البطريرك ساكو الراعي الصالح


ما أشدَّ كانت همومُك ومعاناتُك سيدي الجليل صاحب الغبطة! تلك التي سبَّبتك لك الأحداثُ المأساوية الأخيرة، لدى مشاهدتك ما ألَمَّ بشعبك المسيحي الذي أُرعِب وأُهينَ وهُجِّرَ مطروداً من منازله في مدينته العزيزة على قلبه الموصل الحبيبة ذات العراقة والحضارة، تسارعت الأحداثُ بشكل غيراعتيادي لم يسبق لها مثيل، أذهلت الشعبَ العراقي والعالم، إذ خلال ساعات معدودة غادرها أبناء مكونَّها المسيحي الأكثر أصالة بين مكوناتها الأخرى تحت ضغط عصابات إجرامية قادمة من خارج حدود العراق، فنفَّذت بحقهم عملية تطهير عِرقي، مُجرِّدةً إياهم من كُلِّ مذخراتهم من المال ومصادرةً لمُمتلكاتهم، حتى أنَّ البعضَ منهم أُجبروا للرحيل سيراً على الأقدام! وبهذا الشكل المُجحف الخالي من المرؤة والإنسانية تَمَّ إفراغ ثاني اكبر مدينة عراقية من سكّانها الأصلاء.

وأمام هذه الكارثة الأليمة دفعتكم غيرتُكم الوقادة على بني بيتكم وبهمَّةٍ لا تُضاهى نزلتم غبطتكم يصحبكم  بعضُ معاونيكم من الأساقفة الكرام الى ميدان الدفاع عن شعبكم المُجنى عليه لمُساعدته ومواساته بمصابه الكبير، فاعتبرَ جُهدَكم هذا بلسماً شافياً لجراحه، وتشجيعاً للثبات في ايمانه، بوركت مساعيكم سيدي وقد برهنتم بأنَّ الراعي الصالح لا يترك خرافه عرضة لنهش الذئاب الخاطفة، إنها مسؤولية كبيرة أديتموها بكُلِّ أمانة وبكُلِّ ما أوتيتم من قوة وصبر ومشاركةٍ بالمعاناة سعياً منكم لإغاثة هذا الشعب المُسالم والمظلوم من قبل شراذم إرهابية سلفية عديمة الشرف والإنسانية،  بالإضافة الى زياراتكم  الميدانية لتفقُّد أحوال أبنائكم المُهجرين والإطلاع على مشاكلهم والبحث عن حلول تُخفف من محنتهم، كان صوتُكم الوحيد المُجَلجِل مناشداً ضمائر أصحاب القرار في داخل الوطن وخارجه، مُهيباً بهم للتحرُّك السريع لنجدة هؤلاء المنكوبين بظلم هذا الزمن الرديء .

 وفي المُقابل نرى الكثير من الجهلاء والحاقدين يصرخون بأعلى أصواتهم مُلقين كامل المسؤولية على عاتق رئاسة الكنيسة الكلدانية باعتبار المطرودين من الموصل كانوا كلداناً بغالبيتهم، مُطالبينها بايجاد حَلٍّ سريع لإعادتهم الى الموصل ثانية عن طريق التفاوض مع عصابات داعش، فيا لغبائهم، تُرى، كيف يمكن التفاوض مع جماعة إرهابية مرفوضة من المجتمع الدولي، فرضت كيانها الرجعي على أرض وشعبِ دولة ذات سيادة عن طريق البطش والقوة! كيف كان بلإمكان الوثوق  بدعوتها الى التفاوض ومَن كان يضمن سلامة المفاوضين؟ وهنالك نقطة مُهمة، لو أرسل غبطة البطريرك بعض إخوته المطارنة للتفاوض مع تنظيم داعش، ألم يكن يُحسب ذلك عليه اعترافا منه بل ربما دعماً للإرهاب؟ كما زعق آخرون مُطالبين الرئاسة الكنسية بترتيب عملية الهجرة الجماعية للمسيحيين، تُرى، كيف يتسنّى لها القيام بمثل هذا العمل الذي يفوق طاقتها؟ ثم أية دولةٍ مستعدة لقبول هذه الأعداد الهائلة من البشر؟ لقد أعلنت الكنيسة بأنها لا تقف ضِدَّ رغبة أبنائها الراغبين في الهجرة وإن كانت لا ترغب بذلك! ولكنَّ هذا لا يعني وقوفها حائلاً !!

سيدي البطريرك، أنا أعلم مدى الإحباط  الذي تملككم من الموقف المُخجِل لرئيس أقوى دولة في العالم، ومِن ضآلة الأمل في دحر الإرهابيين، وخيبتِه في تلاحُم الجيش العراقي مع قوات البيشمركه الكردية لمقاتلة الإرهابيين المُحتلين في حين استمرار الصراع على السلطة بين السياسيين رغم كُلِّ ما يشهده الوطن من الغليان وسفك الدم! بينما تُشاهدون غبطتكم عن كثبٍ الطوابير من العوائل الهاربة من بطش عصابات داعش المتوحشة وقد فقدوا دورَهم وسُلبت أموالُهم وصودرت ممتلكاتهم وضاعت وسائل رزقهم وغدوا مُجرَّدين من كُلِّ شيء، وهم ينتظرون وصول الإعانات الإنسانية التي تتبرع بها المنظمات الدولية الى جانب ما تُرسله حكومة العراق المركزية.

اليوم بالذات انتهى اجتماع دول حلف شمال الأطلسي المنعقد في ويلز البريطانية، ومن ضمن قراراته التي أعلن عنها في الاعلام، بأن دول الحلف أقرَّت تصميماً بدحر الإرهابيين الداعشيين وتصفيتهم من العراق أولاً ومن سوريا ثانياً، حيث شعروا بأن إرهاب داعش قد يجتاحهم في عقر دارهم، وعليهم الإستباق في تدميره والقضاء عليه، فالأمل كبير ووطيد بأنَّ نهاية الإرهاب ستكون قريبة بعون الله. أشارككم الهمَّ سيدي البطريرك وأتضرع الى المولى القدير أن يهبكم الحكمة لإدارة الرعية المنهارة ويمنحكم الصبر والصحة.

 

الشماس د. كوركيس مردو

في 5/9/2014  

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *