الإنشقاقات والنكبات التي عصفت بالأمة الكلدانية وكنيستها والمآسي التي حَلَّت بها عِبرَ الزمَن / الجزء الثالث والعشرون

 

الكنيسة الكلدانية النسطورية وسقوط بغداد بيد التتار

                     

32 – الخليفة المُستنصر بالله 1226 – 1242م

يقول إبن الكازرُني (مُختصر تاريخ الدول الدول ص 258) بأنَّه جعفر المنصور إبن الخليفة الظاهر بأمرالله، المُلقب بـ “المستنصر بالله”. كانت اُمُّه رومية وتُسمّى”شيرين”. أما السيوطي (تاريخ الخلفاء ص 460) فيقول بأنَّها كانت تركية وقيل أنَّ اسمها “أخشو” ويُواصل القولَ: نوديَ به خليفة في يوم موت والده الظاهر، وشرع بنشر العدل بين الرعايا، وبذل الإنصاف في القضايا وتقريب أهل العِلم والدين. وهو الذي أنشأَ المدرسة المستنصرية على دجلة في الجانب الشرقي مِن بغداد، ما بُنيَ على وجه الأرض أحسن مِنها، ونقلَ إليها 160 حِملاً مِن الكُتب النفيسة. وأجازَ فيها المذاهب الأربعة، وأقام لكُلِّ مَذهبٍ شيخاً يُدرِّسُه، الى جانب 300 فقيه يتوزَّعون على المذاهب الأربعة، وزَوَّدَهم بالأكل والشرب ومُختلف وسائل الراحة، حتى إنَّه بنى داخل المدرسة حَمَّاماً خاصاً بسكّانها وطبيباً خاصاً يتردَّدُ إليهم كُلَّ صباح .

 

وما إن تَمَّ إنشاءُ المدرسة المستنصرية، حتى انتقل إليها إبن فضلان الفقيه المُتزَمِّت والحاقد الكبير على المسيحيين، الذي حَرَّض الخليفة الناصر ضِدَّهم ولكنَّ الناصر لم يُعِره أيَّ اهتمام. أما الآن فقد سُلِمَ إليه “ديوان الموالي” والأوقاف وغيرها مِن المناصب الرفيعة، حتى توَصَّلَ الى رُتبة “المُحتسِب” لدار الإسلام كُلِّها. فالموقع الرفيع هذا أتاحَ لإبن فضلان الفرصة التي كان يتمنّاها لكي ينتقمَ مِن الذميين على هواه، ويُلزمُهم بشروطـٍ مُجحفة تَحُطُّ مِن كرامتهم ومِنها مثلاً: أن يأتيَ كُلُّ ذُمّيٍّ بنفسِه في وضح النهار وهو يحمل جزيته في يده، و يَمكث واقفاً الى أن يدفعها للمسؤولين. وتسري هذه القاعدة حتى الذين لهم الحظوة عند الخليفة، كالأركذياقون أبي علي بن المسيحي. تُرى، أليس هذا الإجراءُ الجائرُ هو أحدَ الأساليب البديلة عن اسلوب السيف لدفع بعض المسيحيين للتحوُّل الى الإسلام! واستمرَّ هذا الإجراء سارياً حتى موت الإنتقاميِّ الكبير إبن فضلان عام 1233م.

يروي إبن الأثير (الكامل في التاريخ ص 497 – 503) الذي كانت سنة 1231م نهاية لتاريخه، <بأنَّ الحالة في بغداد لم تستقر سياسياً ودينياً، بل ظلَّت تتأرجح دون الوصول الى قرار، رغم أنَّ التتر كانوا قابَ قوسين مِن غزو البلاد، وبالفعل فقد استولوا على مناطق كركوك. وفي قصيدة رثاءٍ للأديب والشاعر الكلداني الأربيلي كيوركيس وردة يروي فيها الفظائع التي ارتكبها المغول بحقِّ أبناء الكنيسة الكلدانية النسطورية في مدينة أربيل وبلدتَي كرمليس وتللسقف علاوة على دير مارسبريشوع دبيث قوقا، المذكور في كتاب الديورة للمطران ايشوعدناخ البصري تحت رقم59، وقد تمَّ تشييده من قبل مار سبريشوع الطيرهاني في القرن السابع بمنطقة حِدياب “اربيل الحالية” فيصف ما اقترفته تلك القوات الغازية كشاهد عيان بأعمال شائنة يصعب على المرءِ وصفها لبشاعتها.

ومع كُلِّ هذه الأحوال المتشابكة، لم تُشكِّل هذه عائقاً أمام بعض المسيحيين ليحتلوا مناصب رفيعة في الدولة. ومِن بين هؤلاء البارزين المسيحيُّ هبة الله بن زطينا، الذي احتلَّ موقع والده في الديوان بدعم ٍ مِن إبن حاجب قيصر دون أن يعتنق الإسلام بخلاف ما فعل والدُه، ورُقـِّيَ هبة الله الى منصب “كاتب السكة” وهنالك ماري بن صاعد بن توما تاج الدولة، الذي عَيَّنه مجاهدُ الدين “ايبك” وكيلاً له. وبالرغم مِن أنَّ الجدارة العلمية للمسيحيين هي التي كانت تؤهِّلهم لتقلُّد المناصب الهامة في الدولة العباسية، ولكنَّ مستقبلهم لم يكن مضموناً بل مرهوناً بإرادة الخلفاء والسلاطين والحُكّام. وقد اختلفت آراءُ المؤرخين في موت الخليفة المستنصر،  فمنهم مَن يقول بأنَّه تُوفي عام 1242م بعد خلافةٍ دامت سبعة عشر عاماً، بينما يقول البعض بأنَّ المُستنصر لم يمت عام 1242م، بل زُجَّ في السجن ببغداد  وأطلق سراحَه التتر عام 1258م، وقصد مصر واستقبله في عام 1260م السلطان الملك الظاهر، وقد جرى مقتلُه عام 1261 أو 1262 م خلال معركةٍ ضِدَّ التتر لإستعادة بغداد .

 

33 – الخليفة المُستعصِم بالله 1242 – 1258م

يتحدَّث عنه السيوطي (تاريخ الخلفاء ص 464) بقوله: <بأنَّه أبو أحمد عبدالله إبن المستنصر المُلقب بـ”المستعصم بالله” آخر الخلفاء العباسيين. كانت أُمُّه تُدعى”هاجر” نوديَ به خليفة ًعند موت والده، ويُضيف بأنَّ الشيخ قطب الدين وصفه بكونه وعلى غِرار والده وجدِّه متديِّناً ومتمسِّكاً بالسنة، ولكنَّه لم يتحلَّ مثلهما باليقظة والحزم وسُمُوِّ الهـِمة>. أما إبن العبري(تاريخ مختصر الدول ص 445 – 446) فقد قال عنه ما يلي: <كان صاحبَ لهو وقصفٍ، شغف بلعب الطيور واستولت عليه النساء. وكان ضعيفَ الرأي قليلَ العَزم كثيرَ الغفلة عمّا يجب لتدبير الدول. وكان إذا نُبِّهَ الى ما كان ينبغي أن يفعلَه في أمرالتتار: إمّا المُداراة والدخول في طاعتهم وتوَخِّي مرضاتهم، أوتَجَيُّش العساكر وملتقاهم بتخوم خرسان قبل تمكُّنهم واستيلائهم على العراق. فكان يقول: أنا بغداد تكفيني، ولا يستكثرونَها لي إذا نَزَلتُ لهم عن باقي البلاد، ولا أيضاً يهجمون عليَّ وأنا بها، وهي بيتي ودار مقامي>. ويقول إبن الكازرُني (مختصر تاريخ الدول ص 266) والسيوطي (تاريخ الخلفاء ص 464 – 465) <وكان للخليفة الراحل المستنصر أخٌ يُعرَف بالخفاجي يزيد عليه بالشجاعة والشهامة، وكان يقول: إن ملَّكني الله الأمر، لأعبُرَنَّ بالجيوش نحو جيحون وأنزع البلاد مِن التتار وأستأصلهم. ولكن حين تُوفي الخليفة المستنصر، لم يُرِد الوزيرُ مؤيد الدين العلقمي الرافضي، ولا مُقدم الجيوش العباسية شرف الدين إقبال الشرابي مع كبار الدولة تقليد الخفاجي الأمر، وخافوا مِنه، وآثروا المُستعصم لِلينه وانقياده، وكان الوزير العلقمي متواطئاً في السر مع التتار>.

 

واستمَرَّ المستعصمُ بلامُبالاةٍ بالدسائس التي كانت تُحاك حولَه وبالأخبار المُفزعة التي ترد عن اقتحام جيوش التتار لمناطق عديدة مِن المملكة واستيلائهم عليها، وكأَنَّ الأمرَ لا يعني الخليفة بشيءٍ، وهكذا أصبحت الساحة مفتوحة ًبلا رقيب أمام جواسيس القائد المغولي هولاكو، وشرعوا بالإتصال بالوزير العلقمي.  وقد شَجَّعَ وضعُ الإدارة المركزية المهزوز حُكّام الأقاليم لكي يُضاعـفوا ظلمَهم على رعاياهم ولا سيما الضعفاء مِنهم وبخاصةٍ المسيحيون الذين أثقلوا كواهلَهم بالضرائب الباهضة لإشباع جشعهم المفرط .

 

70 – البطريرك مكيخا الثاني 1257 – 1265م

يقول إبن العبري (التاريخ الكنسي2 ص 402 و424 – 426) وصليبا (المجدل ص 119- 121) <بعد وفاة البطريرك سبريشوع الخامس بن المسيحي في العشرين مِن أيار 1265م . خَتمَ إبنُ صالحية على جميع ما في القلاية البطريركية. وبعد دفن البطريرك بثلاثة أيام ، جاء والي بيت مال المسلمين وكسرالأختام واستولى على كُلِّ ما في القلاية مِن الكتب والبيرونات، وأحضرها قدام الخليفة الذي رّدَّ الكتب ووهب البيرونات لإبن وحيد، واشتُريت مِنه مِن مال الوقف وأُعيدت الى القلاية البطريركية>.

 

كانت الأوضاعُ السياسية لدى وفاة البطريرك سبريشوع الخامس متوترة ًجداً ومُقدِمة ًعلى الإنفجار، وخلال هذه الظروف الحرجة، أقدم الآباءُ على انتخاب بطريركٍ جديد، وانبرى للترشيح للرئاسة أربعة مطارين وكُلٌّ يُريد المنصب لنفسه، والمطارين الأربعة هم: ايليا الناطر مطران جنديسابور، ومكيخا مطران نصيبين، ودنحا مطران أربيل، وعبديشوع مطران الموصل. وانقسم ولاءُ الإكليروس والمؤمنين بين هؤلاء المتنافسين، وامتدَّ الخلاف بينهم لمدة عشرة أشهر. ولكي نعلمَ ما آلت إليه هذه المنافسة لنرى ما قالَه إبن العبري بهذا الخصوص في الموضع المذكور أعلاه <فقد اعتادت السلطات الحاكمة أن تمنحَ رضاها للبطريرك الجديد عن طريق المزايدة التي ارتفعت هنا الى مبلغ 40000 دينار وأبدى دنحا مـطران أربيل استعداده لدفعها، وقد دفع 4000 دينار كمقدَّمة، ريثما يتسنّى له جمعَ المبلغ الباقي. ولكنَّ الطريقَ سُدَّ بوجهه، لإتِّهامه بالتواطؤ مع التتار. وحُذِّرَ المسيحيون الذين وزَّع عليهم دنحا المبالغ لأجل انتخابه بما يلي: <حَذار مِنه، فإنَّه سيستردُّ مِنكم غداً ضُعفَ ما دفعه لكم اليوم>! ولقيت هذه التُهم آذاناً صاغية لدى الخليفة وأصحابه. فاستدعى المُرشحين، وأبدى تفضيلَه لمكيخا الشيخ مطران نصيبين على دنحا مطران أربيل الشاب، الذي عليه أن ينتظر دوره في وقتٍ لاحق .

 

يقول صليبا (المجدل ص 120) كان مكيخا مِن أهل جوغباز مِن أعمال نصيبين، جرى انتخابُه بطريركاً في رَبيع سنة 1257م، ونال مرسوم الخليفة، ورُسمَ في المدائن في الأحد الخامس مِن الصوم الماراني”الكبير”، وبعد الزيارات التقليدية المعـتادة، عاد الى القلاية البطريركية في بغداد. ومما قالَه بطرس نصري في (ذخيرة الأذهان ج2 ص 8 – 9) عن البطريرك مكيخا الثاني بأنه <كان عالماً شهيراً، والى جانب تحَليه بالفضيلة كان حادَّ الطبع وصارماً، ولم تمُرَّ إلا سنة على بطريركيته حتى سقطت بغداد بأيدي المَغول بقيادة هولاكو خان وبسقوطها انهارت الدولة العباسية، وراح الجيش المغولي يعمل السيف في رقاب أهل بغداد، وإكراماً لـ”دقوز خاتون” زوجة هولاكو ووالدته “سرخ كوتي باجي” اللتين كانتا تدينان بالمسيحية أمر هولاكو بعدم التعرُّض للمسيحيين قدر الإمكان، والتجأ الكثير مِن المسلمين في بيوت المسيحيين ليسلموا مِن القتل. عاملَ هولاكو البطريرك مكيخا الثاني بلطفٍ واحترام، وأهداه دار الخليفة الدويدار الواقعة على نهر دجلة، فشيَّد فيها كنيسة جديدة.

 

بعد سقوط بغداد

وبعد سقوط بغداد كما مَرَّ بنا ذِكرُه تحرَّكَت القوات المغولية نحوأربيل وحاصرت قلعتها، عندها قام “بدرالدين لؤلؤ” بشرائها مِنهم بمبلغ 70000 دينار. ولم تمض مدة طويلة حتى استولى على أربيل مسيحيٌّ  يُدعى “مغطـس” وهو أخو الطبيب الشهير”صفي سليمان” وتسلمَ إدارتها مِن بعده إبنُه “تاج الدين عيسى” وكان الأخيرُ رَجُلاً صالحاً ومؤمناً. وبدورهم وبعد سقوط بغداد أرسل مسيحيو تكريت وفداً الى البطريرك مكيخا يلتمسون مِنه التوسط لتعيين “شحنة” لحراسة بلدتهم، فاستجاب البطريرك لمطلبهم. وما إن وصل المغولُ الى تكريت حتى قتلوا أثرياءَ المسلمين هناك ونهبوا أموالهم، وسارع المسيحيون للإلتجاء في الكنيسة الخضراء المُشيَّدة على اسم مار”احودامه” والتي كانت مُغتصَبة ًمِن قبل المسلمين، ولم يتعرَّضوا للأذى أثناء وجودهم فيها منذ مطلع الصوم الكبير حتى أحد الشعانين الذي صادف 17 آذار عام 1258م.  ولكنَّ إبن العبري يقول في (التاريخ السرياني ص 506 – 507) بأنَّ مُسلماً حاقداً يُسمّى بردوري وشى بالمسيحيين لدى الشحنة، وقال له: <بأن المسلمين قبل مقتلهم سَلَّموا أموالاً طائلة الى المسيحيين، وبقيت هذه الأموالُ بحوزتهم دون أن يدفعوا شيئاً مِنها للشحنة>. ولدى التحقيق بالأمر، أقـَرَّ المسيحيون بالحقيقة، وجلبوا الأموال ووضعوها أمامَه. وأخبر الشحنة هولاكو بهذا الأمر، فما كان مِن هولاكو إلا أن أصدر أمراً يقضي  بإبادة التكريتيين المسيحيين، ولم ينجُ مِنهم إلا الأقلية مِن الشيوخ والعجائز. أما الصغار فقد أُسروا، ولم يبقَ في البلدة سوى كاهنين لخدمة الكنائس الاخرى، لأنَّ الكنيسة الكبرى استُوليَ عليها مِن قبل المسلمين مِن جديد. بعد ذلك أُقيمَ رجل مسيحي اسمه بهرام شحنة لتكريت، وقضى على الواشي بردوري.

ويظهرمِمّا تقدَّمَ ذِكرُه بأنَّ المسيحيين لم يكونوا في وضع مُستقر ومأمون كما يدَّعي بعضُ المؤرخين المُسلمين، بالرغم مِما كانت تبذله دقوز خاتون زوجة هولاكو مِن جهدٍ في سبيل حمايتهم، بل كثيراً ما تعرَّضوا لِمَ كان يتعرَّض له إخوانُهم المسلمون مِن قتل وسلبٍ ونهبٍ يُمارسُه الحكّامُ المغول الظالمون، ولم يمضِ إلا زمنٌ قليل حتى شعـروا بخيبة الأمل بما كانوا يتوقعونه مِن أمان واطمئنان في ظلِّ حكم الفاتحين التتار. وبصرف النظر عمّا كانت عليه الامور، فإن المؤرخ صليبا (المجدل ص 120 – 121) يروي عن هولاكو، <بأنَّه فتح بغداد في عهد البطريرك مكيخا الثاني ويُضيـف: وأنعَـمَ هولاكو خان على هذا الأب “مكيخا” وأعطاه دارالخلافـة المعروفة بدارالدويدارالتي على الدجلة حتى يسكنها، وعَمَّرَ فيها البيعة الجديدة “ورُزق جاهاً عظيماً”>. واستناح يم السبت الذي بعد الأحد الجديد، وهو الثامن عشر من نيسان سنة 1576 يونانية 1265م ودُفنَ في البيعة الجديدة التي بناها بدارالخلافة.

 

1 – اباقا خان/الملك أوالسلطان أباقا 1265- 1282م

إنَّه إبنُ هولاكو وخلفُه في المُلك، ثاني امراء المغول الايلخانيين في بلاد الفرس التي قدم إليها عام 1256م برفقة والده هولاكو. وفور إبلاغه بوفاة والده، شدَّ الرحال وتوجه بسرعة قصوى مغادراً منطقة مازندران في آسيا الصغرى قاصداً تبريز، فتولّى مهام المُلك وحلَّ محلَّ والده الراحل. أعلن الإستقلال عن الحكومة الأم التي أسَّسها جنكيزخان فكان بذلك أول الإنفصاليين. وبعد مرور سنتين على تولّيه السلطة أي في عام 1268م قدم الى بغـداد، ومكث فيها حتى قدوم موسم الربيع ثَّمَّ غادرها. وفي عام 1273م جاء الى بغداد ثانية وفي فترة إقامته فيها كان يُمارس الصيد في أطرافها ووصل الى منطقة واسط. وكان يأمر بابداء الرفق والإحسان الى المواطنين. وما إن انقضى فصل الشتاء حتى عاد الى مركز حُكمه. ونزل أباقا خان الى بغـداد للمرة الثالثة في عام 1274م. أما زيارته الثالثة لبغداد فقد قام بها عام 1281م .

يقول غياث الدين بن فتح الله (التاريخ الغياثي ص 45) <بأنَّ أباقا خان أنجز خلال حُكمه الذي امتدَّ ثمانية عشر عاماً وقال البعضُ ستة عشر عاماً أعمالاً كبيرة وإصلاحاتٍ واسعة، فقد قام بتخفيف عِبءِ الضرائب عن كاهل المواطنين، وكان ناجحاً في الحروب التي خاضها، وموفقاً في إقامة علاقاتٍ مع دول الغرب. فقد وصل وفدُه الأول الى مدينة ليون الفرنسية عام 1274م والثاني الى روما عام 1277م. وراسله “البابا اقليميس الرابع عام 1267 والبابا غريغوريوس العاشر عام 1274م وتلقى رسالة مِن ادورد الأول ملك انكلترة عام 1274م>. وكان والدُه قد خطبَ مريمَ إبنة ملك القسطنطينية، لكن الموتَ عاجله قبل وصولها إليه، فتزوَّجَها هو واستبدل اسمها ودعاها “دسبينا خاتون”. وفي بداية عام 1282م أنهى زيارتَه الأخيرة الى بغداد وتوَجَّه الى همدان.

ويروي إبن العبري عن اباقا خان (تاريخ مختصر الدول ص 505) ما يلي بالنص: <في بداية عام 1282م ترك أباقا خان بغـداد وعاد الى هَمدان في يوم عيد النصارى الكبير لتلك السنة وهو عيد القيامة، دخل الى البيعة في تلك المدينة، وعيَّدَ مع النصارى مُشاركاً إياهم في الإحتفال. وفي يوم الإثنين ثاني أيام العيد، أقام له شخصٌ فارسي مسيحي اسمه بهنام وليمة كبرى في داره. وفي ليلة الثلاثاء تغـَيَّر مزاجُه وصار يرى خيالاتٍ في الهواء. وفي يوم الأربعاء، وهو أول يوم مِن نيسان لتلك السنة وافاهُ الأجَل>. وفي السادس والعشرين مِن نيسان لنفس العام لحِقَه الى القبر أخوه مَنكو تيمور أيضاً ويقول عبد الرزاق بن الفوطي في الحوادث الجامعـة والـتجارب الـنافعـة في المئة السابعة (تاريخ العراق بين احتلالين1 ص 302) <بأنَّ عمر السلطان اباقا خان، كان نحو خمسين سنة، وانه كان عادلاً حسن السيرة محبّاً لعمارة البلاد، ولا يرى سفكَ الدماء مُبرَّراً، عـفيفاً عن أموال الرعية> . و أباقا خان هو الإيلخان أو السطان الأول للدولـة الإيلخانية.

 

71 – البطريرك دنحا الأول 1266 – 1281م

نَنقل بتصرُّف عَـمّا قاله بطرس نصري في (ذخيرة الأذهان ج2 ص 10) عَـن دنحا الأول . كان رستاقيَّ المولد، ورستاق تقع في منطقة أشبوخ. تَمَيَّـزَ بالفضيلة ومحبة العِـلم، ويقول عَنه حبيب حَنونا(كنيسة المشرق في سهـل نينـوى ص182) <بأنه كان ذا جاهٍ لدى امراء المغول حيث سبق له أن التقـى ببعض أمراء المغول وزعمائهم، وكان مُعاصرا لأباقا خان الذي وصفه المؤرخون بذي الذكاء الراجح والقرار الرصين يتحلّى بقلبٍ رحيم، حالفه النصرُ في جميع حُروبه. كان هولاكو والدُ أباقا قد خطب إبنة ملك القسطنطينية “ميخائيل فاليولوغ” ولدى وصولها برفقة أفتيموس البطريرك الأنطاكي الى الشرق، كان هولاكو قد تُوفي، فتزوَّجها إبنُه أباقا خان .

بعـد وفاة البطريرك مكيخا الثاني شَغِرَ الكُرسي البطريركي للكنيسة المشرقية الكلدانية النسطورية عِدة شهور، ثمَّ قام الأساقفة بعقد مجمع لإنتخاب بطريرك جديد، وأجمعـوا على اختيار ماردنحا بطريركاً لكنيستهم، ومِن الجدير بالذكر بأنَّ ماردنحا كان أحد المنافسين في عملية انتخاب البطريرك مكيخا الثاني ولم يَفُز آنذاك، لكنه في هذا الإجتماع فقد اختاره الآباء بإجماع الآراء، أما قول المؤرخ المونوفيزي إبن العِبري في كتابه (التاريخ الكنسي ج3 ص 439) بأن الملكة دقوز خاتون هي التي أمرت بمنح ماردنحا المرسوم، فهو غير صحيح وهو يَدخل ضمن نهجه المتواصل في التشهير بالمؤسسة البطريركية الكلدانية النسطورية ورُعاتها، لأن دقوز خاتون كانت قـد لحقت بزوجها هولاكو الى اللحد في صيف عام 1265م وانتخاب مار دنحا جرى في عام 1266م . يروي المؤرخ صليبا في (المجـدل ص 122) عن ماردنحا بقوله، <بأنَّه كان غزيرَ العِلم مَقبولَ المظهر وهذا ما أهَله ليُرسمَ مطـراناً على أربيل وهو في باكورة كهنوته ولم يتعدَّ الثلاثين مِن عُمره. أيَّد أباقا خان انتخابَ ماردنحا وأهداه خِلعة ً سنيَّة وقدَّم له البيرون والجتر، حضر رسامتَه الأميرُ يعقوبُ وبريخا الساعور وثلاثة امراء مغول، ورُسمَ في المدائن في مُنتصف تشرين الثاني لعام 1266م وكان الأحد الثالث مِن تقديس البيعـة.

 

عاد ماردنحا الى بغداد بعـد تأديتِه الزيارة التقليدية لضريح مارماري، واستقرَّ في القلاية البطريركية بدار الدويدار وباشر إدارته لشؤون كنيسته. يقول بطرس نصري في (ذخيرة الأذهان ج2 ص 11- 12) ونقتبِس مِنه بتصرُّف، <بأن ماردنحا وفور جلوسه بدأَ بإصلاحاتٍ تصُبُّ في خانة خِدمة شعبه، فاهتمَّ ببناء المدارس رغبة ً مِنه في تجديد الحياة العِلمية في الكنيسة الكلدانية التي كانت في حالة ركودٍ كبير، وكذلك إلتفتَ الى بناء الكنائس والأديرة، ومِن أهمِّ مآثره كان تشييده لكنيسةٍ فخِمة في مدينة “أشنو” الفارسية وألحق بها مدرسة ً اسكولية هدفها تزويد المُرشحين للكهنوت بثقافةٍ روحية وعِلمية.

 

لم يخلُ عهدُ البطريرك دنحا الأول مِن القلاقل والإضطرابات التي نغصت حياتَه، ذكرها المؤرخ غريغوريوس المونوفيزي أشدُّ الحاقدين على النساطرة والمعـروف بإبن العِـبري ولكني لا أثق بصحة سَردِه لبعضٍ مِنها ولذلك سأضرب صفحاً عَن ذِكر تلك فقط . أما ما حدث في سنة 1268م  وذكره إبن العِـبري (التاريخ السرياني ص 525) وهو قيام صاحب مصر “البندقدار” باحتلال جيوشِه لمدينة أنطاكيا فأعملوا في أهلها السيفَ مُحرقينَ كنائسَها الشهيرة وناشرين فيها الدمار، وفي صيف السنة ذاتها قُبضَ على حنانيشوع اسقف الجزيرة النسطوري وحُكم عليه بالقتل بتهمة الإفراط في تدخله بالشؤون المدنية، فقطعَ رأسُه وعُلق على باب مدينة الجزيرة.

وقام المصريون في ذات السنة 1268م أيضاً، بالإفراج عن ليون بن ملك قيليقية الأسير لديهم، فعاد الى بلآده  واستقبله المسيحيون بفرح ٍ عظيم، وجرى تتويجُه ملكاً على قيليقية خلفاً لوالده الراحل. وفي بداية الصوم الكبير لعام 1271م حَرَّضَ المسلمون بعضَ الرُعاع مِن أتباعهم فهاجموا “علاء الدين” صاحبَ الديوان في بغداد وانهالوا عليه طعناً بالسكاكين، فاتَّهمَ المسلمون البطريرك بأنَّ الفاعلين كانوا رجالُه أرسلهم للقيام بهذه الجريمة، وعلى إثر ذلك زُجَّ الأساقفة والرهبانُ والرؤساءُ المسيحيون في السجن، وبدوره قام أميرُأربيل “قوتلو بك” بإلقاء القبض على البطريرك ماردنحا وأساقفته وأودعهم السجن، فمكثوا فيه طوال مدة الصوم، حيث أطلقَ سِراحُهم بأمر مِن السلطات العليا. فرأى مار دنحا أنَّ الأسلـَم لـه هو الذهاب الى مدينة أشنو في أذربيجان الفارسية والإستقرار فيها. ويُواصل إبن العِبري بسرد تسلسلَ الأحداث فيقول (التاريخ السرياني ص 527) بأن زلزالاً عنيفاً ضرب أذربيجان في 17 كانون الثاني لعام 1273م وفي تبريز خاصة ، وسلمَت مِنه كنيسة السريان التي كان يجتمع فيها المسيحيون مِن كُلِّ الطوائف للصلاة فيها.

وفي (الصفحة 529 للتاريخ السرياني) يستطرد إبن العبري بالقول ما مفاده: <خـلال الصوم لعام 1274 م قبضَ على أحد رهبان ديرمارميخائيل القريب من الموصل متلبساً بفعل الزنى مع امرأةٍ مُسلمة ولكي يتفادى العقابَ بادر الى جَحدِ دينه وإشهار إسلامِه. وأراد المسيحيون الإحتفال بعيد السعانين، ولخوفهم مِن المسلمين بخلق المتاعب لهم، لجَأوا الى بعض المسيحيين المغول فلبوا دعوتهم وتقدَّموا موكبَ الإحتفال راكبين خيولهم ورافعين الصلبان فوق رماحهم ويتبعهم المطرانُ والمؤمنون. وما إن أطلَّ الموكبُ أمام القلعة حتى انهال عليهم المسلمون رجماً بالحجارة، فتبدَّدَ شملُ المحتفلين عائدين الى بيوتهم وقد أخذ مِنهم الخوف. وشهدَ هذا العام أيضاً وفاة الفيلسوف “نصيرالدين الطوسي” صاحب المرصد في مدينة مـراغـة، كان مُتمكناً مِن كافة فنون الحكمة. تعَـرَّضت مناطقُ قيليقية الى التدمير مِن قبل المصريين عام 1275م بالإضافة الى قتل الربان “شليمون” أمين سِرِّ البطريرك المونوفيزي “أغناطيوس” و25 راهباً في دير “باقسماط” الذي أحرقوه الى جانب سائر أديرة تلك المنطقة، فما كان مِن البطريرك إلا الفرار واللجوء الى حصن بهغا. قام الأتراكُ بقتل اسقف مدينة “ارزنجان” الأرمني وثلاثين آخرين مِن الكهنة والرهبان والمؤمنين. أما الأكراد فقد هاجموا عام 1277م جبل الالوف، وأسروا عشرة رهبان مِن دير”مار متي”  قتلوا واحداً وباعوا التسعة بأربعة آلاف درهم>.

 

في هذا الوقت أعـربَ المفريان غـريغوريوس الملطي المعروف بابن العِبري عن رغبته لزيارة بغداد، وطلب مِن الأركذياقون توما إبلاغ البطريرك ماردنحا الأول بقدومِه، فكان رَدُّ فعل البطريرك ايجابياً مشوباً بالترحيب وعدم وجود أيَّة حساسيةٍ عُنصرية تُجاه الكلدان اليعاقبة الذين يكُنون للكلدان النساطرة كُلَّ الكراهية والحِقد، والدليل على ذلك هو إرساله وفداً كلدانياً ضمَّ أساقفة ًوعدداً مِن كبار المسيحيين لإستقبال المفريان. فضلاً عن قيام البطـريرك ذاته بإبداء الإكرام اللائق له لدى دخوله عليه، كما تحَدَّثَ الى الجماهير اليعقوبية والنسطورية مُطنباً إياه بعبارة الطوبى.

ويذكر إبن العبري في (التاريخ السرياني/ الترجمة العربية ص 338) بأنَّ الملكة “قوتاي خاتون” أرملة هـولاكو المسيحية المؤمنة لاحَظت بأن برداً شديداً غيرَ مسبوق شَمل البلاد مُنذ أن امتنع المسيحيون عن تقديس ماء النهر يوم الإحتفال بعيد الدنح “عماذ المسيح” تجَنباً لمضايقات المسلمين التي كانوا يتعَرَّضون لها، فجاءَت الى مراغـة عام 1279م، وأمرت المسيحيين بأن يخرجوا ويؤَدوا مراسيم تقديس النهر كسابق عادتهم، فلبوا طلبَها تحت حراسة رجال العسكر المعلقة صُلبان على رؤوس رماحهم، وما إن إنتهوا مِن مُهمتهم، حتى اعتدَل المناخُ وبدأ الكَلأ بالنمو وأصبح الشتاءُ شبيهاً بالربيع، فعَمَّ الفرحُ الشعبَ جَميعاً.

ويروي إبن العبري أيضاً (التريخ الكنسي ج3 عمود 451) بأن المسيحيَين اللذين كان أحدُهما يُدير الموصل والآخر أربيل وهما الإيغوري أشموطـ ومسعود برقوطي، تقدَّما عام 1280م بشكوى الى السلطان الأكبر أباقا خان ضِدَّ تعَـسُّف “بابا” الفارسي الذي كان يُـمارسه عليهما، صدَّق أباقا شكواهما وأمر بإعدام بابا، وإعادتِهما الى منصبيهما في الموصل وأربيل كما كانا عليه مِن قبل .

يقـول صليبا في (المجـدل ص 122) بأن البطريرك ماردنحا الأول غادر مقرَّه في مدينة أشنو الأذربيجانية عام 1281م قاصداً المجيءَ الى بغداد، وفيما هو في الطريق داهمَه المرضُ ، ولم يفارقه حتى بعـد وصوله الى بغـداد الى أن وافته المنيَّة في 22 شباط لنفس العام، فدُفنَ في كنيسة الدويدار. دامَ جلوسُه على الكرسي البطريركي مدة 16 عاماً  وبقي الكرسيُّ مِن بعده شاغراً بحوالي ثمانية أشهر. والى الجزء الرابع والعشرين قريباً.

 

الشماس د. كوركيس مردو

في 2/5/2015

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *