياسي المحيط بهم حيث ان مصالح تلك الدول المحيطة تركيا وأيران والعراق كانت تلتقي عند نقطة التصدي لظهور اي كيان كوردي مستقل على حدودها .

في هذه الظروف تولدت للاكراد في اواسط العقد الرابع من القرن الماضي تجربة مريرة في تكوين كيان كوردي عرف بجمهورية مهاباد تخليداً للمدينة التي نشأت فيها ، لكن الشعب الكوردي يفتخر ان يلقبها بجمهورية كوردستان ، وقد انتهت تلك الجمهورية عن عمر قصير وأسدل الستار عنها بعد إعدام قادتها وعلى رأسهم قاضي محمد  في ميدان (جوار جرا ) الذي كانت منصته شاهداً على ولادة تلك الجمهورية ، وتمكن القائد الكوردي ملا مصطفى البارزاني ومجموعة من رجاله ، المناصرين لقيام تلك الجمهورية ، ببلوغ حدود الأتحاد السوفياتي السابق واللجوء اليه استمر لعقد ونيف من السنين ، وبقية القصة معروفة .

 لقد اشتهر هذا الشعب بالثورات والأنتفاضات على مدى عقود من القرن الماضي ، وتميز  من المناضلين الأكراد بغير قليل من الكارزمية اسم القائد الكوردي المعاصر ملا مصطفى البارزاني ، وفي خضم الأحداث الدرامية على ارض العراق كان تحديد المنطقة الأمنة للاكراد في عام 1992 حيث وجد هذا الشعب وكل الشعوب الكوردستانية <1> وجدت نفسها في هذه المنطقة بمنأى عن سطوة الحكومة وظلمها وقهرها لتك المكونات . وبعد سقوط النظام في نيسان 2003 تغيرت الأمور في اقليم كوردستان بشكل جذري ، وعكفت القيادة الكوردية في هذا الأقليم الى تحقيق المزيد من خطوات الأستقلال الذاتي ، وخيم على المنطقة ( اقليم كوردستان ) حالة من الأستقرار والأمن والتعايش والتسامح بعكس مدن العراق الأخرى التي كانت العمليات الأرهابية والعنف الدموي تعصف بها وتحيلها الى مستنقع من التحارب والتهجير القسري والأنتقام …

اعتبر نفسي صديقاً للشعب الكوردي ومتابعاً لمسيرة تحرره ، وهدفي في هذا المقال وغيره هو مصلحة الشعب الكوردي العليا بعيداً عن التأثيرات الحزبية لأي طرف من الأطراف في المعادلة السياسية في هذا الأقليم . إن تجربة الأستقلال الذاتي تعتبر رائدة بالنسبة لهذا الشعب الذي كان يطاله سلب الحقوق والعمليات العسكرية من الحكومات العراقية المتعاقبة والحصار الأقتصادي واخيراً استخدام الغازات السامة ومن ثم عمليات الأنفال التي استهدفت الأبادة الجماعية لهذا الشعب .

 إنها تجربة مريرة لا اعتقد ان الشعب الكوردي يفرط بها تحت اية ضغوط .

 اليوم تمر هذه التجربة بامتحان عسير على الشعب الكوردي وقيادته واحزابه ان تعرف كيف تخرج من المرحلة دون إجهاض التجربة الكردية التي اصبحت مثالاً يحتذى به في العراق وفي المنطقة . وإن المسؤولية تقع على عاتق الجميع دون استثناء بداية من القيادة الكوردية الى الحكومة مروراً بالبرلمان وفي الأحزاب السياسية التي مع الحكومة والتي موقفها معارض للحكومة او في البرلمان ، إنها مسؤولية الجميع امام الشعب الكوردي الذي قدم التضحيات ومنح لهم ثقته .

إن التجربة الكردية قد اقترنت بعملية ديمقراطية افرزت حكومة وبرلمان منتخب وبرئاسة للأقليم منتخبة من قبل الشعب مباشرة ، كما ويجري تداول السلطة بشكل سلمي . إضافة الى ذلك تميزت التجربة الديمقراطية في انبثاق احزاب سياسية عديدة لها شتى الطروحات والبرامج ومنها من اتخذ موقفاً معارضاً مثل حركة التغيير التي انبثقت عام 2006 واليوم لها اليوم 25 عضو في برلمان كوردستان وبهذا الصدد يقول الدكتور فؤاد حسين رئيس ديوان الرئاسة في اقليم كوردستان وحسب جريدة الشرق الأوسط اللندنية انه «فيما يتعلق بكردستان هناك أيضا تعددية حزبية. صحيح أن هناك حزبين قويين، ولكن عندما نجتمع بالأحزاب نجد هناك 45 حزبا وهي تتمتع بالحريات السياسية والإعلامية تستطيع أن تتحدث وتنتقد..>> .

كان هذا الجانب يحمل اهمية كبيرة خصوصاً إذا قورنت مع التجربة السياسية في العراق الفيدرالي التي تتعثر بشكل مستمر بسبب نموذج المحاصصة الطائفية التي كبلت العراق وفرغت العملية الديمقراطية من محتواها الجوهري لتكون وجه شرعي في عمليات السلب والنهب والفساد الأداري والمالي التي  تعصف  بعملية نهوض العراق وتقدمه الى اليوم .

إن المظاهرت التي انطلقت في السليمانية هي عملية شرعية تكفلها القوانين والأنظمة ولا غبار على قيامها ان بقيت في مسارها السلمي الحضاري في المطالبة والأحتجاج ، ويكفي ان نذكر الزعيم التاريخي مهاتما غاندي ، المجرد من كل ادوات العنف ، وفي اسلوبه السلمي كيف استطاع من تحقيق اهداف شعبه في التحرر من الأستعمار البريطاني دون إطلاق طلقة واحدة ، وبالأمس كيف رأينا الثوار الشباب المصريين وهم ينظفون ميدان التحرير بعد انقضاء اعتصامهم في ذلك الميدان فأصبحوا قدوة حسنة في السلوك الحضاري .

إن محاولة بعض المحتجين في السليمانية الى اقتحام ورمي الحجارة على مقر الفرع الرابع للحزب الديمقراطي الكوردستاني في المحافظة خارج ميدان السراي ، كان تصرفاً خاطئاً ، وهذا الخطأ قوبل قوبل بخطأ آخر حينما شرع حراس المقر بإطلاق النار مما تسبب في مقتل الطفل البرئ ريزوان صالح ، وبادر الدكتور برهم صالح لزيارة اسرة الفقيد وتقديم التعازي لهم .

إن سير الأمور على هذا المنوال ستؤول الى خسارة كل الأطراف لكن الخاسر الأكبر هو الشعب الكوردي وستشكل انتكاسة لتجربته التي يتباهى بها امام العالم بأنه شعب حي ليس في حمل البندقية فحسب بل انه قادر على تحقيق الديمقراطية والمساهمة في البناء المعماري والحضاري .

لا زالت احداث الأقتتال الكوردي ـ الكوردي في اواسط التسعينات من القرن المنصرم ماثلة امامنا ، وكيف كان جيران كوردستان يشمتون ويستمرؤون الفرجة على القتال الدائر بين الحزبين الكبيرين على الساحة الكوردية ، بل ويصبون الزيت لضمان استمراره .

شخصياً سمعت من اصدقاء كورد بأن الأكراد هم مثل طير القبج الذي يرى نفسه محبوساً في القفص ومع ذلك يتشاجر ( يتناقر) مع قرينه المحبوس معه في القفص . ولكن هل يبقى الشعب بتلك الحالة من التشرذم والأنقسام بعد التقدم والوعي الذي بلغه الشعب الكوردي ؟ وهل يقف الشعب مكتوف الأيدي وهو يرى ضياع وأفول تجربته التاريخية والتي ناضل من اجلها على مدى عقود ، والتي كان ثمنها غالياً دفعه الشعب الكردي برمته في مدنه السليمانية وأربيل ودهوك ومدنه الأخرى وقصباته وبلداته وقراه على امتداد كوردستان ، هل يقبل ان تذهب تلك التضحيات الجسيمة ادراج الرياح ؟

  شخصياً اقوم بزيارات الى العراق بين آونة وأخرى ، والى القوش بشكل خاص ومنها الى اربيل ودهوك وألاحظ امامي مظاهر الرفاه والتقدم في مناحي الحياة ومنها تحسين الظروف المعيشية لغالبية الشعب الكوردي ، وإذا ابتعدنا عن منطق الأرقام واكتفينا بما هو واضح على الأرض حيث تبدو للزائر الى المدينتين اربيل ودهوك ، ويقولون ان السليمانية اكثر تطوراً ، فعلى سبيل المثال ان مناطق علامات المرور ليست مكتظة بالمتسولين وبائعي ( الحب والعلج ) وهؤلاء من المتسولين ايضاً ، كما اننا لا نشاهد صفوف الآطفال وهم يتزاحمون على عرض خدماتهم لصبغ احذية المارة  ، إن استخدام الأطفال يعتبر مرضاً متفشياً في كثير من الدول العربية ومنها بغداد ويدل على تردي الأوضاع الأقتصادية لطبقة كبيرة من المجتمع .

 كما اننا نصادف كثرة الرواد للمطاعم الراقية ، وتقع انظارنا على اعداد كبيرة من السيارات الفارهة الحديثة ، كل هذه مؤشرات على اتساع ونمو طبقة متوسطة سيكون بمقدورها بناء قواعد رصينة للتطور الصناعي والعمراني والزراعي ..

بنظري ان الخطوة الأكثر اهمية في تقدم كوردستان هو تعزيز الثقة بمستقبل الأقليم انطلاقاً من حاضر متين قوامه الهدوء والسكينة وتقديم المطالب بطرق اصولية بما فيها الأحجاج والتظاهر ، على الا يكون ذلك سبباً لخرق القوانين وتخريب المؤسسات فنحن نريد جني العنب وليس الأنتقام من الناطور .

وبهذه المناسبة اعبر عن (( استغرابي في مسألة هضم الحقوق القومية للشعب الكلداني بإلغاء اسم قوميتهم الكلدانية من مسودة الدستور الكوردستاني ، بالأضافة الى تهميشهم في العملية السياسية في الأقليم وقبول بوصاية ألاخرين عليهم ، أنا استغرب من هذا الموقف ، فالكلدانيون ناضلوا الى جانب الشعب الكوردي في ايام نضاله المسلح وقدموا الشهداء والتضحيات ، واليوم مع الأسف بدلاً من مكافأتهم على موقفهم الشريف هذا في أقليم كوردستان ، اصبح مصيرهم التهميش وهضم حقوقهم القومية والسياسية )) .

إن جانب الروية والهدوء مطلوب في هذه الأحوال ، إذ لا يمكن في اي مكان من الأرض إجراء التعديلات الدستورية والقضاء على الفساد والرشاوي وتحسين اوضاع السجون وتعديل القوانين والنظر في المظالم واجراء الاصلاحات السياسية وغيرها من النقاط المهمة ، لا يمكن تحقيق كل ذلك في ليلة وضحاها ، وأي جهة سياسية لا تملك عصا سحرية لتحقيق كل ذلك بضربة من تلك العصا ، فالمسالة تحتاج الى منظومة عوامل منها توفر الثقة المتبادلة بين الفرقاء ، وتضافر الجهود المشتركة بين الأطراف المشتركة في العملية السياسية لجعل الاقليم مساحة نابضة بالحياة ، إن ذلك سيقطع الطريق امام المتربصين النهّازين للفرص لتأليب الناس على بعضها لتخلو لهم الساحة في نهاية المطاف .  

إن أرادت قيادة الأقليم ان تبقي عجلة التطور في حركة مستمرة  مع مستجدات العصر عليها تشكيل منظومة  من الخبراء الوطنيين التكنوقراط من المثقفين والأكاديميين وذوي الخبرة ليشكل هؤلاء منظار لرؤية الأشياء البعيدة للتكهن بمجريات الأمور ، وتكون هذه الهيئة بمنأى عن تأثير الأحزاب السياسية ، فالأحزاب دائماً ترى الأمور من جانب رؤيتها الخاصة للامور ، ولكن تلك الهيئة تقدر الأمور من المنظور الوطني الواسع العابر لآفاق الكتل والأحزاب .

حبيب تومي / اوسلو في  22 / 02 / 11

ــــــــــــــــ

<1> الأكراد هم المكون الكردي اي من القومية الكرودية في اقليم كوردستان ، ومن الطبيعي ان كوردستان فيها من المكونات الأخرى غير الكردية ومنهم العرب والتركمان والكلدانيين وبقية المسيحيين . وهكذا اطلق لفظ الكوردستانيين على تلك المكونات الأثنية غير الكوردية .

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *