الخطوة اللاحقة للكنيسة الكلدانية الكاثوليكية

في نبأ اعلنه الموقع الرسمي لبطريركية بابل الكلدانية في 19 / 12 /2012 جاء فيه ” قدم غبطة البطريرك الكاردينال مارعمانوئيل الثالث دلي استقالته من منصب رئيس الكنيسة الكلدانية الى الحبر الاعظم البابا بندكتس السادس عشر وفق قانون الكنائس الشرقية المادة 2 /126 ، وقبل الحبر الاعظم الاستقالة وقام بتعيين سيادة المطران جاك اسحاق مدبرا بطريركيا لحين انعقاد سينودس الكنيسة الكلدانية في روما بتاريخ 28 / 1 /2013 “.

في ضوء النبأ المعلن انتهت الخطوة الاولى من تحرك كنيستنا في مسألة مراجعة الذات ،فهي في الحقيقة خطوة جريئة وشجاعة من ابينا البطريرك مارعمانوئيل في طلبه الاستقالة لادراكه ما الت اليه صحته وقدرته جسميا لكي يقود الكنيسة في احلك ظروف تمر بها لعوامل بيئية خارجية وداخلية ، تلك التي ذكرتها في بحثي الموسوم “نحو حركة اصلاحية في الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية “ونشر في عدة مواقع شعبنا اضافة الى ما كتب من قبل العديد من السادة الكتاب الحرصين على مؤسستنا الدينية .

نعم بذل البطريرك مارعمانوئيل جهدا كبيرا ومسؤولية عظيمة في حقبة تعتبر من اخطر المراحل التاريخية واكثرها توترا في تاريخ الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية في التاريخ المعاصر ،ولا تختلف عن ما تعرضت له في القرون الاولى في تاريخها للاضطهاد من قبل الفرس المجوسيين، والمغول التتر فيما بعد ،فقد بدأت مسؤليته في عام 2003 ، العام الذي دخلت العراق والمنطقة الاقليمية برمتها في مرحلة تاريخية لا تعرف الا سيل الدماء والتكفير،والتناحر الطائفي والظلم الذي يتلقاه الانسان على اساس دينه ومذهبه، بالاضافة الى ما خلفه الحصار الاقتصادي منذ سنة 1991 من مآسي ومخاطر على الشعب العراقي بكل مكوناته .

لقد تعرضت كنيستنا الى ابشع انواع الاضطهادات من القتل الذي طال الكهنة والاساقفة والمؤمنين، وتهجير وتدمير الكنائس وبشكل جماعي امام انظار العالم ولم يحرك احد ساكنا ،في ظل هذه المآسي والظروف القاسية، وبالرغم من كل هذه الظروف فلم يغادرالبطريرك مار عمانوئيل صومعته، الا لحالات الضرورة القصوى في المنطقة المشتعلة بغداد تلك التي اصبحت اسوء عواصم العالم واخطرها واكثرها فسادا في المقاييس العالمية، بصبره وصلواته صمد وثابر فهو الذي قال في احدى المناسبات “اخر من يغادر البلد ساكون انا “فعلا ان الظروف السياسية الشاذة في العراق اتعبت ابينا البطريرك فاصبحت كنيستنا ضحية الصراعات الطائفية المتخلفة والصراعات على الكرسي الذهبي وتحت غطاء الديمقراطية المزيفة.

أما الخطوة اللاحقة من مراجعة الذات وتقييم وضع كنيستنا ،يتحمل مسؤوليتها وتبعاتها السادة الاساقفة الذين سيلتقون في سهنودسهم الكنسي في روما الشهر المقبل ،ستكون حقا المسؤولية التاريخية باعناقهم وتفكيرهم الجدي لاختيار احدهم بطريركا ليتولى الادارة الكنسية في هذه الاحوال المعقدة والشائكة ،فالمنتخب سيتحمل الثقل الكبير لان كنيستنا تحاط بظروف لا يمكن الاستهانة بها داخليا خارجيا .وليكن السهنودس المرتقب اطلاقة فعلية لحركة تصحيحية واصلاحية في كنيستنا ،ليس من حيث العقائد وانما الادارة والعلاقات والتنمية بكل جوانبها الاقتصادية والاجتماعية.

لعل ان اهم مقومات هذا الاصلاح هو اختيار البطريرك الانسب على رأس الكنيسة ،فالظروف الحالية تتطلب بطريركا يتميز بسمات العصر تؤهله لتسيير الامور الكنسية في مثل هذه المتغيرات السريعة، وملما بكل الاحداث والتطورات المتلاحقة والعسيرة التي تحصل على الساحة العراقية والاقليمية ليتمكن من معالجة تأثيراتها على المؤسسة الكنسية في جوانبها الديمغرافية والعلاقاتية والاعلامية والمالية. وقد استخلصت من الدراسات السابقة العلمية في حقول المعرفة الادارية وعلم النفس والاجتماع سمات القائد والقيادة التي يجب ان يتميز بها, وطالما ان رأس المؤسسة الدينية يتم اختياره بالطريقة الديمقراطية من قبل السادة الاساقفة ،فيدل ذلك انه يمتلك صفة القائد وليس الزعيم الذي يتميز بدكتاتوريته، فالقيادة هي علاقة انسانية اجتماعية ايجابية هادفة تقوم على القناعات والخيارات الطوعية .وليست بحكم اي مظهر من مظاهر الخشية والخوف من الاستبداد كما هو في الزعامة المفروضة على الجماعة،فالقائد يستمد سلطته وصلاحيته من اللوائح القانونية والتي تمكنه من فرض هذه السلطة على مرؤسيه.

وينبغي على السادة الاساقفة تبني مثل هذه النتائج العلمية في عملية الاختيار،والابتعاد عن العلاقات الشخصية والنزعات الذاتية الضيقة والقروية التي قد تؤدي الى الوقوع في فخها وثم تعكس في العلاقة بين البطريرك المنتخب والمرؤوسين،واهم السمات والصفات التي استخلصتها للاعتماد عليها في عملية الانتخاب هي :

+ لا بد ان يتحلى بالسمات والصفات الشخصية الاتية :الثقة بالنفس ،القدرة على المبادأة والسرعة في ابداء الرأي التزام الحكمة ، قابلية التحكم بالغضب ،وتحمل الضغوط ،النضج الاجتماعي ،التميز بالمرونة ،الذكاء ،القدرة على التفكير والتحليل ، الشجاعة ،نبرات صوتية حماسية ،دافع الانجاز ،ودافع تحقيق الذات، قوة اليقظة .

+ قابلية تشجيع روح الخلق والابداع والمبادرة في مرؤوسيه عن طريق اثارة الحماس وبالاخص لدى الكهنة الشباب.

+ يدرك انه غير كامل ،فينبغي عليه عدم التردد في استشارة ذوي الخبرةعند الحاجة من الكهنة والعلمانيين ،وان يستبعد هو او غيره من رجال الدين عبارة “بروني ليلي شولوخ ” وقد ولى ذلك الزمان .

+ ان يكون مؤمنا باهمية ودور العلمانيين في المؤسسة الدينية.

+ القدرة على مراقبة الكهنة الشباب عن كثب لمعرفة مقدراتهم وقدراتهم والاعتدال بمعاملتهم فلا يكون قاسيا بشدة ،وان لايتراخى في معاملتهم .واهم من ذلك ادراكه انهم جيل الثورة المعلوماتية وما لها من معاني وابعاد هذه الثورة .

+ الاعتناق لمفاهيم التعاون والعمل الجماعي .

+ يشعر الاخرين بالاهمية والتقدير ويحترم الاراء ولو اختلفت مع ارائه ، والثناء مطلوب دائما.

+ قادر على الاتصال والتواصل بطريقة فاعلة ومؤثرة مع الاخرين من خارج مؤسستنا الدينية ،وما احوجنا الى رئيس للكنيسة في هذه الظروف المليئة بالتناقضات الاجتماعية والصراعات الساسية والاجتماعية والدينية ،فلابد ان يكون ملم بطبيعة مكونات الشعب العراقي، ويفضل من يتقن اللغات المحلية ،العربية والكوردية وحتى التركمانية.

+ يرفض الاملاءات من الاخرين باستثناء الاستشاريين من العلمانيين.

+ القدرة على التنازل من الافكار التقليدية التي يحملها ولا تتناسب مع العناصر الحضارية والافكار السائدة في مجتمع العولمة .

+ نظرا للبيئة الفكرية والسياسية والقومية المعاصرة في العراق يتطلب من راس الكنيسة الكلدانية توحيد الجهود لتبني مفهوم قومي محدد “وقد عالج هذه الفقرة الكاتب نزار ملاخا في مقالته الموسومة ،ماذا نريد وكيف نريد الباطريرك القادم ؟ ” المنشورة في تاريخ 20 / 12 / 2012.

+ القدرة على البناء والالتزام لتنفيذ استراتيجيات عقلانية للاعمال في ضوء احتمالات مستقبلية لاحتياجات الكنيسة.

+ القدرة على اتقان ” التغذية الراجعة السلوكية ” وهي معلومات حول سلوك سابق نقلت الى الحاضر وتؤثر في السلوك المستقبلي .

أما على صعيد المؤسسة الدينية ، يتطلب مراجعة الذات بعد الخطوة الثانية اي بعد انتخاب البطريرك ،وليكن شعارها دائما ” كن غير راضي ” بمعنى ان المؤسسة الدينية لا تقتنع بما هي عليه الان ،لان الرضى بواقعها يجعلها جامدة وغير قادرة على التحول نحو الافضل ،فعليها مراجعة اسباب الاخفاق والمشكلات والظواهر السلبية التي صادفتها في مسيرتها ،واين تكمن اسبابها ،في الرئاسة ،الاساقفة ،الكهنة ، المؤمنين ، اللوائح القانونية ، البيئة المحيطة .وعلى كنيستنا اذا ارادت النجاح ان تضع امامها عند مراجعة الذات ، القانون النفسي العلمي ” اذا كان الخلل فينا لا نحس به فيخدعنا ، فالمرء أو الجماعة أو المجتمع يرى بوضوح اخطاء غيره ويتغاضى عن اخطائه وسلبياته ” وبهذه الطريقة تستطيع مؤسستنا الدينية ان تحول مؤشر الفشل والاحباط الى النجاح والتفاؤل.

واخيرا ليس هدفي من وضع هذه المقترحات امام السادة الاساقفة الانتقاص من افكارهم وشخصيتهم بقدر اني اهدف الى تبادل الاراء ومنح دور للعلمانيين في ادارة المؤسسة الدينية ،فكلما احترمنا اراء بعضنا كلما نميل الى السلوك الحضاري المعاصر والذي يخدمنا في التكيف والانسجام مع متطلبات العصر الدائمة التغير ،وقد عجبتني فقرة في المقالة الموسومة للكاتب ” ابرم شبيرا ” الاخيرة المنشورة على مواقع شعبنا في تاريخ 14 /12 / 2012، وهي “هناك ازمة فكرية ونفسية تطوق عقلية قادة تنظيماتنا السياسية والقومية والدينية ،اعتقد شخصيا انها تقوم على نوع من الشك والريبة تجاه الاخر ،وبالتالي ان كل ما يصدر من الاخر هو موضوع شك وريبة ولا يفسرونه الا كونه تهجم واهانة وتخريب … الخ “انتهى الاقتباس .

املى من اساقفتنا الاجلاء وكهنتنا الافاضل وكل المؤمنين ان لا يفسروا ما يكتب من قبل كتابنا بمختلف اختصاصاتهم تهجم واهانة وتخريب بل هو طرح الاراء لعله الاستفادة منها في البناء والتطوير والازدهار .وكما قلت في مقالتي السابقة الباحث يبحث سواء وضعت ابحاثه على الرفوف ام انها ترى النور في العمل الميداني فهذه رسالة للبحث العلمي لا بد ان نؤديها .

الدكتور عبدالله مرقس رابي

استاذ وباحث اكاديمي

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *