البندول السياسي: هل أنت يساري أم يميني؟

“اليسار” و”اليمين” مفهومان شاع استخدامهما في عالم السياسة بمعنى القطبين المتضادين آيديولوجيا، فارتبط الأول بالتيار “الثوري” والثاني بـ “المحافظ”، عموما، لعقود عديدة، رغم تطور دلالتيهما وتفرعهما وتقاطعهما زمكانيا وتولد عنهما ما يسمى بـ “الوسطية”. أي أن ما يـُفهم عنهما في الساحة السياسية البريطانية، مثلا، لايتطابق بالضرورة عما هو سائد في أمريكا أو الصين.  ما يهمني في هذه المقالة، على أية حال، هو البحث في أصل اللفظتين، أي منبعهما التاريخي، وليس في تقصي الأصول والفروع حول العالم وأيهما أفضل فكريا أو لقيادة شعب ما على وجه الكرة الأرضية. لكن قبل أن أبدأ رحلتي مع المفهومين، أود تذكير القارىء بأن البرنامج السياسي لحزب أو حكومة ما وترجمته على الأرض هو الذي يحدد عما إذا كان النهج يساريا أم يمينيا بالمفهوم الدارج إجمالا. إن الذي يروج للمفاهيم التالية: الليبرالية، الديمقراطية، الإشتراكية، الماركسية، الشيوعية، التقدمية، الحرية، العلمانية، الموضوعية (البرغماتية)، العمالية، النضالية، المساواة، وما شابه ذلك، على أنها شعارات يسارية، بغض النظر عن درجة تطرفها، فأنه سينظر إلى الأحزاب اليمينية على أنها تيارات فكرية جامدة، محافظة، رجعية، دكتاتورية، شمولية، قومية، إقصائية، رأسمالية، منغلقة، سائرة في ركاب الدين، عنصرية (فاشية) وطائفية، وغيرها. وهذا التمييز العام بين طرفي المعادلة غير دقيق إطلاقا بسبب نسبية المفاهيم وتأرجحها على بندول السياسة المقترن بظروف كل بلد أو حتى الحزب الواحد، لأنك قد تجد توجها يمينيا في حزب يساري أو العكس. ولكن ما يجمع كل التيارات الفكرية، في حقيقة الأمر، هو التعبير الشائع: “نحن، وهم”.

 

تجمع معظم الأدبيات السياسية على أن الإصطلاحين يعود تاريخهما إلى سنة 1791 ، أي بعد قيام الثورة الفرنسية بسنتين، إذ كان يجلس النبلاء إلى يمين رئاسة المجلس التشريعي بينما الراديكاليين إلى يساره (أو شماله). ويبدو أن البرلمان البريطاني هو الآخر الذي شهد جلوس المؤيدين للسلطة على اليمين والمعارضين لها على اليسار. ترى ما الذي جعل جلوس النواب بهذا الشكل؟ هل هي الصدفة؟ دفعني فضولي لأبحث في الأدبيات الدينية والفلسفية عن أصولهما فعثرت على ضالتي، كما يبدو. سأبدأ بالكتاب المقدس. يفيدنا سفر الجامعة من العهد القديم (2:10) وفي باب “الحكمة أفضل من الحماقة” بما يلي:

 

قلب الحكيم عن يمينه، وقلب الجاهل عن يساره

 

(دار الكتاب المقدس، الإصدار الثالث، 2005)، علما أن في الإصدار الثاني (1995) لنفس الناشر لا ترد لفظتا “يمين” و “يسار”. أما في العهد الجديد فيقول متى عن مجىء المسيح الموعود و”يوم الدينونة”  (25: 31 – 46) ما يلي:

 

“ومتى جاء إبن الإنسان في مجده، ومعه جميع ملائكته يجلس على عرشه المجيد، وتحتشد أمامه جميع الشعوب، فيفرز بعضهم عن بعض، مثلما يفرز الراعي الخراف عن الجداء، فيجعل الخراف عن يمينه والجداء عن شماله. ويقول الملك للذين عن يمينه: تعالوا، يا من باركهم أبي، رثوا الملكوت الذي هيـّأه لكم منذ إنشاء العالم ………… ثم يقول للذين عن شماله: إبتعدوا عني، يا ملاعين، إلى النار الأبدية المهيأة لإبليس وأعوانه………..”

 

كما وترد لفظة “يمين” بمعناها الديني في قانون الإيمان المسيحي الذي ينص على جلوس المسيح “عن يمين الله الآب”.

 

أما الفلسفة اليونانية، فتذهب أبعد من ذلك بكثير، إذ نقرأ عنها في مؤلفات أرسطو وأفلاطون وغيرهم، خاصة ما جاء على لسان فيثاغورس وأنصاره، بأن الكون مؤسس على مبدأ التضاد كما هو مدرج في الحقلين المتقابلين في أدناه:

 

حار —————-  بارد

جاف —————  رطب

محدود (خير)——– لا محدود (شر)

فردي—————- زوجي

يمين —————- يسار

ذكر —————– أنثى

ثابت (مستقر) ——- متحرك

مستقيم ————- منحرف

نور —————-  ظلام

جيد (إيجابي) ——-  ردىء (سلبي)

مربع —————  مستطيل

 

ليس هذا وحسب، وإنما يذهب بعض الفلاسفة إلى القول بأن الحقل الواحد بمجموعه هو نقيض الثاني، أي أن الصفات التي تنسب إلى “اليمين” هي في صراع أبدي مع مجموع ما نجده إلى “اليسار”. ومن هذا الصراع يتولد إيقاع الكون وجماله، وبالتالي يعم النظام بسيطرة “اليمين” على “اليسار”. وأعتقد أن  المرأة أضحت ضحية لمثل هذا التصنيف كما هو واضح من الصفات التي تقع في خانتها. وقد يفسر هذا تأبطها للذراع الأيسر للرجل أثناء المشي طمعا في حرارة قلبه الذي يقع على يساره أو لدورها الثانوي، أو سيرها خلف الرجل للاحتماء به. وقس على ذلك أمورا حياتية أخرى، منها على سبيل المثال لا الحصر وضعية خاتم الزواج وقربه إلى جهة قلب الرجل.

 

ورغم قناعتي بأن الأديان السماوية تقترب كثيرا من المفاهيم الفلسفية القديمة، سأترك الحديث عن مدلولات “اليمين” و”اليسار” في الدين الإسلامي للفقهاء خشية أن تتعارض ترجمتي عما جاء في كتب الأعاجم مع النصوص الإسلامية العربية وحرصا على النقل الدقيق والموثق في القرآن والحديث، ولكني توصلت إلى نتيجة مفادها بأن “اليمين” هو رمز أسطوري للقوة والقداسة والطاعة، وإلا ما كانت بعض الشعوب القديمة تربط اليد اليسرى لأبنائها لمنعها من العمل. وما الجلوس إلى اليمين أو اليسار في البرلمانات الأوروبية إلا تجسيدا للنصوص الدينية والفلسفية المتوارثة وما حوته الأساطير من خرافات.

 

وعودة إلى السؤال الذي طرحته في عنوان المقال، أقول: ليس من الحكمة أن يختار السياسي بين الإثنين، بل ليس من الحكمة أيضا أن يتخيل بأن مبادئه تتحدد بنقطة ما على مسطرة طولها 12 إنجا. مثل هذه النظرة تتسم بالجمود، والأفضل أن يتعض السياسي من حركة البندول، في أقل تقدير. أختتم هذا المقال فأقول بأن للطير جناحان، ومن البديهي أن يتعثر في طيرانه إن آلمه أحدهما أو يعجز عن الطيران تماما لو فقد جناحه الأيسر أو الأيمن. وفي كلتا الحالتين، يضحى فريسة سهلة لاقتناصه. أما قلنا ونقول دائما بأن اليد الواحدة لا تصفق؟

 

الأردن في 17/10/2010

 

المصادر الأجنبية:

 

G. E. R. Lloyd (1962), “Right and Left in Greek Philosophy,” JHS 82: 56-66.

Kyrel Zantonavitch (2010), The Ideological Origins of Right and Left.

http://www.solopassion.com/node/7428

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *