الإنشقاقات والنكبات التي عصفت بالأمة الكلدانية وكنيستها والمآسي التي حَلَّت بها عِبرَ الزمَن / الجزء الحادي عشر

 

الكنيسة الكلدانية النسطورية وحكم الخلفاء العباسيين الأوائل

لقد ذكرنا فيما سبق بأن الكنيسة الكلدانية النسطورية في بلاد الرافدين، تعرَّضت في العهد الأموي لصعوباتٍ ومضايقات، ولا سيما من قبل الولاة والعمال الأمويين، ولما انتصر الثوارُ العباسيون بعـد نضال طويل على الأمويين وأزالوا نظامَهم العنصري، ثمَّ بنوا على أنقاضه نظامَهم الجديد. أيَّدت هذا النظام الذي أعلن عن امميته الإسلامية، جميعُ شعوب المنطقة المُسلمة العربية والأعجمية وغير المُسلمة أيضاً. وكان المسيحيون قد إستبشروا خيراً مِن قيام هذا النظام ورأوا فيه منفذاً ليتنفسوا الصعداء. وحين بدأت إدارة الدولة العباسية بالتوسُّع كانت بحاجةٍ الى اناس ذوي دراية وثقافة ليتولوا امورَ الإدارة والدواوين والجباية وبيت المال. ولما كان المسيحيون وقتذاك وحدهم تقريباً ولا سيما الكلدان النساطرة منهم الذين يمتلكون ثقافة عالية، ومُتمكِّنين مِن العِلم ومتفوِّقين في المِهن، فكان بينهم الفلاسفة والأطباء والفلكيون والمتضلعون في اللغات. يقول الكاردينال تيسِّران في كتابه (الكنيسة الكلدانية / الترجمة ص 51) أُنتُدِبَ العديدُ مِن هؤلاء المُثقفين والعلماء والمهنيين الى دار الخلافة، ولا سيما في عهدَي أبي جعفرالمنصور وحفيده هارون الرشيد.  فتمتَّع هؤلاء المُقرَّبون ذوو العلوم والمهن والفنون مِن الخلافة بنفوذٍ مؤَثِّر، يتباينُ في قوَّته وفقاً لأهمية صاحبه،  وكان هذا النفوذ يُستخدَم بشكل انحيازي لدي حصول نزاع في الكنيسة المشرقية.

 

إذاً فمجيءُ العباسيين الى السُلطة وإنشاؤهم بغداد عاصمة جديدة لحُكمهم، فتح عصراً جديداً للكنيسة الكلدانية النسطورية وأبنائها، فالخلفاء والوُلاة والأمراء المسلمون، وثقوا بالمسيحيين أبناء هذه الكنيسة واستعانوا بهم للقيام بأعباء الإدارة والإقـتصاد والتعليم، وسنروي لاحقاً كيف سيُوفِّرون هؤلاء المسيحيون للمسلمين العرب وغير العرب الفرصَ ليتعرَّفوا ويتعلموا الفلسفة اليونانية وشتى العلوم الغربية. لقد هيّأَ المنصورُ الأجواء المُلائمة وأصبح كُلُّ شيءٍ جاهزاً لبدء الخطوة الاولى للوصول الى حضارة عظـيمة، ففي نهاية عهده كانت الإدارة قد ترسَّخت، وخزائن الدولة قد إمتلأَت بما يكفي لتمويل الحملات العسكرية والنققات الأخرى لهذه الإمبراطورية التي ترامت أطرافها جداً، والعاصمة الجديدة أخذت بالتوسع والإزدهار.

ومع نموِّ بغداد العاصمة العباسية الجديدة وازدهارها تزامنَ معها انتعاشُ الكنيسة  الكلدانية النسطورية التي إحتضنتها سُلطات الدولة العباسية عن طريق الكتبة والأمناء والمُستشارين والأطباء مِن أبنائها الذين استعانت بهم الدولة للقيام بأهمِّ شؤونها كما تقدم ذِكرُه. وستؤَدّي الكنيسة دوراً بارزاً في تبلور هذه الحضارة  وستجعل مِن المسيحية أن تَشغلَ مساحة واسعة في رحاب الدولة، وأن يُنظرَ إليها كديانة ثانية وإن كان ذلك غير رسمي .

 

لم تخلُ الكنيسة المشرقية الكلدانية منذ انتظامِها في أوائل القرن الثالث، مِن الإضطراب والنزاع بسبب التنافس على المناصب والكراسي ولا سيما كُرسي الرئاسة الجاثاليقي أو البـطريركي لاحـقاً، وها هي الفوضى تسودُها في مطلع العهد العباسي نتيجة هذا التنافس على الكُرسي البطريركي وهي مُزمعة للتعاون معه بكُلِّ جِدٍّ، فخلق ذلك صعـوبة لسريان هـذا التعاون، حيث يذكر المؤرخان في كتاب المجدل (صليبا ص 62 – 63 وماري ص67)  بأن تنافساً شديداً حدث بشأن تولّي الكُرسي البطريركي بين سورين ويعـقـوب الثاني، كان سورين مطراناً على نصيبين ثمَّ غادرها وقصد حلوان، إقترنت حياتُه بالشغب والفِتَن، وبطريقةٍ أو باخرى أقنع أمير المدائن بتعيينه بطريركاً للكنيسة الكلدانية النسطورية عام 754م، بيدأنه لقي مُعارضة ورفضاُ مِن قبل الأساقـفة، الذين قدَّموا التماساً الى الخليفة الأول أبي العبّاس السفّاح طالبين عزلَه مِن المنصب، فلبّى طلبَهم. فلم تتعدَّ مدة بقائه على الكُرسي إلا شهراً ونصف الشهر (12 نيسان – 26 أيار 754م) ثمَّ جرى تعيينُه مطراناً على البصرة، ولكنّ أهلَها لم يقبلوا به أيضاً، فكان مصيرُه السجن ومات فيه. أما مُزاحِمُه يعقوب فقد أمرَ الخليفة المنصور بسجنه لفترةٍ مِن الزمن، ثمَّ أعيد الى الكُرسي البطريركي وامتدَّت مدة جلوسه 19 عاماً أي منذ (754 – 773).

 

36 – البطريرك سـورين  742- 752م

يقول بطرس نصري (ذخيرة الأذهان ج1 ص 337) تدَخَّلَ بابانُ عاملُ الخليفة أبي العبّاس السفّاح على المدائن في تنصيبِ سورين عَنوَة ً جاثاليقاً خلفاً لمارآبا الثاني، لكنَّ جلوسَه على الكرسي لم يَدُم إلا سبعة أسابيع ويومان، حيث يقول عمرو (المجدل ص 63) بأنَّ آباءَ الكنيسة وجمهوراً كبيراً من المسيحيين عقدوا اجتماعاً وقـرَّروا تقديم التماس الى الخليفة أبي العَـبّاس السفاح بعدم شرعية سورين، فما كان من الخليفة إلا أن استجاب لمطلبهم وخوَّلهم انتخابَ رئيس لهم بكُلِّ حُرية، وعلى الفور إجتمعوا وانتخبوا يعقوب مطران جنديسابور كما أشار الى ذلك المصدر الأول المار ذِكرُه. ويقول توما المرجي (كتاب الرؤساء ص121) بأن سورين نُسِّبَ مطراناً للبصرة بيدَ أنَّ أهلَ البصرة اعترضوا عليه ولم يقبلوا به، ويقول المؤرخ ماري(المجدل ص 67) بأن حياة سورين إنتهت في السجن.

 

37 – البطريرك يعقوب 754 – 773م

يقول توما المرجي (كتاب الرؤساء ص12) كان يعقوب مطراناً على جنديسابور وفي عهده تمَّت وفاة الخليفة العبّاسي الأول أبي العبّاس السفّاح، وتَقلدَ الخلافة َ من بعده أخوه أبو جعفر المَنصور. ويقول بطرس نصري (ذخيرة الأذهان ج1 ص 331 – 338) وقد إتَّخذ َ الخليفة أبوجعفر المنصور من النصراني عيسى بن شهلا طبيباً خاصاً له، وكان في الوقت ذاته شماساً في الكنيسة، فعهدَ إليه بإدارة شؤون الكنيسة والقائمين عليها، وجرى أن قام يوماً الجاثاليقُ يعقوب والأساقفة بزيارة عيسى بن شهلا، فرأوا مِنه نفوراً وحتى أنه إستنكفَ تقبيل يد الجاثاليق فثقُلَ الأمرُ على سليمان اسقف الحديثة وقابلَه عيس بن شهلا بغضَبٍ شديد ومن ثمَّ سعى لدى الخليفة المنصور وحَدَّثه عن الشجار الذي جرى بين الجاثاليق يعقوب وسورين حول كـُرسيِّ الرئاسة، حيث سُجِنَ يعقوب ولاذ سورين بالهروب، كما لفَّقَ تُهمة ً بحقِّ الأسقف سليمان مفادُها: بأن مروان بن محمدٍ الأموي كان قد أودعَ قبل هزيمتِه أحمالاً من الدنانير لدى سليمان، فاستدعى الخليفة سليمان وتحقَّقَ مِنه فأنكر الخَبَر إلا أنه تَعَرَّضَ للضرب واودِع السجن. وبطريقةٍ ما وقعَت بيد فيرياس مطران نصيبين رسالة مُوقعة ومختومة مِن قبل عيسى بن شهلا يطلُب فيها مبالغ طائلة مِن الرؤساء المسجونين، ويقول فيها بأن حياة الخليفة المنصور في قبضة يدي، فقدمها الى المنصور، فكان ردُّ فعـل المنصور شديداً على عيسى بن شهلا حيث عاقبَه واستولى على أموالِه، وأفرجَ عَن الآباء المسجونين. وبعد خروج الجاثاليق يعقوب من السجن لم تـُفارقه البلايا والمصائب التي يعجز القلمُ عن وصفها وكانت السبب في أن يفارق الحياة سريعاً.

 

38  – البطريرك الجاثاليق حنانيشوع الثاني 775 – 779م

لم يُعرَف سبب شغور الكرسي الجاثاليقي لمدة سنتين بعد وفاة الجاثاليق يعقوب عام 773م. ففي عام 775م وهو عام تقلُّد المَهدي لمقاليد الخلافة، إستحصل عيسى أبوقريش طبيبُ الخَيزران زوجة الخليفة المهدي أمراً خليفياً بانتخاب جاثاليق جديد للكنيسة المشرقية الكلدانية النسطورية. يقول بطرس نصري (ذخيرة الأذهان ج1 ص 340) بأن خلافاً دَبَّ بين الأساقفة أثناء عملية الإنتخاب فتعَذ َّرت بسبب وجودِ مُرشحَين هما حنانيشوع اسقف لاشوم المرتبطة ببيث كَرماي (كركوك) وكيوركيس الراهب من دير بيث حالي، وكان لكُلٍّ مِنهما أنصار ومؤيدون مِن الإكليروس والعِلمانيين، والأمر ليس بغريبٍ ففي كُلِّ انتخابٍ للبطريرك يظهر منافسان أو اكثر، وحينها يلعب المتنفذون الكلدان دور تفضيل أحد المتنافسين. وهذا ما جرى حيث اجتمع آباءُ الكنيسة في دير مار فثيون ببغداد، وبسبب إخفاقهم في الوصول الى نتيجةٍ حاسمة لإختيار أحدهما، إضطرّوا الى رفع الأمر الى الخليفة. وكالعادة الدارجة لدى الخلفاء العباسيين، دعا المهدي المُرشَّحين الى الإسلام. وبعد سماعه مِنهما رفضاً لعَرضِه، إنبرى على طرح أسئلة دينية متنوعة عليهما، ومِن بينها سؤال غريبٌ هو <مِن أيِّ نوعٍ مِن الخشب كانت عصا موسى؟> وكان كيوركيس مُوفَّقاً في الجواب الصحيح (مِن خشب اللوز) إلاّ أنَّ منظرَ حنانيشوع وهيبتَه كانا ذا تأثيرعلى المهدي، ناهيك عن تأثير عيسى أبي قريش الداعم له، لذلك فضَّله على كيوركيس مُنافسِه.

 

 وهكذا فاز حنانيشوع بالكُرسي البطريركي، وعهدَ المهدي الى الوزير الربيع بن يونس بتنفيذ القرار. فقولُ المؤرخَين ماري وعمرو هو الأصح بأن هذا الإنتخابَ جرى فى مطلع عهد الخليفة المهدي وليس المنصور(ملحق صليبا ص 129) بخَلفِ سلفِه يعقوب الثاني عام 773م. يقول توما المرجي (كتاب الرؤساء ص 163) بأن حنانيشوع الثاني كان أولَ جاثاليق يُنتخَبُ في بغداد وتمَّت رسامتُه في المدائن بحسب التقليد الكنسي المُتَّبَع. وفي أواخر عهد حنانيشـوع الثاني كان المُرسَـلون الكلدان النساطرة في الصين قد باشروا بإقامةِ مسلَّةٍ في فناء دير كان قد اسِّسَ بأمرمن الإمبراطور “تاي- تسونغ” في الضاحية القريبة من العاصمة “سي- نغامن- فو” وقد صُنعَت من الكِلس الحجري الرمادي اللون ونُقشَت عليها الى جانب اسم الجاثاليق حنانيشوع الثاني أسماءُ الأساقفة والكهنة الذين نقلوا بشرى الخلاص المسيحية الى تلك الأصقاع البعيدة، وكان تاريخ الإنتهاء مِن نصب المسلَّة 4 شباط 781م منقوشاً عليها.

أما نهاية مارحنانيشوع الثاني يقول عنها بطرس نصري ( ذخيرة الأذهان ج1 ص 341) كانت مأساوية محزنة نتيجة فعل إجرامي أمر به أبوالعبّاس الطوسي الذي كان قد استرهن الدوقرة من الجاثاليق حنانيشوع وما إن طالبه بإعادتها حتى أضمَرَ له العداء، وحدث أن الجاثاليق حنانيشوع الثاني ألمَّ به مرضٌ، فأرسل إليه أبوالعبّاس الطوسي غلامَه ليَحجمَه مُزَوِّداً إياه بمشرطٍ مسموم، وما إن قام الغلامُ بشرط الجاثاليق حتى سرى السُمُّ في جسمِه، فظهر الورمُ على رقبتِه، وتوفـِّيَ بعد ثـلاثةِ أيام ودُفنَ في المدائن. والى الجزء الحادي عشر قريباً.

39 – البطريرك طيمثاوس الأول الكبير 780 – 823م

للحديث عن هذا البطريرك الكلداني النسطوري العظيم، لا بدَّ لنا أن نشيرَ الى المصادر التاريخية القديمة مِنها والحديثة التي تطرَّقت الى أدوار حياة هذا الشخصية البارزة التي أعدَّتها العناية الإلهية لقيادة دفة سفينة كنيسته المشرقية النسطورية وسط أمواج بحر المؤامرات والإضطهادات الى بَرِّ الأمان. نُدرج أهم المصادر:

 

(توما المرجي / كتاب الرؤساء ، ترجمة ألبير أبونا ص 92 – 130 و 163 – 165 و167- 170 وصفحات اخرى كثيرة /الموصل 1966 : ماري/ المجدل ص 71 – 75 : صليبا / المجدل ص 64 – 66 : إبن العبري/ التاريخ الكنسي2 ص 165 – 173 و 179- 182: الأب لابور/ طيمثاوس الأول بطريرك النساطرة ص 1 – 14 باريس 1904 م : البير أبونا / أدب اللغة الآرامية ص 328 – 338 بيروت 1970 م :  اورتيزدي اوربينا / الباترولوجيا الشرقية ط . 2 ص 215 – 226 روما 1965 م :السمعاني / المكتبة الشرقية3 ،1 ص 158 – 163 : بوتمان/ الكنيسة والإسلام في العصر العباسي الأول ص 13 – 23 بيروت 1975 : براون في مجلة الشرق المسيحي1 لسنة 1901 م ص 138 – 152 البطريرك طيمثاوس الأول ورسائله :  تيسِّران في / معجم اللاهوت الكاثوليكي15 لسنة 1946 عمود 1121 – 1139 وخـلاصة تاريخية للكنيسة الكلدانية/ ترجمة القس سليمان الصائـغ ص 51 – 54 : كنيسة المشرق الكلدانية الآثورية/ الأب يوسف حَـبي : تاريخ نصارلا العراق / بابو اسحق ص 66 و 98 : حنا شيخو / رسالة طيمثاوس الأول الى سرجيس ص 1 – 41 روما 1983 : روفائيل بيداويذ(البطريرك) في اطروحته ” رسائل البطريرك النسطوري طيمثاوس الأول ” ص 1 – 87 روما 1956 م : منكنا / جدال البطريرك طيمثاوس الأول أمام الخليفة المهدي ص 1 – 15 ومصادر اخـرى قـد يأتي ذِكـرُها ضمن الحديث).

كانت قرية حزّة الواقعة جنوب غربي مدينة أربيل اليوم، مسقط َ رأس طيمثاوس الذي وُلدَ فيها عام (727 أو 728م) في كَنفِ عائلة نبيلة ومُتديِّنة، لم تُتحفنا المصادرُ أعلاه بمعلوماتٍ وافية عن حياته في الصغر، إلا أنَّ ما إستقيناه مِنها هو: بأنَّ عمَّه كيوركيس كان اسقفاً على أبرشية بابَغش (بيث بغاش) التابعة لميطرابوليطية حِدياب، خَصَّ إبنَ أخيه باهتمامِه وأخذ على عاتقه موضـوعَ تربيتِه فأرسله للدراسة في مدرسة باشوش الواقعة في منطقةٍ جبلية ما بين نهري الخازر والزاب الكبير. كان يُديرُ هذه المدرسة إبراهيم بن شنداد المعروف بـ (الأعرج) وقد سبق أن تحدثنا عنه كأحد علماءِ عصره المشهورين. فعلى يدِ هذا العالِم الجليل تلقى العِلمَ طيمثاوسُ ورفيقه ايشوع برنون الذي سيتولّى الكرسيَّ البطريركي مِن بعده، وكان يُشاطرهما في الدراسة أبو نوح الأنباري الذي ستُناط ُ به وظيفة أمين سِرِّ والي الموصل. لم يقتصر تدريسُ إبراهيم على العلوم الدينية فحسب، بل كان يُدَرِّسُ الى جانبها فلسفة آرسطو، ويَحُثُّ تلاميذه على قراءَة نِتاج الآباء اليونان وترجمة كتاباتهم الى الكلدانية. الى جانب اللغة الكلدانية أفصح اللهجات الآرامية أتقنَ طيمثاوس اللغتين العربية واليونانية، وتمَكَّنَ مِن الفلسفة اليونانية ومِن تعليم آباء الكنيسة. كان متعلِّقاً بمعلِّمه الى حَدِّ اللحاق به عند انتقاله للتدريس في مدرسةٍ اخرى، وكذلك لدى انتقالِه الى دير مار كبرئيل في المنطقة العليا مِن الموصل للتعليم فيه.

طيمثاوس الاسقف

ولما أنجزَ طيمثاوس دراسته بامتياز حائزاً على مرتبةٍ عليا مِن العلوم، قرَّر العودة الى عَمِّه الذي كان قد تقدَّمَ به العمرُ كثيراً، فأعربَ كيوركيس عن رغبته بأن  يخلفَه على كُرسيِّ اسقفية بيث بغاش إبنُ أخيه طيمثاوس، وفاتحَ بالأمر “مارن إمّه” ميطرابوليط حِدياب، فتلقّى مِن الميطرابوليط رفضاً لمطلبِه، إلاّ أنَّ كيوركيس لم يَيأَس حيث إستعان بزملاءِ طيمثاوس، وبخاصةٍ أبي نوح الأنباري، حيث استطاع التأثيرَ وإقناع مارن إمّه،  فوافق وإن كان غيرَ مُرتاح.  فرُسِم طيمثاوس اسقفاً لبابغش (بيث بغاش) في أواخر عام 769 أو أوائل 770م، ولكنَّ أخبارَ اسقفيتِه لم يُشِر إليها أيٌّ مِن المؤرخين بالتـفصيل،  وكُلُّ ما قيل عنه بأنه قد حاز على صداقة “موسى بن مُصعب” والي الموصل عن طريق زميلِه أبي نوح الأنباري حتى أنه نال مِنه إعـفاءً للضرائب المترتبة  على اسقفيته للدولة.

 

طيمثاوس البطريرك

واجهَت انتخابَ طيمثاوس بطريركاً عوائقُ وصعوباتٌ، تطلَّبت وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً لتذليلها، حيث تباينت آراءُ الآباء الناخبين بسبب كثرة المتنافسين. وكما مَرَّ القول، فإنَّ اسقف كُشكُر كان قد أُعطيَ ومنذ مجمع ساليق الثاني حقَّ تدبير الشؤون الكنسية عند وفاة الجاثاليق البطريرك ودعوة الآباء لإنتخاب بطريركٍ جديد. فبعد وفاة البطريرك حنانيشوع الثاني مسموماً عام 779م بادر توما اسقفُ كشكر الى إبلاغ الأساقفة لعقد اجتماع لإنتخاب خلفٍ له. فالتأَمَ شملُ الآباء في دير مار فِثيون ببغداد. وكان عددُ المرشَّحين أربعة بالإضافة الى طيمثاوس وهم: أفرام ميطرابوليط عيلام وايشوعياب اسقف نينوى وتوما اسقف كُشكُر وكيوركيس الراهب مِن بيث حالي (بيت الطين).

 

كان هؤلاءُ المُنافسون أقوياءً، وعلى طيمثاوس أن يخطو خطواتٍ سريعة ليفوز بسباق الإنتخاب، فواجهَ ايشوعياب وأقنعَه بأنَّ سنَّه المتقدِّم غير مُلائم،  واعداً إياه بمنصب ميطرابوليطية حِدياب. أما مُرشَّحُ أساقفة ومؤمني كُشكُر ونصيبين كيوركيس الراهب فقد وافتهُ المنِيَّة قبل أن يتبلَّغَ بالخبر، وعندما امتنع أفرامُ ميطرابوايط عيلام هو وأساقفتُه عن الحضور، وعُزيَ ذلك الى عدة أسباب مِنها: بعد المسافة، عدم المُوافقة، أو النزعة الإستقلالية التي كانت ميطرابوليطية عيلام تميلُ إليها منذ امدٍ بعيد، لم يبقَ في الساحة الإنتخابية غيرُ منافس واحدٍ يُزاحم طيمثاوس هو توما اسقف كُشكُر الذي كان مؤَيَّداً مِن مُناصرين ذوي حضور قوي.  بيد أنَّ طيمثاوس تدارك الأمرَ سريعاً، حيث نجح في استمالة الأركذياقون بيروي وإقناعِه بالوقوف الى جانبه ومعه تلاميذ كثيرون، واعداً إياهم بعطايا مالية مُجزية إذا قاموا بانتخابه. ولكي يؤَكِّدَ على وعده أراهم أكياساً زاعماً بأنها محشوَّة بالدراهم، وستكون مِن نصيبهم في حالة تأييدهم له وفوزه بالإنتخاب، والحقيقة فإن تلك الأكياس كانت مليئة بالحصى، وقد انطلت عليهم هذه الحيلة، وقيلَ أيضاً بأن صديقه أبا نوح الأنباري المُتنفذ في البلاط العباسي لعب دوراً لصالحه.

انتُخب طيمثاوس بطريركاً إما في نهاية عام 779م أو بداية عام 780م. وتَمَّت رسامتُه في السابع مِن أيار عام 780م  في المدائن  بوضع أيـدي رؤساء أساقـفة دمشق وبيـث كرماي وحلوان ولم يُؤكَّد اشترك مطران مرو ، وكان حضور عددٍ غير قليل مِن الأساقـفة ظاهراً أثـناء الرسامة. وكُلُّ المصادرالتالية تُجمع على القول (إبن العبري/ التاريخ الكنسي2 ص 170 : براون / مجلة الشرق المسيحي ص 140 : بوتمان / الكنيسة والإسلام في العصر العباسي الأول ص 17 ح1 : حنا شيخو / رسالة طيمثاوس الأول الى سرجيس ص 10 ح26 : روفائيل بيداويذ / رسائل البطريرك النسطوري طيمثاوس الأول ص13) بأنَّ طيمثاوس أفحمَ  بجوابٍ سديد البعضَ الذين أنحوا عليه باللائمة بقولِهم له، لقد إشتريتَ البطريركية بالسيمونية (نسبة الى سيمون الساحر) فرَدَّ عليهم بالنص التالي: <إني لم أشترِ البطريركية، إذ لم يكن في الأكياس سوى حَصى، وكان بالأحرى على الذين انتخبوني بدافع المال أن يَخجلوا مِن عملِهم هذا!>.

 

المُعارَضة القتّالة

إن الغيرة هي إحدى الطِباع المجبولة في المخلوق البشري، فبعد انتخاب طيمثاوس بطريركاً، ثار ضِدَّه المعارضون مدفوعين بغيرةٍ غير نزيهة. وأول مَن تزعَّمَ فريقاً مُناوئاً للبطريرك الجديد، كان يوسفُ مطران مرو، وجاراه في ذلك بعضُ الأساقفةِ الآخرين، حيث اتَّفقوا على رَسْم رسطم اسقف حانيثا ميطرابوليطاً لكُرسيِّ حِدياب، تحدِّياً لقرار طيمثاوس بتعيين ايشوعياب لذلك المنصب، وفاءً بوعده السابق له. طالع توما المرجي في (كتاب الرؤساء / الترجمة العربية ص 166- 169) على تفاصيل موت رسطم بشكل مأساوي بعد مدةٍ قصيرة مِن جلوسه على كُرسيِّ حدياب.  ولم يبقَ فريقُ الأساقفة المُناويئين للبطريرك طيمثاوس مكتوفي اليدين،  فقد أجتمعوا في دير بيت الطين (بيث حالي) الواقع بالقرب مِن حديثة الموصل، وعقدوا مجمعاً أقالوا فيه طيمثاوس ونصبوا عوضه كيوركيس الراهب مِن بيث حالي، وكما سبق لنا القول، بأنَّ كيوركيس وافاه الأجل قبل أن يتسلَّمَ الكُرسيَّ البطريركي. عقب هذه الأحداث إنسحب سليمانُ اسقف الحديثة مِن الفريق المُناويء، واستقال مِن منصبه الاسقفي وقصد ديرَ الربان هارون القريب مِن “بلد” (أسكي موصل) وانعزل فيه .  لم يرعوي يوسـف مطران مرو مِن مجرى الأحداث وازداد تشبُّثاً بموقفه المُناويء للبطريرك طيمثاوس، فلم يجد البطريرك حَلاًّ لمُشكلته إلا بعزله وتعيين غريغـوريوس مطراناً على مرو بدلاً عنه. فطرق يوسفُ باب الخليفة المهدي متظلِّماً، وإذ لم يُجدِهِ الأمرُ نَفعاً، إعتنقَ الإسلامَ ديناً، فقلَّده المهدي بحسب قول المؤرخ (ماري في المجدل ص 72 وتوما المرجي / كتاب الرؤساء ص 169) بعضَ أعمال البصرة، وما لبث أن انتقل بعد مدةٍ الى منطقة الروم، وفيها إسترَدَّ مسيحيته.

 

كاد أن يُسدلَ الستارُ علي المُعارضة وتُطوى صفحة صراع مؤلِم وغير مُبَرَّر، لولا قدوم أفرام العيلامي ميطرابوليط  جنديسابور (في عيلام) الى بغداد، وحَلَّ في دير فثيون وهنالك عقد مجمعاً مؤلفاً مِن (13 اسقفاً) في الأحد الثالث مِن الصوم عام 781م وقرَّروا فيه عزلَ البطريرك طيمثاوس. فكان رَدُّ فعل طيمثاوس عقدَ مجمع مؤَلَّفٍ مِن (15 اسقفاً) رشق فيه بالحرم أفرام وأعوانه…!  ضاق المؤمنون ذرعاً بهذا الصراع الكنسي الذي طالَ أمدُه سنتَين منذ وفاة البطريرك حنانيشوع الثاني، فأهابوا ببعض الشخصيات المسيحية ذات النفوذ في البَلاط ، لبذل الجهود في سبيل وضع حَدٍّ لهذا النزاع الطويل، فتدخَّلَ عيسى أبو قريش طبيبُ الخليفة المهدي وأبو نوح الأنباري زميلُ طيمثاوس، وحَسَما النزاعَ بتحقيقهما صُلحاً بين مارطيمثاوس البطريرك ومارأفرام الميطرابوليط وأنصارهما. ونزل مار طيمثاوس البطريرك عند رغبة الميطرابوليط، ليجريَ تنصيبُه ثانية بوضع يدي أفرام، لأنَّ الأخيرَ طالب بحقِّه وهو أن إليه يَرجعُ وضع اليد على المُنتخب للبطريركية كما يقول (ماري/ المجدل ص 72 وابن العبري/ التاريخ الكنسي3 ص 169) وأُقيمَت حفلة التنصيب في كنيسة العباد بدار الروم في بغداد، وفي تعليق لماري في (المجدل ص 72 – 73) قال فيه: <إنَّ أفرام تأثَّرَ جداً بتواضع البطريرك، فركع أمامَه. إذ ذاك أنهضه طيمثاوس وعانقه> وبذلك إنتهت المُعارضة وحَلَّت مَحَلَّها المُصالحة وانزاح شبحُ التمزُّق الذي كاد يعصف بالكنيسة الكلدانية النسطورية. والى الجزء الثاني عشر قريباً.

الشماس د. كوركيس مردو

في 13/2/2015

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *