الإنشقاقات والنكبات التي عصفت بالأمة الكلدانية وكنيستها والمآسي التي حَلَّت بها عِبرَ الزمَن / الجزء الثامن والعشرون

 

تضعضع الإيلخانيين وبروز الجلائريين

 

8- علاء الدين أبو سعيد بهادر 1317 – 1335م

إنَّه إبن اولجايتو الذي وُلِدَ له في السنة الثانية مِن حُكمِه، ولدى موت والده كان عُمرُه عشرة أعوام، وباعتباره وريثاً للعرش أولاه الأمراءُ السُلطة تحت الوصاية، فاستفرَدَ بالإدارة أميرُ الأمراء “جوبان” بمُساعدة أبنائه ونُوَّابه، وفي خِضمِّ فتنةٍ كُبرى وقعت عام 1319م بين الأمراء والزعماء المغول أدَّت الى القتال فيما بينهم كان حصادُ ضحاياها مِن القتلى ما تعدَّى الثلاثين ألفاً. وخرج مِنها الأميرُ جوبان منتصراً وتمَكنَ مِن الـقبضِ على زمام الأمور، فأقامَ كلاًّ مِن أولاده أميراً على أحد البلدان. ونشَبَ خلافٌ في عام 1327م بين السلطان بهادر وجوبان تطوَّرَ الى صراع دموي وقتلَ جوبان في السنة ذاتها، كما قتلَ إبنه “تمرتاش” حاكمُ بلاد الروم في السنة الثانية. وبعـد مَقتل جوبان عَيَّنَ السلطان عام 1329م بدلاً عَنه الشيخ حسن بن عَمَتِه أخت غازان واولجايتو ليكون نائباً له. وأُثيرَت موجة اضطهادِ فظيع جدا ضِدَّ المسيحيين وفي عام 1333م أُجبِرَ النصارى واليهود في بغـداد على لبس الغيار والشارة، تعَـرَّضَت كنائسُهم وأديارُهم للتدمير، وحُوِّرَت كنائسُ كثيرة الى جوامع، وتحوَّلَ الى الإسلام عـددٌ كبير جداً مِن المسيحيين. قـضى أبو سعيد بهادر نحبَه عام 1335م عَن عُمر ناهز الثلاثين عاماً ولم يُرزَق بخلفٍ، دُفنَ في مدينة السلطانية.

 

9 – ارباخان 1336- 1336م

بسبب عدم وجود خلفٍ لأبي سعيد بهادر، وُلِيَ السلطةَ ارباخان وهو إبن آريق بوقا أحد أبناء تولي خان. وفور جلوسِه على العـرش، إنتفض الخاناتُ والأمراءُ مُعلنين عدم أحَقيتِه بالعرش، فعَمَت الفوضى والإضطرابات أنحاء المملكة وثارت الفِتَن مِن كُلِّ صوب. وقتِلَ السلطان ارباخان بعد مرور بضعة أشهر على حُكمه وقيل ستة أشهر.

10 – موسى خان 1336- 1336م

بعد مَقتل أرباخان ووزيره غياث الدين محمد، خَلت الساحة امام علي باشا وهو خال السلطان ابي سعيد بهادر فأجلـسَ موسى على العـرش، وموسى هذا هو إبن علي بن بايدو بن طورغاي بن هولاكو، فثار عليه مُعظـمُ امراء المملكة مُندِّدين بالإجراء الإنفرادي الذي إتخذه. فتحالفوا مع بعـضهم ضِدَّ السلطان وقتلوه في ذات السنة التي وُلِّيَ الحُكم فيها. وأعقبَه خمسة سلاطين هم: السلطان محمد، طغاتيمور، ساطي بك،  سليمان خان، وجِهان تيمور.  وجاء في (التاريخ الغـياثي ص 76 – 77) فكان تَوالي سبعة سلاطين بعد أبي سعيد بهادر خلال فترة لا تتعدَّ العشرين عاماً سبباً في ظهور طغـمةٍ فاسدة جائرة تسلطت على البلاد والعِباد، فازداد عددُ الخوارج ، وتفاقـمَت الأوضاعُ سوءاً، ودارت الحروبُ بين المتسابقين في الإستحواذ على السلطة، مِمّا أدّى الى دَبِّ الضعف والإنحلال في أوصال هيكل الإمبراطورية المغولية العـظيمة التي أقامَها الفاتحُ الكبير هولاكو. ولذلك كان عمرُ هذه الإمبراطورية قصيرا إذا ما قورن بعظـمَتِها، إذ لم يَطل حُكمُ سلالة مُنـشئها الإيلخان هولاكو أكثر مِن قرن.

ويـُشير مؤلـف كتاب (العراق في التاريخ ص 55) الى اسباب سقوطـ الإمبراطورية المغولية، بأن أبرزها كان الصراع على السلطة الذي دار بين امـراء العائلـة المالـكة ، وقـد ذرَّ قـرنـُه بعـد موت اباقا خان بن هولاكو عام 1282م. فبموتِه اتـَّسَعَ المجالُ أمام تدَخُل الزعـماءِ المغـول ولا سيما الأمراء مِنهم في أمر تنصيب الأيليخان، حيث سبَّبَت أطماعُهم بـبروز الفـِتنة في أواخر عهد المملكة أدَّت الى انهيارها. وكان موت الإليخان الثامن أبي سعيد بهادر عام 1335 م دون وريث، مَدعاة ً لتسابق الطامعين بالسلطة الى استغلال الفرصة لنيل الحُكم. ومِن جَرَّاء ذلك اندلعت نارُ حَـربٍ أهلية لا هوادة فيها، إكتوَت بنارها كافة أرجاء البلاد، وضعت حدّاً لها الأسرة الجلائرية باستيلائها على الحُكـم عام 1337م.

 

73- البطريرك طيمثاوس الثاني 1318 – 1332م

إننا نُواجُهُ جَهلاً كبيراً عن تاريخ الكنيسة الكلدانية النسطورية في القـرن الرابع عشر، فلا نَملك معلومات وافية عن انتخاب خلف البطريرك ماريَهبَلاها الثالث وهو البطريرك طيمثاوس الثاني، لم يأتِ المؤرخون الى ذِكر أيِّ شيءٍ عَن أوائل حياته، وقد تحَدَّثَ عنه بطرس نصري في (ذخيرة الأذهان ج2 ص 75 ، 76 ، 77) ننقل عنه بتصرُّف : في النهايات الأخيرة للقرن الثالث عشر كان مطراناً على أبرشية الموصل ويُدعى إسمُه يوسف،  ثمَّ نُقِل الى أبرشية أربيل بعد وفاة ميطرابوليطِها مارإبراهيم في حدود عام 1310م ومِن موقعه الجديد عاينَ الأحداث المأساوية التي دُبِرَت ضِدَّ المسيحيين أبناء الكنيسة الكلدانية النسطورية في أربيل وقلعتها استبيحَت فيها دماءُ عـددٍ كبير مِنهم كما تَقدَّمَ بنا ذِكرُه. وبالتأكيد هو يوسف ميطرابوليط  أربيل الذي جاهد جهاد الأبطال لدى السلطات الإيلخانية المغولية الحاكمة لتَجَنُّب مجزرة قـلعة أربيل الرهيبة والبشعة. وكان اليد اليُمنى للبطريرك يَهبَلاها الثالث في مُساعدتِه والدفاع عنه أمام الأمراء المغول والملك في تفنيد التهـم المُلصقة به ظلماً وافتراءً مِن قبل عُتاة المُسلمين.

وعندما تُوفي البطريرك يَهبَلاها في منتصف تشرين الثاني 1317م توجَّهت أنظارُ الآباء الكنيسة الناخبين مِن مطارنةٍ وأساقفـة الى يوسف ميطرابوليط أربيل، وكان لهذا التوجُّه مَدعـيان: الأول تقديراً لجهوده الجبارة والمُضنية التي بذلها للذود عن البطريرك مار يَهبَلاها وأبناء الكنيسة القاطنين في قلعة أربيل، أما الثاني فـلكونِه عالِماً جَليلاً ومُتضَلعاً مِن لغاتٍ عديدة بحسب قول عبديشوع مطران نصيبين في مجموعته القانونية (السمعاني/ المكتبة الشرقية ج3 ص 569) وكان هو ذاته مِن جملة الناخبين، إذ إنَّ الأجلَ وافاه بعد انتخاب البطريرك وبعد عقد المجمع الذي دعا إليه البطريرك الجديد. فأجمعت آراءُ الآباء الناخبين على إقامة يوسف بطريركاً نظراً لـِما يتمتع بـه مِن شخصيةٍ ذات نشاط كبير وعِـلم ٍ غزير وتضَلع مِن اللغات وحِكمةٍ في الإدارة. إختار اسمَ طـيمثاوس وقد يكون تَيمُناً باسم طيمثاوس الأول. وانتهز البطريرك الجديد مارطيمثاوس الثاني فرصة تواجد الآباء المطارنة والأساقفة مُجتمعين معاً، فقرَّرَ عقد مجمع (سينودس) في مُستهَلِّ عام 1318م، فأسفرت حصيلة أعمال هذا المجمع عَن سَـنِّ (13 قـانـوناً) خَصَّت الشأنَ الإداري الكنسي والحَثَّ على الإلتزام التام بالقوانين الرسولية وقوانين آباء الكنيسة المشرقية الكلدانية النسطورية. كما وافق المجمع على تأييد كتابَين مِن وضع عبديشوع الصوباوي، ألأول حول مجموعة القوانين المجمعية والثاني حول تنظيم الأحكام الكنسية.

 

وعُقدَ المجـمع برئاسة البطريرك الجديد مارطـيمثاوس الثاني وشارك فيه أحـدعشر مطراناً واسقفـاً وهم التالية أسماؤهم وكما ذكرتها أعمال المجمع:

1 – مار اسحق اسقف بيث درون

2 – مار ايشوعياب اسقف تلا وبربلّي

3 – مار شمعـون مطران الموصـل

4 – مار شمعـون مطران بيث كَرماي

5 – مار شمعـون اسقف الطيرهان

6 – مار شمعـون اسقف بلد

7 – مار عبديشوع مطران نصيبين وأرمينيا (وافاه الأجَل بفترةٍ بعد المجمع)

8 – مار عبديشوع اسقف حنيثا

9 – مار يوحنان اسقف بيث وازيق

10 – مار يوحنان اسقف سنجار

11 – مار يوسف ميطرابوليطـ عيلام

وبالنظـر لندرة المصادر التاريخية حول مسار الأحداث في الكنيسة الكلدانية النسطورية، فنُرجح استقـرارَ البطريرك مارطـيمثاوس في أربيل، حيث اجتمع فيها كافة مسيحيي المنطقة بعد أن خيَّمَ الهدوءُ عليها. وإذا كانت الأوضاع قد هدأت ههنا، فإنَّ الإضطرابات اندلعت في مراغا، واستباح المسلمون الكنائس والأديرة فيها، فـما كان من المسيحيين إلا أن سارعوا في نقل رُفات ماريَهبَلاها الثالث من مراغا الى أربيل ثمَّ الى ديرمارميخائيل ترعيل، فدفنوها فيه. ويقول الأنبا شموئيل جَميل بأنه عُثرعلى مخطوطةٍ وحيدة لكتابٍ وضعـه مارطيمثاوس الثاني في العِلل السبع لأسرار الكنيسة، يُستدَلُّ مِنه على مدى تعَـمُقِه في المعارف الدينية والأدبية. واستنـسخه وأودع نسخة ً مِنه في دير السيدة القريب مِن القوش.

 

أ- الدولة الجلائرية 1337 – 1411م

الجلائريون هم أبناء قـبيلة جلائر jalayir إحدى كُبرى القبائل المغـولية تقيم الى الشرق مِن منغوليا بالقـرب مِن نهـر< اونـن > لها فـروعٌ عديدة ولكُلِّ فـرع زعـيم يُدير شؤون قبيلته، وقد التبس على المؤرخين تحديد أصل الجلائريين، فمنهم مَن قال بأنهم مِن أصـل تُركي بحسب قـول عباس العزاوي ( تاريخ العراق بين احتلالـَيـن ج1 ص 68 وج2 ص 25 ) وقال البعـض الآخر بأنهـم مِن أصل مغـولي ومنهم ( كلـشن خلفا ص 163 ) حيث يقـول أن جماعة الإيلخانيين تعـود بنسبها الى آقبغا بن ايلخان بن جلائر. ويقول نوري عـبدالحميد العاني ( العراق في العهـد الجلائري ص 20 ) بأن ما حـدث مِن اختلاطاتٍ كبيرة بـين القبائل في آسيا الوسطى إثر غـزوها مِن قبـل العنصر التُركي، أحدث تغييراتٍ عـرقية متنوعة، وكان العنصر التركي الأكثر غلبة ً مِـن غيره في مناطق بلاد ما وراء النهر، وعلى هذا الأساس يُعتبَر الجلائريون ذوي اصول تُركية وقد عُرفت بالمغولية لاحقاً.

 

لقد ذكرنا في معرض الحديث عن الملوك الإلخانيين “المغول” بأن أفراداً مِن الجلائريين قـد برزوا في الجيش المغـولي وتـبـَوّأوا مناصب متقدمة ، وعلى وجـه الخصوص في عهد هولاكـو والأبـرز بين هؤلاء ” ايلـكا – نـويان ” الذي يـُشار إليه بأنـَّه الـجـد الأكبر للشيخ حسن بـل للسلالة الجـلائرية ، فقـد إحـتـلَّ مـَنـصـب أمارة الجيش ورافـق هولاكـو في احتـلالـه لبـغـداد عام 1258 م وكان مساهـماً في مهمة الـحامية المؤلـفـة مِن (3000 فـرد عسكـري)التي أبـقاها هولاكـو لتـَثبـيـت السلطة المغـولـية في بـغـداد. رُزق ” ايلـكا – نـويان ” بعشرة أبـناء ، تـولـّى التاسعُ منهـم المدعـو ” أقبغـا ” مَنصب أمير الأمراء في عهد كيخاتـو خان، وزوَّج أقـبـَـغـا إبـنـَه حسيـن مِن اولـجَـتاي إبـنـة أرغـون حفـيـد هولاكـو ، فحصل على لـَقـب ” كـوركـان ” الـذي يـعـني صهـر الملك ، وفي عهـد السلطان أبي سعـيـد بهادر عـُيـِّنَ أميـراً على خـُرَسان . وبـفـضل هـذا الزواج حَـصل إبـنـُه حَسن على مَـنزلةٍ كَـبيـرة حيـث عَـيـَّـنـَه السلطان أبو سعـيد بهادر حاكماً على بلاد الروم باعتباره إبن عَـمَّتِه ، فأصبح واحداً مِن رجال الإدارة في عهد أبي سعيد آخر الإيلخانات الأقوياء.

 

ففيما كان الصراعُ الدائرُ بين السلاطين والأمراء الجلائريين آخذاً منحاه العـنيف، كان تيمورلَنك ذو الطموح اللامحدود يُخطـِّط ويستعد للقيام ببسط نُفوذه على مناطق واسعة تحقيقاً لحُلمه بإعادة إمبراطـورية أبناء جنكيزخان التي ينتمي بجذوره أليهم الى سابق عهدها، وشرع بالإستيلاء على الإمارات المجاورة له  والتفَّ حوله قومُه بأعداد كبيرة فقويَت عـزيمتُه وتضاعفَ طموحُه الى المُلك حيث أعلن نفسه ” خاناً ” عام 1370 م . وشرع بإعداد جيش ضخم غالبيته مِن العنصر التركي ، فبدأ بغـزو خـوارزم في عام 1372 م ولكنه لم ينجح في احتلالها إلا أن ذلك لم يُثنِه عن إعادة الكرة ثانية وثالثة الى أن أفـلح في المرة الرابعة عام 1379م فاستولى عـليها وهي في حالةٍ يُرثى لها مِن الخراب والتدمير مِن جرّاء ما تعرَّضت له مِن الـهجوم المتواصل خلال السنوات السبع. وفي عام 1383م استولى تيمورلنك على خـُرَسان، جـرجان، مازندران، سجستان، أفـغانستان، فـارس، أذربيجان، وكردستان وبذلك حقَّق حُلمَه بحيازته على أملاك الدولة الإيلخانية التي أرسى أسسها هـولاكو حفيد جنكيزخان.

كما أنَّ القس وليم ويكَرام الأنكليكاني الذي عبث بأفكار الكلدان النساطرة المنزوين اعتصاماً بجبال هيكاري العاصية، فتمكَّن من إقناعهم بتغيير تسميتهم من كلدان نساطرة الى “آثوريين” لقاء وعودٍ كاذبة بأنَّ المملكة المتحدة ستعمل على ايجاد وطن قومي لهم تحت هذه التسمية في المنطقة التي كان يسكنها آشوريو التاريخ المنقرضين موهِماً إياهم وطالباً منهم أن يدَّعوا بأنهم أحفادهم، ومنذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر راخ يُسخِّر قلمه إعلامياً في الترويج لتسميتهم الجديدة في اوروبا والعالَم، فضلاً عن قيامه بتأليف كُتبٍ عديدة منافية للتاريخ والحقيقة وحسب هواه بصددهم ومنها على سبيل المثال “الآثوريون وجيرانهم” وفي (الصفحة 145 و149 من الكتاب الآنف الذكر) يذكر هذا الداعية بأنَّ الغازي المغولي تيمورلنك قادَ حملتَين عسكريتَين شرستَين على بلاد ما بين النهرَين وبخاصةٍ على منطقة الموصل وتوابعها، الأولى في عام 1392م والثانية في عام 1400م وهذه الأخيرة تركَّزت على منطقتَي اربيل والموصل الزاخرتَين بالمسيحيين والغالبية العظمى منهم كانوا كلداناً، فأبادهم ولم ينجُ إلا القليل منهم لاذوا بالفرار الى مناطق جبلية. ويُشير المؤرخ لونكريك (اربعة قرون من تاريخ العراق الحديث ص 32) بأنَّ جحافل تيمورلنك الإسلاميَّ المُتزَمِّت ضِدَّ المسيحية ومعتنقيها، أحدثت دماراً هائلاً بالموصل والقرى التابعة لها، إلا أنَّه لم يأتي الى ذِكر أسماء تلك القرى.

 

بعد موت تيمورلنك لم يستطع أولاده من الحفاظ على الإمبراطورية الواسعة التي أسسها، حيث كان لهم بالمرصاد الكثير من أعداء والدهم، فظهرت دولتا الخروف الأسود “القره قوينلو 1411-1467م” ثم دولة الخروف الأبيض “الآق قوينلو 1467-1508م” وتلتهما الدولة الصفوية 1501-1736م بقيادة الشاه اسماعيل الصفوي الذي كان يُراقب الفوضى والإضطرابات والحروب المتواصلة بين أمراء دولة الخروف الأبيض “الآق قويلو” التي ضعضعت قوتها بشكل كبير، فاستغلَّ الشاه اسماعيل ذلك وبادر الى توسيع رقعة سُلطته حيث تحرَّك نحو تِبريز في بداية القرن السادس عشر واحتلَّها معلناً ذاته شاهاً أي ملكاً على ايران بأسرها، ولقَّبه أنصارُه بـ”أبي المظفَّر الشاه اسماعيل الهادي الوالي” وتمَّ ذلك عام 1502م.

لم تنفع معه مناشدة السلطان الآق قوينلي مراد له لعقد الصلح بينهما، بل اندفع ببسط نفوذه على كامل الهضبة الإيرانية. وفي نحو عامَي 1505 -1507م استولى على دياربكر مقَرِّ السلطان الوند. وبعد ذلك عزم على الزحف الى بغداد وكان السلطان مُراد قد قدم إليها بعد احتلال تِبريز، فشعر مُراد بعدم قدرته على التصديَ للشاه اسماعيل، فطلب النجدة من الحاكم المملوكي لمصر والشام وبأمير الأناضول، إلا أنهما لم يستجيبا لمطلبه، فنشبت بين اسماعيل ومُراد معارك عسكرية كان النصر فيها الى جانب الشاه اسماعيل فدخل بغداد منتشياً بالنصر، وبحسب قول بعض المؤرخين بأنه لم يتردَّد في قتل السنة والنصارى واضطهاد المتبقين منهم، ولكنه استثنى اليهود من الأذى بسبب تأديتهم الخدمة له ونَفحِه بالتحف والهدايا الى جانب تجسُّسهم لصالحه قبل دخوله الى بغداد وبعده. أما السلطان مراد فقد احتمى بعد سقوط بغداد لدى علاء الدين ذي القدر حاكم الأناضول، وتزوَّج من إبنته وأنجبت له ولدين يعقوب وحسن. وبعد سنتين من قيام بارياك الآق قوينلو حاكم بغداد بغزو الموصل وضواحيها عام 1508م، وكانت قريتا تلكيف وتللسقف اكبر ضحيتَين لهذا الغازي الأثيم، رثاهما بقصيدةٍ كلدانية معبِّرة القس كوريال بن القس خوشابا الألقوشي، وهي محفوظة في خزانة الرهبانية الكلدانية للمخطوطات تحت رقم 959/3. وقد أشار الى ذلك الشهيد أدَّي شير مطران سعرد الكلداني في (المجلة الآسيوية عدد 10 مجلد 15 ط. باريس ك2 1910م) وعلى غِرار بارياك قام اسماعيل شاه الصفوي عام 1510م باحتلال منطقة الموصل بأكملها مُستبيحاً إياها كما استباح بغداد من قبلها عام 1508م حيث خَلَّفَ فيها دماراً وخراباً شديدَين، ونحراً للمُسلمين السنة، أما معاملته لغير المُسلمين فكانت أشدَّ قساوة وشراسة.

 

وتوالت الأحداث وتمكَّن عثمان الأول التركي 1290-1324م من تثبيت دعائم دولته، حيث ورد في كتاب (المصور في التاريخ ج6 ص 116) <بأنَّ عُثمان ظلَّ يحكم دولته الجديدة كسلطان مستقل حتى تاريخ 6 نيسان لعام 1326م الذي فيه احتلَّ إبنُه “اورخان” مدينة بورصة الواقعة بالقرب من بحر مرمرة. وفي هذا العام ذاته يقول سرهنك، الميرالاي اسماعيل (تاريخ الدولة العُثمانية ص 14) تُوفيَ عُثمان عن عُمر ناهز السبعين عاماً بعد أن ثَبَّتَ أسَسَ الدولة وعَبَّد لها  دربَ النمو والإزدهار.

 

2 – اورخان 1324-1362م

تولّى الحكم بعد وفاة عثمان الأول إبنُه اورخان، وعنه يتحدَّث (تاريخ الإمبراطورية العثمانية وتركيا الحديثة ج1 ص13-14) بأن اورخان اهتمَّ بوضع تنظيم مُحكمٍ لمملكته، حيث قسَّمها الى ولايات واتخذ من مدينة بورصة التي احتلَّها عام 1326م قاعدة لها، وشمل التنظيم الجيش مُقسِّماً إياه الى فِرَق من الفرسان، كما قام بضرب النقود باسمه. وبعد احتلاله لمدينة نيقية عام 1331م أصبح سيِّدَ المنطقة المقابلة لأوروبا، وراح هو وابنُه يقودان حملاتهم ضِدَّ الغرب الأوروبي. ويقول (نيكولي ص 7) بأن أغلب سباياهما كانوا فتياناً روميين واوروبيين مسيحيين يافعين فقدوا أهاليهم أثناء الحروب. قام اورخان بالعناية بهم وخصِّهم بامتيازات كبيرة الى جانب تلقينهم الدين الإسلامي مُنسياً إياهم كُلَّ ما يمُتُّ الى المسيحية بصلة وبعد تأكُّدِه من تعلقهم بشخصه وإظهارهم الولاءَ له والإخلاص للدين الإسلامي، ألَّفَ منهم جيشاً قوياً مدرَّباً تدريباً صارماً وغارزاً في أذهانهم بأن هؤلاء الروم والأوروبيين هم أعداء دولتهم التركية وعليهم محاربتهم بقوة وإجبارهم على اعتناق الإسلام وأطلق عليهم “جيش الإنكشارية”.

ومن مساويء حفيد اورخان السلطان بايزيد الأول 1389- 1402م قيامُه بإرسال الأسرى المسيحيين الى تبريز وبغداد والقاهرة لعَرضهم في شوارعها للإستهزاء بهم. ولزيادة القطيعة بين الكنيسة الأورثوذكسية بكُلِّ فصائلها من اوروبية شرقية وبيزنطية وبين الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، أعلن العثمانيون أنفسهم كحُماة للأورثوذكس ومنحوا كنائسهم بعض الأراضي كذر الرماد في العيون، وبذلك فاقموا العداء بين أبناء الكنيستين الكاثوليك والأرثوذكس. والى الجزء التاسع والعشرين قريباً.

 

الشماس د. كوركيس مردو

في 7/6/2015

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *