الإنشقاقات والنكبات التي عصفت بالأمة الكلدانية وكنيستها والمآسي التي حَلَّت بها عِبرَ الزمن/ الجزء الثاني

 

انشقاق عام 424م

بعد وفاة الجاثاليق يَهبَلاها الأول عام 420 م إزدادَ الصِراعُ بين الأساقفةِ الكلدان وتَهافُتُ كُلٍّ مِنهم للفَوز بِكُرسي الجَثلقة، وإنَّ المُتصارعين الرئيسيين على المَنصب كانو ثلاثة  بِحَسَبِ ما ورد في كتاب المجامع  الشرقية وكذلك أشارَ إليهم المؤرخُ الأب لابور وهم: معنا مطران فارس وبرابوخت اسقف أرزون والأسقف داديشوع. ولا مجال هنا للدخول في تفاصيل الصراع حيث حاز أخيراً على كُرسي الرئاسة الأولى الأسقف داديشوع، فثارَت ثائرة زملاء برابوخت المناوئين لمار داديشوع وعَزَموا على فِعل المُستحيل للإيقاع به لدى الملك بهرام وبَطانِيَتِه، ولكِنَّهم عن عِلمٍ أو عن غير عِلمٍ لم يُقَدِّروا ما  سيُسفِرُ عن مَسعاهم هذا مِن نتيجةٍ  سَيِّئة ومدى خطورَتِها على الشعبِ الكلداني المسيحي، إذ كان الملكُ يَنتظِر أيَّة حُجَّةٍ ليَفِيَ بِوَعدِه للمجوس، فما بالُه بوشايةٍ غير مُتوَقَّعة تأتيه مِن قادة المسيحيين الكنسيين، ليتَّخِذَ مِنها ذريعة الى فَـتح باب الإضطِهاد ضِدَّ المسيحيين عل مِصراعَيه، مُتَأثِّراً بما أبداه له كِبارُ المجوس عَن تخَوِّفِهم مِن ازديادِ عَدَدِ النصارى في المَملكة بدرجةٍ كبيرة جداً مُقنعينَ إياه، بأن زيادَتهم المتطردة تُشَكِّلُ خَطراً على سُلطةِ ملكِ الملوك وعلى الديانة الزردوشتية، فلم يَتَوانى الملكُ الظالِمُ عن اغتِنام هذه الفرصة لإصدار أمره بالقبضِ على الجاثاليق داديشوع وإلقائِه بالسِجن.

قبع الجاثاليق داديشوع بالسجن حتى انتصار الملك الروماني تيئودوسيوس الثاني على الملك الفارسي بهرام الخامس الذي طلب عقد معاهدة الصلح عام 423م وعلى إثرها أطلق سراح مار داديشوع بطلبٍ من الملك الروماني، وبالرَغم مِن كُلِّ ما جَرى لم يَرعَوِ الأساقفة خصومُ داديشوع الجاثاليق الأحـدعشر بـزعامة”بـاطي” اسقف هرمزدأرداشير، فكان ثِقلُ إتِّهاماتِ خُصومِه المُلفَّقةِ ضِدَّه مِن الشِدَّة بحيث لم يَقوَ على حَملِه، لا سيما كونُه بريئاً مِنها نُسِبَت إليه زوراً، فلم يَرَ مَخرجاً مِن المأزق الذي وَضَعَه فـيه مُناوئوه إلاَّ بإنسحابِه مِن المسؤوليةِ والإنفرادِ في دَير بِمَدينة العرب التي يَدعوها كتاب (المجامع الشرقية ص 285 و676) < مركَـبثا دطـيّايي ܡܪܟܒܬܐ ܕܛܝܝܐ> ولكنَّ المطران أدّي شير يرى أنها الحيرة التي كانت شِبهَ مُستَقِلة(تاريخ كلدو وآثور ج2 ص  119) وقد نَفَّذَ ما عَوَّلَ عليه وانزَوى في الحيرة. وإذ بَلَغَ الخَبَرُ مسامِعَ مؤَيِّديه مِن المطارنةِ والأساقفةِ صُعِقوا بالحَدَث، فتسارعَت المُشاوراتُ بينهم وأجمعوا على رفض انسحابه من مسرولية الرئاسة العليا، واتَّفقوا على رأيٍ واحدٍ هو الذهاب الى الحيرة بكامِل عـدَدِهم للإلتقاء بالجاثاليق داديشوع وثَنيِه للعُدول عن قراره، وكان عـدَدُهم كما أورده كتاب(المجامع الشرقية ص 28 و43) سِتَّـةً ًوثلاثينَ مطراناً واسقفاً.

ويُضيفُ كتاب(المجامع الشرقية ص 292) وفور وصولهم الى مكان إقامة مارداديـشوع، قَدَّموا الطاعة له كُلٌّ بدَوره وأعربوا عن أسفهم وسُخطِهم الكبيرعلى الأساقفةِ الذين تَجَنّوا عليه وسَبَّبوا له آلاماً نفسية عميقة، وبعد اكتمال نِصابِهم عَرَضوا عليه التماساً جِماعياً حاراً طالبينَ مِنه بِصِفَتِهم أبناءً مُخلصين لأَبيهِم الكبير ورئيسِهم الأعلى، أن يكون أقوى مِن هذه المِحنة! بيدَ أن مارداديشوع لم يستَجِب لِطلَبِهم باديء الأمر، إذ كان لا زالَ مُنهاراً تحت وَطأة الإستياء والمُعاناة التي تَعَرَّضَ لها، وراحَ يَسردُ عليهم بفيضٍ مِن الحُزن والألم مَدى فداحةِ شرور خصومِه القُساة الذين رُشِقوا بالحَرم مِن قبل آباء مَجـمَعي ساليق الثاني والثالث، وبعـد أن انتهى مِن شرحِ ما قاساه مِن المِحَن والأوجاع وَجَّهَ حَديثَه الى الآباء المُجتمعـين حوله قائلاً: “دَعوني أيها االإخوة الأجِلاء أن أنوحَ مُتنهِّداً على الجروح العميقة التي أدمَت جَسَدَ الكنيسة وعلى دَناءَةِ بعضِ أبنائِها وهلاكِهم، ثمَّ إغرَورَقت عيناه  بالدموع” (المجامع الشرقية ص 44 – 46).

 

مجمع سالثق الرابع 424م

                                                                                                                                                                                                                                                             عندئذٍ نَهَضَ آغِبطا (حبيب) مطران بيث لاباط، فاتحاً أعمال الإجتماع باستعراض قضية رئاسة الكُرسي الجاثاليقي في ساليق، وبعد إستئذانِه لمارداديشوع الجاثاليق بدأَ بقراءةِ رسائل الأساقفةِ الغربيين المُوَجَّهة الى الأساقفة الكلدان في عهدَي الجاثاليقَين بابا واسحق، وتَحَدَّثَ بإسهابٍ عن الإنشقاقات التي حَدَثَت فى أيامِهما وفي عهدِ يَهبَلاها الجاثاليق أيضاً مُستَهِلاً حديثَه قائلاً: “أيها الآباء الأجِلاء، لا يَخفى علينا جميعاً بأن صِراعاً مريراً قد دَقَّ إسفينَه بيننا على مَرِّ الزَمَن وأصبح مُزمِناً، ولا يَسَعُنا إغفالَ دَورالآباء الغربيين (أساقفة الغرب) في دَعمِهم لِكُرسيِّ كنيسةِ المشرق الذي نَرتَبِط به جَميعُنا كإرتباط أعضاء الجسدِ بالرأس ملكِ الأعضاء، ولا يُمكُنُنا أن نَنسى أيضاً  تَدَخُّلَهم لدى ملوكِ الروم في سبيل إنقاذِنا نحن وآبائنا  وشعبِنا مِراراً كثيرة  مِن إضطهاد المجوس وظلمهم عن طريق ايفادِهم السفراء الى ملوكِ الفرس مِن أجلِنا.

                                                                                                                                                      وحيث إن الإضطِهادَ قد إشتَدَّ علينا والظروف ليست مؤاتية لآباء الغرب لِنجدَتِنا كالسابق، فعلينا أن نُثبِت للجميع على أننا على قدر المسؤولية كأبناءٍ ذوي عِزَّةٍ وكرامة ووَرَثةٍ غُيارى لأسلافِنا المَيامين القُدامى، فلا مَفَرَّ مِن الإعتمادِ على أنفسِنا والتَكاتُفِ مع بعضِنا والإلتفافِ حول رئاستِنا ونكون السَندَ القويَّ لها  لأن سقوطَها أو حتى ضُعفَها لا سَمَحَ الله هو هلاكٌ لنا، فالى العَمَلِ الجاد أيها الإخوة لِتَسويةِ الثَغرات التي سَبَّبَتها الأهواءُ الإنسانية والرغباتُ الأنانية لأولئكَ المُتمَرِّدين الذين أوقعوا رئاستَنا وشعبَنا في هُوَّةٍ عميقة، ولنَعمَل على رَدمِها بكُلِّ ما اوتينا مِن القوة، فلنَستَعِد للدِفاعِ حتى الموت فِداءً عن رئيسِنا وقائدِنا ومُدَبِّرنا ومُوَزِّع الكنوز الإلهية لنا مارداديشوع رئيس جماعتِنا الكنسية بِمثابة  بطرس زَعيم الرُسُل “.

 

وبعد انتهاء الاسقف آغِبطا مِن إلقاء كَلِمَتِه،أعقبَه هـوشاع مطران نصيبين في الكلام داعماً موقف”آغبطا” ومؤيِّداً أقواله، وارتجَلَ العِبارات الحَماسية التالية موجِّهاً إيّاها الى الآباء المُجتمعين بهدف إستنهاض مَشاعِرهم قائلاً: < ما لي أراكم أيها الإخوة الأجلاء جالسين لا تُحَرِّكون ساكناً وكأَنَّكم راضون على أفعال هؤلاء المنبوذين المُسقطين! إذا كان بِوسعِ اولئكَ القلائل المحرومين أن يَخلُقوا البلبلة ويُحدِثوا الضَرَرَ بمؤَسستِنا الكنسية بتطاولِهم الجائِرعلى رئاستِها عن طريق نَصبِ المكائدِ لها وتقديم الشكاوى ضِدَّها كذباً وافتراءً، فـكم بالأحرى يَتحَتَّمُ علينا أن نُوَحِدَ صفوفَنا ونبذلَ أقصى طاقاتِنا لتفنيدِ إدِّعاءاتِهم الفارغة والظالمة معاً، ونسعى الى كُلِّ ما يعودُ بالفائدة لِشَدِّ أزر رئاستِنا وتثبيتِها بقوةٍ تحت قيادة أبينا مار داديشوع الجاثاليق مؤَمِّنينَ الأمنَ والسلامَ لكنيستِنا > لقد أثارت هذه الأقوالُ حَماساً كبيراً في قلوبِ الأساقفة، فنهَضوا جميعاً وخَرُّوا ساجِدين عند قَدَمَي الجاثاليق مارداديشوع، مُكَرِّرين التماسَهم بإلحاح شديدٍ ليَرجِعَ بقراره ويعودَ الى كُرسِيِّه لتدبيرشؤون كنيستِه، ثمَّ قَدَّموا إليه وثيقة الرَشق بالحَرَم لأولئكَ المُنشقِّين والتي تَضَمَّنَت إبطالَ حَقِّهم بمُمارسةِ الواجباتِ الكهنوتية الى جانبِ قراراتٍ اخرى أهَمُّها:

 

 

1 – حَظرُ تقديم الشكوى مِن قِبَل أساقفةِ كنيسة المشرق الكلدان ضِدَّ جاثاليق كنيستهم لدى أساقفة الغرب.

 

2 – الجاثاليق هو المَرجِع الأعلى والأول والأخير في الكنيسة، لا يَحُقُّ للأساقفة عقدَ مَجمَع لمُحاكمَتِه.

 

3 – إذا إقـتَضَت الضرورة لإتِّخاذ إجراءٍ ما ضِدَّه، يَجِب أن يَجريَ إتِّخاذُه أمامَ عَرش المسيح وبإجماع آراءِ كافةِ أساقفةِ الكنيسة .

 

وعند هذا الحَد لم يَسَع الجاثاليقُ مارداديشوع إلاّ الإستجابة الى مَطلَبِ الأساقفةِ، فأقدَمَ على توقيع وثيقةِ القرارات، مؤَيِّداً حَرمَ المُنشَقِّين ومُصدِراً عَفوَه عن المُغَرَّر بهم الذين عن جَهلٍ وقعوا في مصيدَتِهم. تِلكَ كانت أهَمَّ قراراتِ مَجمَع ساليق الرابع لكنيسة الشرق الكلدانية المعروف بِمَجمَع داديشوع، وكان إستقلالُ كُرسيِّ  كنيسة المشرق عن تَدَخُّل أساقفة الغرب القرارَ الأبرزَ بينَها، وما حدا بالأساقفة الكلدان لإتِّخاذِه، سَبَبان لم يُعلنوا عنهما صراحةً، ولكِنَّ ما يُستَشَفُّ مِن فحوى القرار وبالرَغم مِن إعتراف الأساقفة الصريح بفضل الكنيسة الجامعة (كنيسة الغرب) الفَعَّال في حَسم الإنشِقاقات الحاصلة بإستمرار بين أساقفة كنيسة المشرق، وتَدَخُّلِها المُتواصل لإنقاذ أبناء هذه الكنيسة مِن الإضطِهادِ المجوسي الغاشم عِبرَ الزمن، إلاّ أن الأساقفة الكلدان المُجتمعـين شَعَروا بما يلي:

 

1 –  بإمتعاضٍ خَفيٍّ مِن تَصَرُّف أساقفة الغرب بميلِهم الى جانبِ الأساقفةِ الأحد عشر خصومِ داديشوع الأقوياء بدَعمٍ مِن السُلطة الفارسية إذ بفضل هذا الدَعم استطاعوا عَقدَ مَجمَع في المدائن للإيقاع بداديشوع وأدّى الى زَجِّه في السجن، وتَمَّ  الإفراجُ عنه  بتَدَخُّل سفير الملك الروماني كما مَرَّ ذِكرُه .                                                                              

 

2 – شعورُهم أيضاً بمَيل أساقفةِ الغربِ الى تَصديق ما نَسَـبَه الى مارداديـشـوع خُصومُه مِن تُهَمٍ وسَـيِّئآتٍ لم يرتكبها، ودليلُهم على ذلك وقوفُ مارأقّاق الذي يحظى بإحترام وتقدير الملك الفارسي بَهرام الى جانب الأساقفة المُناوئين بإيعاز مِنهم، فمِن هذا المُنطلق إتَّخَذَ آباءُ المَجمَع قرارَعَدَم جواز رَفع الشكوى ضِدَّ جاثاليق كنيسة المشرق، ومنذ ذلك الوقت تَجَمَّدَ مبدَئِياً إعترافُ كـنيسةِ المشرق بالحَبر الروماني كرئيس أعلى للكنيسةِ الجامعة وعلى الأقل مِن منظور كنيسةِ المشرق، ولكن للأمانة القول: بأن هذا القرار جاءَ انفعالياً آنياً لم يُطَبَّقُ فعلياً، لأن كنيسة المشرق لم تَتَخَلّى عن تقليدِها الثابت، بأنها توأم لكنيسة الغرب المتمثلة بكنيسة روما  وفي شخص حَبرها الأعظم تَملكُ الأولَوية في المكانةِ والصلاحياتِ رَغمَ ابـتعادِها الطويل عَنها. وكان هذا الإنشقاق الداخلي بعد الإنشقاقين الأول في عهد بابا أول جاثاليق لكنيسة المشرق الكلدانية وأنهاه مجمع ساليق الأول عام 317م، والثاني في عهد الجاثاليق اسحق أنهاه مجمع ساليق الثاني عام 410م. إن هذا الجاثاليق الكبير عاصرَ النِزاعَ الشهير الذي انفجَرَ بين البطريرك الإسكندري كيرُلُّس والبطريرك القسطنطيني نِسطوريوس والذي بسبَبِه عُقِدَ مِجمَعُ أفسس الأول عام 431م، ورغمَ شعوره بالألم لذلك النِزاع، إلاّ أنَّه ليس هنالك ما يُشير الى مدى اشتراكِه في تلك الجدالات المُثيرة، وهل إنَّه أيَّد جهة ضِدَّ اخري؟ أم انه إكتفى بما حصل عليه مِن الإستقلال عن هيمنة الغرب. وهـنالك مَن يقول بأنَّ مارداديشوع إتَّخّذَ موقفَ الحياد من الأحداث بعدم تَدَخُّلِه الى جانبِ أيٍّ مِن المتصارعَين، تُوفِّيَ سنة 456 م ودفن في الحيرة. يقولُ المؤَرخون الكلدان في كتاب (المجدل  ماري ص 36  وعَمرو ص 29 وايليا في تاريخه ص 49 أيضاً) بأن الجاثاليق مارداديشوع دامَ جلوسُه على كُرسيِّ كنيسةِ المشرِق خَمساً وثلاثين سنة كانت مليئة بالمَرارةِ والألم بسببِ عُمق هوة الإنشقاق وشِدَّةِ الصِراع بين الأساقفة أعمِدَةِ الكنيسة، بالإضافةِ الى الإضطِهاد الجائر للمسيحيين أبناء الكنيسة المُسالمين الذي حَدَثَ في عهدَي الملكَين الفارسيَين الغاشِمَين بهرام الخامس وابنِه يَزدجَرد الثاني.

 

3 – كان الآباء يسعون الى ايجاد ما يَدحض نظرية ملوك الفرس المدعـمة بقوة من كُهان النار المجـوس التي كانت تضع مسيحيي المملكة في خانة المتحالفين مع ملوك الرومان المسيحيين الذين يكُنون العِداءَ لملوك الفرس ولذلك إتخذوا قرار استقلال كنيستِهم عن تَدخل كنيسة الغرب الجامعة، وبمرور الوقت تَطوَّرهذا القرار الى استقلال إداري وما لَبث أن تَحوَّل الى استقلال عَقائدي تَبَنَّته كنيسة المشرق في أوائل النصف الثاني من هذا القرن الخامس بتأثير قوي من تحزُّب جماعةٍ الأساقفة ذوي النزعة التعصبية للبدعة النسطورية التي فرضوها على الكنيسة عنوة.

 

الصراع المذهبي

إنَّ الفترة الواقعة بين انعقاد مجمع ساليق الرابع (مجمع داديشوع) في العام 424 م وحتى العام 484 م وبالرغم مِن أهميتها القصوى في مسيرة كنيسة المشرق، ولا سيما أن الكنيسة اختارت السيرَ في مُنعطفٍ انفصالي عن كنيسة الغرب الجامعة كما إتَّـضح مِن أعمال مجمعها الرابع مِن حيث السياسة والعقيدة التي دخلت دورةَ الإختبار والوضوح التدريجي، إلا أنَّ المصادر التاريخية كانت قـاصرة ً في إطلاعـنا على نشاط الكنيسة خلالها، فلا المجامعُ الشرقية ذكرت شيئاً ولا التاريخ السعردي، فنضطر للإستعانة بالقليل مِن المعلومات التي أوردها كـتبة ُالمجدل وبعض المؤرخين المونوفيزيين وإن كانوا بكتاباتهم يعمدون الى تحريف الحقائق ليَصُـبَّ التحريفُ في صالحهم.

وبدأ الصراع المذهبي لدى ظهور البِدعتَين النسطورية والأوطاخية وقد عُرفت الأخيرة بـ”المونوفيزية” وبعد تَعدُّد تسمياتِها عِبرَ الزمَن استقرَّت أخيراً على التسمية الأرثوذكسية. ظهرت هاتان البِدعتان “الهرطقتان” في الغرب ورغم البعد الذي يفصلُه عن الشرق فإنَّ كنيسة المشرق اكتوت بنارهما، حيث أدَّيتا الى شطرها الى شطرين نسطوري ومونوفيزي، وتبنّى الشطرُ الأكبر من شعبها الكلداني المذهبَ النسطوري والشطرُ الأصغر المذهبَ المونوفيزي، واحتدمَ الصراع بين الشطرَين إعلامياً ثمَّ تحوَّل الى صراعٍ دموي مشوبٍ بالتآمر والإيقاع ببعضهما أمام السلطات الحاكمة من فارسية فعربية فمغولية وأقوام اخرى وأخيراً الدولة العثمانية.

كان الصراع قد تفاقم في الوسط التعليمي المتمثِّل بمدرسة الرُّها التي قام بتشييدها مارأفرام النصيبيني الملفان الكلداني الكبير والجليل ما بين عام (363 – 365 م) بمُساعدة زملائه ورفاقِه والكثير مِن نبلاء نصيبين الذين رافقوه في انتقاله الى الرُّها بعد غلق مدرسة نصيبين الأكاديمية الشهيرة، فأراد القديس مار أفرام أن يُعَوِّضَ شعبَه الكلداني وكنيسته بمدرسةٍ بديلة، بل بمدرسةٍ تكون امتداداً للتي فُقدَت، واستمراراً لإشباع النزوع الغريزي لشعبَ كنيسة المشرق الكلداني الى العِلم والثقافة منذ القدم. ذاك النزوع المتأصل الذي لم تستطع ايقافه اضطهاداتُ أعدائه والصعوباتُ التي اكتنفت كنيسته في مسيرتِها وإن عَرقلتها وأفقدتها الكثير مِن جُهدِها وإرثِها الحضاري. وغدت هذه المدرسة المركز الثقافي الأهم في منطقة الشرق لمدة قرن وربع القرن، أنجبت عدداً مِن علماء وادباء مشهورين ساهموا في نشر الثقافة الكلدانية في الشرق، والكثيرون مِنهم تَبَوّأوا كراسي اسقفية وكان لهم دورٌ كبيرٌ في توجيه مسار الكنيسة .

                                                                                                                                                                                                                                                    لقد تبنَّت كنيسة المشرق الكلدانية نمطاً ثقافياً متمَيِّزاً ايماناً مِنها بالحكمة وتكريسها للإرث المُتواصل، فبذل رُعاتُها ورهبانُها جهوداً كُبرى في إنشاء مدارس كنسية ورهبانية مُلحقة بالكنائس والأديُرة، ويُمكن اعتبارُها كليات وجامعات بالنسبة للزمن التي وُجدت به مُقارنة بكليات وجامعات زمننا الحالي، كيف لا وقد تجاوز عددُ تلاميذ مدرسة نصيبين على عهد رئيسها ابراهيم دبيث رَبّان الآلفَ تلميذ وكذلك الحال في مدرسة الرُّها التي تلتها، وكانت الإختصاصاتُ قد تَضاعفت والمعارفُ تَنوَّعت والأنظمة التدريسية تَمَنهجَت بشكل جيد .

 

قادَ التدريسَ في مدرسة الرُّها مارأفرام الملفان مِن عام 363 وحتى وفاتِه عام 373 م، وهو المعروف بكونه أعظم آباء وأساتذة التراث المسيحي الكلداني وبنزعتِه الشرقية الكلدانية البحتة لم يتأَثر نتاجُه الغزير بنتاج غريب، وظلَّ يُدَرَّسُ كنصوص رسمية في المدارس حتى استُبدلَ على أيام خلفه قيّورا والاسقفين رَبّولا المونوفيزي بتعليم كيرُلُّس، وهيبا النسطوري بتعليم تِئودوروس المصيصي، وبذلك ابتعد التعليمُ عن مصدره الأصيل وعن التقليد المشرقي، نتيجة للتيارات الفكرية السائدة آنذاك في أنطاكيا وما جاورها.

                                                                                                                                                    وكانت نظرية تِئودوروس المصيصي التي تبنّاها نسطور القسطنطيني ونشأ عنها النزاع الشهير بينه وبين كيرُلُّس الإسكندري، هي التي تبنَّتها مدرسة الرُّها، ولكنَّ ربّولا مطران الرُّها عارض تعاليم نسطوريوس وهو ما يعني عدم قبوله بأفكار”المُفسِّر تِئودوروس” لأنه يُؤَيِّد آراء كيرُلُّس، ويُعزى السبب في ذلك، بأن جدالاً وقع يوماً بين المُفسِّر تِئودوروس وربّولا في القسطنطينية وكان المُفحَمَ فيه ربّولا فحمل له ضغينة. بينما الاسقف هيبا الذي خلف ربّولا على كُرسي الرُّها كان يؤَيِّد تعاليم المُفسِّر المصيصي ويُدافع عنها ويسعى الى نشرها، وهذا ما جعلهما يتصادمان الى الحد الذي دفع بربّولا في حالة انفعال شديد الى حرق كُلِّ ما كان قد ترجمه هيبا مِن تعاليم تِئودوروس المُفسِّر مِن اليونانية الى الكلدانية، وبعد وفاة ربّولا وجلوس هيبا على كُرسيِّ الرُّها عام 435 م عَمَّمَ تعاليم تِئودوروس ونسطوريوس على مدرسة الرُّها التي غلب عليها اسم (مدرسة الفرس)  لخصوصيتِها الكلدانية رعايا المملكة الفارسية.

 

وبعد انتقال مارأفرام مِن الحياة الفانية الى الحياة الأبدية عام 373 م تسلَّم رئاسة المدرسة قيورا وقاد التعليم فيها لمدة أربعةٍ وستين عاماً أي حتى وفاتِه عام 437م، واستُدعي أبرز تلاميذه مار نرساي الملفان الشهير لإدارتِها، وعكف مار نرساي على نشر تعاليم تِئودوروس المصيصي بكُلِّ حماس ونشاط. وكان المونوفيزيون يتحَيَّنون الفرص لتقوية نفوذهم وتسريب تعليمهم بين تلامذة المدرسة، وسنحت لهم الفرصة عندما أُقصيَ هيبا اسقف الرُّها عن كُرسيِّه وحَلَّ محلَّه “نونا” المونوفيزي بأمر مِن مجمع افسس الثاني المعروف بمجمع اللصوص عام 449 م، فترك المدرسة عددٌ كبير مِن المُدرسين الكبار والطلبة، وقصدوا البلاد الشرقية. ولم تَمُرَّ إلا سنتان حتى طُرد  نونا عن كُرسي الرُّها بقرار مِن مجمع خلقيدونية عام 451 م، بيدَ أنَّه عاد مِن جديد واحتَلَّ المنصب عام 457 م بعد وفاة مارهيبا بحسب قول التاريخ الرُّهاوي(السممعاني1 ص 405)

                                                                                                                                                           وكان مِن بين الطلبة الذين غادروا مدرسة الرُّها عام 449 م بحسب قول شمعون الأرشامي في (السمعاني1 ص 353 – 354 والمجامع الشرقية ص 53 و59 – 60) “برصوما” الذي أصبح مطراناً على نصيبين قبل عام 457 م ومعنا مطراناً لريوأرداشير ويوحنان مطراناً لكرخ سلوخ وبولس بن قاقي لكرخ ليدان وابراهام لماداي وبوسي بن قورطي لشوشتر وميخا للاشوم وعبشوطا لأربيل. وبعودة نونا المونوفيزي الأخيرة إضطرَّ نرساي لمغادرة المدرسة، ويقول المؤرخ (ماري في المجدل ص 44 ) بأنَّ نرساي قال لدى خروجه هتين الإستغاثتين:”ܡܪܝܐ ܥܝܢܝܟ ܥܠ ܗܝܡܢܘܬܐܡܫܝܚܐ ܕܫܝܢ ܒܡܐܬܝܬܗ ܠܟܠܗ ܒܪܝܬܐ ܥܡ ܫܠܘܚܗ. ܚܘܣ ܥܠ ܥܕܬܟ ܦܪܝܩܬ ܒܕܡܟ ܘܒܛܠ ܡܢ ܓܘܗ ܙܕܩܐ ܦܠܝܓܐ وترجمتهما: انظر بعينيك على الإيمان أيها الرب . . . أيها المسيح الذي صالح الخليقة كُلَّها مع مُرسِلِه. إرأَف بكنيستِكَ المُخَلَّصة بدمكَ، وأزِل عنها الإنشقاقات المُريبة . . . ” إنَّه إلتماس وتضرُّع الى ألله ليُزيل الإنشقاق عن كنيسته ويُحِلَّ السلام في ربوعِها، فالإيمان مُضطهدٌ والوُعّأظ  يُقتَلون، وكُتُب الكهنة والملافنة مُعلِّمي الحق قد أُخفيَت أو أُحرقت. (انظر في الحوذرا 1 ص 236).

 

أبَعدَ كُلِّ هذا الجهد الكلداني المميَّز الذي غيَّر مسرح البيئة الرُّهاوية الزاخر بالثقافة الوثنية لمدة عدة قرون قبل الميلاد، الى مسرح فاقه ازدهارا للثقافة المسيحية الشرقية الناصعة، يقوم أحفادُ المونوفيزيين القدامى الذين احتموا باسم السريان الغريب وربطوه بالمذهب الأرثوذكسي بإلغاءهذا الجهد العظيم وعزوه خلسةً الى غير أصحابه زوراً إسماً ولغةً وأيَّدهم بذلك بعض الذين نبذوا الأرثوذكسية وتحوَّلوا الى الكثلكة ومنهم صاحب كتاب(اللغة العظيمة) غريغوريوس يعقوب حلياني، ناسياً أو متناسياً بأن ما سمّاها باللغة السريانية بلا قيد والتي وصفها بالعظيمة لم تكن مستعملة في أية بقعة وُجد بها المتورطون بها من الموارنة والسريان بشطريهم الكاثوليك والمونوفيزيين اليعاقبة إلا سكان طورعبدين كما أكد ذلك المطران يوسف داود في مقدمة كتاب نحوه”السرياني العربي”. إذاً ألا يُستنتج من ذلك إن ما تُدعى اليوم باللغة السريانية هي لغة أهل الجبل المحرَّفة من اللغة الآرامية الفصحى الكلدانية من قبل بعض المتزمتين المونوفيزيين اليعاقبة ونشروها في زمن متأخر معممين إياها على الطقس المونوفيزي اليعقوبي نكاية وتمييزاً لهم عن النساطرة الذين يكنون لهم أشدَّ عداوة مذهبية، ولا ندري كيف ولماذا جاراهم الموارنة في تداولها في طقسهم؟ لأن الأولين شرقيين كانوا أو غربيين لم تظهر بينهم لهجتان وبهذا الفارق الفاضح اليوم، فضلاً عن ذلك فإن مسيحيي الجزيرة حتى الرُّها التي يتشدق المسيحيون الغربيون بنسب لغتهم العوجاء إليها، ما كانوا يلفظون آراميتهم إلا باللهجة الشرقية الكلدانية والتأكيدات على ذلك كثيرة وقد أشفعناها بالأدلة في باب التراث والأدب الكلداني في مجلَّدنا الثاني من سلسلة كُتُبِنا التاريخية التي أطلقنا عليها عِنوان(تاريخ بلاد الرافدَين/ الكلدان والآثوريون عِبرَ القرون).

 

ولدى عودة نرساي الملفان الى نصيبين إستوقفه بَرصوما اسقفُها، وطلب إليه أن يقوم بتأسيس مدرسة جديدة في نصيبين، تكون امتداداً لمدرستِها الشهيرة التي أسسها مار يعقوب النصيبيني وأناط إدارتها بيد القديس مارأفرام المُعلم الكبير في حوالي عام 325 م. ويقول مؤَلف كتاب(أدب اللغة الآرامية ص 120 – 134) عن برصوما ونرساي، بأن نرساي قبل الفكرة التي عرضها عليه برصوما، وباشر بتأسيس المدرسة ونُظِّمَ لها كما يقول (بَرحذبشبا في تاريخه ص 70 – 71 ومدرسة نصيبين ص 9) جدولُ قوانين ولائحةً بالدروس والفروض ليسيرَ عليها الأساتذة والطلاب. وقد أعطى حلولُ نرساي الملفان في نصيبين نبضاً جديداً جلب إليها أنظارَ أهل الشرق والغرب، وبسُرعةٍ هائلة غدت مدرستُها مركزَ جذبٍ لطلاب العلم لينهلوا مِن مجراه الغزير مياهَ العلم والأدب، وقد تباهى بها مطرانها ذو الطموح المُفرط الى الشهرة والمجد برصوما زميلُ نرساي في مدرسة الرُّها. كان برصوما سياسياً داهياً أكثر مِنه مطراناً قديراً، تَمَكَّنَ بدهائه كسبَ عطفِ حُكّام المملكة الفارسية وفي مُقدمتهم الملك فيروز، ومع كونه مِن رعايا المملكة الفارسية، لكنه كان على إطلاع جيدٍ على الشؤون الرومانية، وأحكمَ علاقته بحاكم المُقاطعة برابطٍ قوي مِن الصداقة وعن طريقها وصل لنيل حظوة كبيرة لدى الملك بحيث جعله واحداً مِن مُستشاريه، والجدير بالإشارة بأنه لم يكن لبرصوما أن يحظى بكُلِّ ذلك مِن الحُكّام الفرس لولا رغبتهم في استغلاله لمآربهم السياسية.

 

وكان مِن مضار ذلك أنَّ تَصَرُّفاتِ برصوما غلبَ عليها الطابعُ العِلماني ومالت أخلاقُه نحو السوء، بحيث لم يرَ حرجاً في مُعاشرة راهبةٍ اسمها “ماموي” مِمّا أدّى الى انفجار خلافٍ بينه وبين مُدير المدرسة نرساي الملفان، الذي كان مثالاً للعلم المقرون بالفضيلة وقد برهنت على ذلك كتاباته الكثيرة، ولم يبخل نرساي بإسداء النصيحة تلو الأخرى لصديقه برصوما وزميله في الدراسة، للعدول عن أفعاله غير اللائقة، ولكن برصوما كان قد تسلَّط عليه الهوى الشيطاني حُباً بماموي، ويقول بعضهم بأنها هي التي دفعته الى عزل مدير المدرسة نرساي وطرده، وسنرى لاحقاً تبريراً مِنه لفعله المُنحرف. والى الجزء الثالث قريباً.

 

الشماس د. كوركيس مردو

في  29 / 11 / 2014

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *