الدلالات الهامة المستخلصة من بيان البطريركية الكلدانية

استاذ وباحث اكاديمي مستقل
     أصدرت بطريركية بابل على الكلدان الكاثوليك في العالم في 15 من الشهر الجاري بيانا هاما لتحديد موقفها الرسمي من مشكلة تورط النائب يونادم كنا في البرلمان العراقي  في رسم معالمها لاسباب باتت معروفة لافراد شعبنا الكلداني في كل مكان ،وهي اصراره غير المبرر في تدخله المباشر بطرق ملتوية لتغيير مدير الوقف المسيحي العضو الارتباطي بين الحكومة العراقية والطوائف المسيحية كافة.
     فاجأ البيان البطريركي العديد من المؤسسات والافراد لعدم توقعهم من ان الكلدان ستكون لهم يوما ما صحوة ونهضة لتبكم كل من يتجاوز على مشاعرهم وكرامتهم فهم اهل الفطنة والحكمة والتأني في تعاطيهم مع الاحداث،ولعل أبرز آثار هذه المفاجأةهي ارتباك أقلام الكتاب من الحركة الاشورية الديمقراطية ومن يتعاطف معهم ، بحيث فقدوا اعصابهم وتمادت اقلامهم لتسطر العبارات غير اللائقة في العرف الصحفي والرسالة الاعلامية وأنزلوا غضبهم على شخصية غبطة البطريرك عمانوئيل دلي بصورة مباشرة وعلى كتاب الكلدان الاحرار،لضعفهم وفقدان حججهم المنطقية وتدنيهم المعرفي،مما يدل بوضوح على تخبطهم وسوء تصرفهم  .
     لم تكن تلك الردود مستوفية شروط التحليل العلمي المعروفة والمتداولة ،وقد استنتجت من قراءتي لها بأنها تفتقد الى ابسط معايير تحليل المحتوى .فكان تحليلهم حرفيا لمحتوى البيان، فهي الطريقة التي يتبعها البسطاء من الناس غير المسلحين بالمعرفة واساليب التحليل .بحيث ان بعضهم عجزوا من استيعابه، فلجأوا الى استخلاص نقاط الضعف اللغوية فيه،وركزوا على مسألة تغيير الاسماء وتمثيل الادوارالوظيفية دون تشخيصهم للبعد المستتر منه.
      فالتحليل الحرفي لايفي بالغرض ولايمكن بواسطته ان نستنبط من المحتوى شيئا مفيدا ،لانها طريقة تعمل بتجريد الحدث من الاطارالموضوعي المتمثل بالابعاد الاجتماعية والسياسية والنفسية المرتبطة فيه ، فالاسلوب الصحيح هو ربط الظاهرة المدروسة بما يحيطها من الابعاد المذكورة لكي نقف على معالمها وأهدافها ،ولما كان البيان تعبيرا عن موقف البطريركية تجاه ظاهرة ادارية واجتماعية وسياسيةُ،فاذا لابد التساؤل لماذا هذا البيان وماهي الرسالة التي يعبر عنها ولمن ؟ .
       وعليه ساحاول في هذه المقالة تسليط الضوء على البيان البطريركي باسلوب الربط الزمكاني وما أفرزته البيئة الاجتماعية والسياسية في المجتمع العراقي من عناصر أثرت على الشعب الكلداني ،وفيما يأتي خطوات التحليل:
  أولا:  لم يهدف البيان الى التعبير عن الشكوى لتغيير الاشخاص لتوليهم  المنصب الوظيفي فحسب، فهي المسألة الظاهرية التي أدركها العديد من السياسيين والكتاب من البيان وكأنما هي المقصودة فقط،ولكن هناك أهداف ضمنية تعد بمثابة رسالة واضحة للشعب العراقي عموما والكلداني خاصة .
ثانيا : عبر البيان عن موقف الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية والشعب الكلداني من التطورات التي حصلت منذ عام 2003 ،ذلك الموقف الرافض لما يجري من الاوضاع السياسية والادارية في الحكومة العراقية لاخفاقها في السيطرة على زمام الحكم والانقسامات الطائفية التي دمرت البلد واصبح العراق يحكم بقانون الغاب بعيدا عن القوانين الانسانية بدليل الصراعات السياسية القائمة بين الكتل السياسية حول المناصب منذ ظهورها،وعدم اتخاذ الخطوات الجدية في ترسيخ الاستقرار والامن الاجتماعي والاقتصادي للشعب العراقي لانشغال الساسة في تحقيق مآربهم الخاصة .
 ثالثا : وعليه اعتبر البيان مسألة تدخل يونادم كنا في تغيير مدير الوقف المسيحي بطرق ملتوية ومحسوبية واضحة، ومنحه لاحد منتسبي حزبه نموذجا من الفساد الاداري الذي يحصل يوميا في الدولة العراقية،ويدل على ضعف القانون الاداري وعدم الثبات على حالة واحدة ،فهو مرهون بأهواء وأمزجة السياسيين المتنفذين .
رابعا : ومن المعاني التي يتضمنها البيان هي نفاذ صبر الكنيسة الكلدانية والشعب الكلداني من طريقة تعاطي الحكومة والاحزاب السياسية معهما،مما استوجب الاعلان عن موقفهم في التذمر ومطالبتهم باعادة النظر في اسلوب العمل مع الشعب الكلداني لاعتباره مكونا اصيلا من مكونات الشعب العراقي.
خامسا : تضمن البيان رسالة واضحة للحكومة العراقية والاحزاب السياسية ،انه لايمكن ان يمثل الكلدان الا ابناء الكلدانيين ،ولا يمثل الكلدان في المحافل العراقية الا الاحزاب الكلدانية أوالشخصيات المستقلة منهم،مما يستوجب اعادة النظر في الاسلوب الانتخابي ليمثل كل من الكلدانيين والاشوريين والسريان بحسب ثقلهم الديمغرافي للوقاية من فوز المرشحين وصعودهم على اكتاف المسيحيين ومن ثم يخدموا مصالح احزابهم السياسية،وفي هذه الحالة يدفع الكلدان الثمن ، كما يجري على ارض الواقع، فممثلوا الاحزاب الاشورية يخدموا مصالحهم الذاتية ويرمي ممثلوا المجلس الكلداني والسرياني والاشوري الى  تحقيق مصالح واهداف مجلسهم، فهؤلاء جميعهم وصلوا الى البرلمان باصوات كلدانية لثقلهم السكاني وتحت ذريعة انهم مسيحيون لافرق بينهم.وعليه يتوهم من يؤكد على أن اكثرية الاعضاء المسيحيين في البرلمان العراقي هم من الكلدان ،فهؤلاء لايمكنهم تجاوز اهداف وفلفسة احزابهم تجاه الكلدان.
سادسا : رفض البيان ضمنا كل المحاولات التي من شأنها التأثير على الهوية القومية الكلدانية،تلك المحاولات التي تؤديها الاحزاب الاشورية والمجلس الكلداني السرياني الاشوري،اذ جاء البيان لينبه وينصح وعليهم التعاطي مع الكلدان في ضوء مبدأ الاحترام المتبادل.
سابعا :حفز البيان ابناء الشعب الكلداني للتمسك بقوميتهم الكلدانية ،طالما ان كنيستهم تولي أهمية لها وهذا ما لمسناه فعلا من الاحزاب الكلدانية ومنظمات المجتمع المدنية الكلدانية الداعمة لنيل الحقوق القومية للشعب الكلداني دون ارتباطها بجهات تسيرها بحسب مصالحها ،وما ان اعلن البيان الصحفي فتوالت ردود التأييد والدعم من الحزب الديمقراطي الكلداني والمنبر الكلداني الديمقراطي الموحد وحزب التجمع الوطني الكلداني واتحاد الكتاب والادباء الكلدان العالمي والمجلس الكلدان العالمي والمراكز الكلدانية في استراليا وشيكاغو الامريكية ومنظمات عديدة اخرى،مما يستدعي الامر ايضا لتحرك الحزب الديمقراطي الكلداني في الوطن لتعبئة الجماهير الكلدانية والتوعية في أهمية البيان وترجمته ميدانيا   .
ثامنا  : يعد بيان البطريركية الكلدانية رسالة واضحة لرجال الدين في الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية لاتخاذ موقف موحد تجاه القضايا القومية للشعب الكلداني وتحديد موقفهم وعلاقتهم مع الاحزاب الاشورية ومجلس الكلداني السرياني الاشوري وفقا لمقاييس الاحترام المتبادل لا لفرض ارادتهم على الكهنة والاساقفة تحت تأثير المغريات المالية التي تمنحها تلك الجهات .اذ نرى من متابعتنا ان الزيارات المتكررة من قبل الوفود الممثلة لتلك الاحزاب لبعض الخورنات والابرشيات تلقي تأييدا من لدن الاساقفة والكهنة دون الانتباه الى مسألة مهمة هي :هل ان هذه الاحزاب تعمل لمصلحة الكلدان ام لتحقيق مصالحها واهدافها؟ ،فمثلا هل تساءل القس جميل نيسان في كنيسة الصعود في بغداد عندما منح رعد كجه جي شهادة تأييد ان الاخير سيخدم الشعب الكلداني ام الحزب الاشوري المنتمي اليه وببساطة العبارة لانتوقع منه الخدمة للشعب الكلداني وهو تحت أمرة الحركة الاشورية الديمقراطية التي تسعى دائما للنيل من الهوية القومية لشعبنا الكلداني،فالبيان هو اشارة لاساقفتنا الاجلاء والكهنة الافاضل ليوحدوا كلمتهم وموقفهم حول المخططات التي تحاك من قبل هذه الاحزاب لتجميد دور الكلدان في الشأن السياسي .ولتكن مواقف ابرشيتا مار توما ومار بطرس في امريكا نموذجا تقتدي به كل ابرشية وكهنتها من الابرشيات الكلدانية في مسألة التعاون مع منظمات المجتمع المدنية والاحزاب السياسية الكلدانية لرفع الشأن الكلداني ونهضته.
تاسعا :توصلت البطريركية الكلدانية والشعب الكلداني الى ان القياديين وأعضاء البرلمان العراقي من المسيحيين لم يحركوا ساكنا تجاه الشعب المسيحي منذ عام 2003 وبالذات تجاه الكلدان منهم،وعليه جاء البيان ليكون اشارة لسحب الثقة من هؤلاء الممثلين كما هو المعمول في الانظمة الديمقراطية اذا صح التعبير( اذا هناك نظام ديمقراطي في العراق) ،ولكن من وجهة نظري لايوجد ولن نجد يوما من الايام طالما تتسيطر الاحزاب الدينية على الهرم السياسي.

You may also like...