البارزاني مصطفى وثورة ايلول التحررية لحظة حاسمة من الزمن العراقي

مع سيرورة التاريخ نقرأ عن لحظات ساخنة وحاسمة تترك بصماتها على مسيرة الشعوب ومجريات الأمور بما  يوازي او يعادل عقود من الزمن الأعتيادي المألوف ، وفي تلك اللحظات من عمر الزمن يبرز قادة لهم شخصية كارزمية ويلعبون دوراً سياسياً وعسكرياً حاسماً في تلك المسيرة ، وإن القائد الكوردي ملا مصطفى البارزاني خرج من رحم تلك الأحداث الدراماتيكية . وفي المسألة الكوردية كان فيها محطات تاريخية كان لها الدور الحاسم في بلوغ الأكراد الى ما توصلوا اليه اليوم ، منها نتائج معركة صحراء جالديران عام 1514 م . حيث كان تقسيم الأكراد ومدنهم بين الدولة الفارسية والأمبراطورية العثمانية ، ومحطة اخرى حاسمة ايضاً كانت اتفاقية سايكس بيكو في عام 1916 والمحطة الثالثة كانت وقت تأسيس الدولة العراقية وضم لواء الموصل اليها .
وكما هو معلوم فإن المجتمعات في كوكبنا اليوم عبارة عن اقليات كبيرة وصغيرة لا تعد ولا تحصى من قومية وأثنية وثقافية ومذهبية ولغوية وقبلية وأقليمية .. ومع تعدد هذه الأقليات تتعدد وتتشعب المشاكل وتتضاعف الحركات الأقلوية المطالبة بالهوية وحقوقها ، وهذه المسألة ليست محصورة في قارة او اقليم ما ، إنما هي مسالة تخص العالم برمته ، فنحن دائماً نسمع عن ثورات وانتفاضات وحروب ، وتشكيل دول او تفكك امبراطوريات فتستيقظ شعوب وتنتظم بطريقة جديدة فتغير مجرى التاريخ لتكتب تاريخاً جديداً ، وإن المسألة الكردية تدخل في ذلك السياق العالمي والى اليوم .
بعد تفكك الأمبراطورية العثمانية الناجم عن هزيمة دول المحور ، شعر الأكراد وقتذاك ان قدراً من الظلم قد طالهم بسبب عدم اتاحة الفرصة لهم لتشكيل دولة كوردية في مناطقهم  اسوة ببقية المكونات الأخرى التي كانت تابعة للامبراطورية العثمانية . واستكمالاً لتلك المنطلقات  بادر المرحوم ملا مصطفى البارزاني بثورته في ايلول 1961 م . وتمكن بإمكانات متواضعة ان يحرز لنفسه ولشعبه مكاناً مهماًعلى الساحة السياسية العراقية وعلى مدى عقود ، وأفلح في وضع قضية شعبه امام انظار المحافل الدولية .
المشكلة في ثورة ايلول وما تلاها من انتفاضات وثورات كانت دائماً تصطدم بمصالح الدول الأقليمية مصحوبة بعمليات قمع عسكرية واسعة وحصار اقتصادي محكم . كل ذلك جعل من الثورة الكوردية عموماً ان تبقى محصورة في حدودها الضيقة لعقود طويلة مع إضفاء عدم شرعية لمسيرتها ، والسبب كما هو معلوم هو عدم تبنيها او قبولها من قبل القوى الكبرى النافذة في العالم . ونحن نرى اليوم كيف ان ثورات التي سميت اليوم بالربيع العربي قد كتب لها النجاح بسرعة نسبية ، لإن القوى الكبرى قد اعترفت بشرعيتها وقدمت لها الدعم المادي والعسكري والدبلوماسي ، لنجد تلك الثورات تتبوأ مقاليد الحكم في تلك البلدان منها تونس وليبيا ومصر واليوم تتوجه الأنظار نحو سورية .
بالنسبة الى الأكراد فالأمر مختلف تماماً فثمة تقطيع كامل لتقسيم الشعب الكوردي بين العراق وتركيا وأيران وسورية ، بالنسبة لأيران يشغل الأكراد المناطق الغربية من هذه الدولة ، وهي الحدود المتاخمة لأقليم كوردستان في العراق ، وبدورها ايران تتشكل من اثنيات وأعراق مختلفة تشكل الأقليات في هذه الدولة حسب الأدعاءات الرسمية 49% ولهذا تعمل الحكومة على إخماد وقمع اي تطلعات عرقية بين هذه الأقليات التي تكون نسبة عالية نسيجها الأثنوغرافي .
اما في سورية فإنهم في مدن الحسكة وقامشلي والقرى الى الشمال الشرقي من سورية المتآخمة للحدود مع اقليم كوردستان ايضاً ، لكن الأكراد في تركيا يشكلون  مجموعة عرقية متميزة تتركز أساسا في المقاطعات الجنوبية الشرقية من البلاد، وتشكل أكبر عرق من غير العرق التركي والتي تقدر بحوالي  20 ـ 25 مليون ومع ذلك فإن الأكراد ليس لهم وجود كوردي رسمي من الناحية القانونية انهم اتراك الجبال ليس إلا . وهي التسمية الوحيدة التي تعترف بها الدولة التركية منذ تأسيسها .
المهم من هذا الأسترسال هو تبيان توزيع الأكراد في منطقة الشرق الأوسط بين دول متآخمة هي العراق وتركيا وأيران وسورية ، والذي تبين في نهاية المطاف ان العراق كان اكثر تجاوباً مع المسألة الكردية وباعتقادي ان السبب يعود الى لجوء الأكراد منذ تأسيس الدولة العراقية الى المناداة بحقوقهم إن كان بشكل مستقل او ضمن الدولة العراقية ، وعلى العموم فإن مصالح الدول الأقليمية في المنطقة تتضارب مع تكوين دولة كردية تضم الأكراد الموزعين على الدول الأربعة .
كان القائد الكردي ملا مصطفى البارزاني يدرك هذه الحقيقة ، وكان يحاول جاهداً لإيصال قضية شعبه خارج حدود المنطقة لكسب الرأي العام ، فيحاول فتح الطريق امام الأعلاميين القادمين من الغرب ، لكن معوقات التضاريس الجبلية والحدود المضطربة كانت كثيرة امامهم بغية منعهم من الوصول الى المناطق الساخنة في المنطقة . من جانب آخر حاول البارزاني من خلق اي نوع من انواع الروابط مع الدول الأجنبية ، كما انه قبل بالأمر الواقع بأن تشكل القضية الكوردية ورقة يستخدمها اي طرف من اجل مصالحه الوقتية وهكذا يستفيد الطرف الكردي من تلك الفسحة ، وإن علاقة الثورة الكوردية مع شاه ايران كانت مبنية على تلك السياسة في قبول اي يد ممتدة والأستفادة منها بقدر الإمكان .
لم يتخصص المرحوم ملا مصطفى البارزاني في دراسات العلوم السياسية ، لكنه ابن واقعه والحياة علمته السياسة فتعامل مع الأتحاد السوفياتي السابق بجهة انتصار الأخير للحركات التحررية في العالم ، لكن الأتحاد السوفياتي ايضاً كان له مصالحه ولا يمكنه التفريط بها من اجل الأكراد وهكذا رأينا كيف دأب الأتحاد السوفياتي على تسليح العراق في عهد صدام ، وصدام يشن حملته العسكرية ضد الأكراد . ومن هذا المنطلق ايضاً كان انفتاح امريكا على الحركة الكوردية بجهة تقوية الأكراد للتقليل من ضغط العراق العسكري على اسرائيل وبعد سنوات يصرح كيسنجر بأن منفعة قرار نيكسون بخصوص دعم الكورد اتضح بعد مضئ سنة واحدة فقط . إذ ان فرقة عسكرية واحدة فقط كانت متاحة للمشاركة في حرب الشرق الأوسط في عام 1973 ـ ومن جانبه يضيف الكاتب : ان العلاقة السببية بين انشطة الكورد في عام 1973 وتصريح كيسنجر هي علاقة ضعيفة في احسن الأحوال <1 > .

كما كانت هنالك علاقة مع اسرائيل وفي الحقيقة هنالك علاقات تاريخية بين الأكراد وبين اليهود الذي سكنوا كردستان منذ اقدم العصور ومع يهود العراق الذين هاجروا الى اسرائيل في اعوام 1948 ـ 1951 بمساعدة كوردستان العراق . وهكذا يكتب الأستاذ مسعود البارزاني عن هذه العلاقة فيقول :
(إن مسالة إقامة العلاقة مع اسرائيل كان قراراً جماعياً لقيادة الثورة ، وأولى صلات باسرائيل جرت في المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكوردستاني في حزيران 1963 بلقاء سري بين السيدين جلال الطالباني وشمعون بيرس في باريس بتوسط الأمير كامران بدرخان ، وعلى اثر ذلك اللقاء سافر الى اسرائيل وفد برئاسة ابراهيم احمد وعضوية مصطفى دبابة وسيد عزيز شمزيني عن طريق ايران ، التي فتحت الطريق لمرور مساعدات محدودة من اسرائيل الى الثورة عبر اراضيها  )< 2> .
لقد تصرف ملا مصطفى البارزاني  بمنطق الغريق الذي يتشبث بأية خشبة يستطيع الإمساك بها لكي تنقذه وشعبه من مغبة الغرق والأندثار . لا شك ان اتصالاته بالأطراف الدولية لم تجر وفق السياق الدبلوماسي المتبع في العلاقات بين الدول إنما كانت عن طريق اجهزة مخابرات تلك الدول ، ولهذا كانت التهم جاهزة لإلصاقها به من قبيل الملا الأحمر لعلاقته بالأتحاد السوفياتي والعميل البريطاني ومن ثم الأسرائيلي والأمريكي وأخيراً العميل الإيراني .. الخ ، وفي الحقيقة ان الرجل كان يرفع بيده الواحدة شعار قضية ومصلحة شعبه واليد الأخرى يمدها لكل من يقف الى جانب تلك القضية ، وهكذا في كل تلك العلاقات التي حققها كان للبارزاني اهدافه ويرمي الى تحقيق مصلحة شعبه ، والآخر ايضاً له اجندته في تحقيق مصالحه من وراء ذلك التعاون ، وعلى تلك الأسس انطلق البارزاني  في ثورة ايلول عام 1961 م . وبقي مخلصاً لقضية شعبه الى ان وافاه الأجل عام 1979 م . وكان للشتلة التي غرسها ملا مصطفى البارزاني قد اينعت واعطت ثمارها للاجيال اللاحقة فكان اقليم كوردستان ، الذي يشق طريقه في مضمار الحضارة في الوطن العراقي وفي الركب الحضاري الأنساني عموماً .


الدكتور حبيب تومي / اوسلو في 22 / 09 / 12
ـــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لامبرت ، بيتر جي . ” الولايات المتحدة والكورد دراسة حالات عن تعهدات الولايات المتحدة ” ترجمة ونشر : مركز الدراسات الكوردية وحفظ الوثائق / جامعة دهوك  ،عام 2008 ص74 .
2 ـ مسعود البارزاني ” البارزاني والحركة التحررية الكردية ” ج3 ص380

You may also like...