الإصحاح الحادي عشر من انجيل متَّى البشير

يسوع ويوحنا المعمذان

” ولما أتمَّ يسوع وصاياه لتلاميذه الإثني عشر، ذهب من هناك ليُعَلِّمَ ويُبشِّرَ في مدنهم. وسمع يوحنا وهو في السجن بأعمال المسيح، فأرسل إثنين من تلاميذه يسأله بلسانهما: أأنتَ الآتي أم ننتظر آخر؟ فأجابهم يسوع: إذهبا وأخبرا يوحنا بما تسمعون وترون: العُميانُ يُبصِرون والعُرجُ يمشون مشياً سويّاً، البُرصُ يبرأون والصُمُّ يسمعون، الموتى يقومون والفقراءُ يُبَشَّرون، وطوبى لمَن لا أكون له حجر عثرة ” (متَّى11: 1 – 6.

كان يوحنا في السجن وعلم بأنَّه سينال إكليل الشهادة، ولكي يُغيِّر سلبية تصوُّر تلاميذه عن يسوع، أرسل إثنين من تلاميذه إليه ليطلعا على حقيقة هويته ويعودا لإخبار يوحنا وبقية تلاميذه بالواقع الذي كان المسيح عليه، وكانت غاية يوحنا أن لا يتخذ تلاميذه موقفاً مُناهضاً للمسيح فيما بعد بل أراد أن يتتلمذوا له. لم يكن سؤال يوحنا الذي نقله تلميذاه الى يسوع: هل هو أنت الآتي أي “المسيح المنتظر” أم ننتظر آخر؟ لم يكن سؤال يوحنا صادراً عن شَكٍّ في المسيح، إذ هل يُساور الشك مَن عرف المسيح وهو في رحم أمِّه؟ (لوقا1: 44) ومَن رأى الروح ينزل من السماء بهيئة حمامة ويستقر عليه  ساعة عماذه؟ (يوحنا1: 29-34) أيُخامره الشك فيه؟ مُطلقاً لا. ما كان السؤال إلا لأجل أن يؤمن تلاميذه بيسوع بأنَّه هو المسيح المُنتظر، وبخاصةٍ أنَّ الغيرة كانت قد دَبَّت في قلوب تلاميذ يوحنا المعمذان مِن نجاح رسالة يسوع. (يوحنا3: 26) كما أنَّ يوحنا كان واضحاً في شهادته لتلاميذه عن يسوع وبوجوب اتِّباعِه كما فعل اندراوس ويوحنا.

ولما طرح تلميذا يوحنا سؤالَه على يسوع كان جوابُه: أخبِرا يوحنا بما تسمَعان وتنظران: العميان يُبصِرون والصُمُّ يسمعون … وكأنَّه يُذكِّرهم بأنَّ النبؤات قد تحقَّقت فيَّ. ” حينئذٍ تتفتح عيون العُميان وآذان الصُمِّ تنفتح (إشعيا 35: 5) ” روح السيد الرب عليَّ لأنَّ الرب مسحني وأرسلني لأُبَشِّر الفقراء وأُجبِرَ مُنكسري القلوب …” (إشعيا61: 1). وقد أبلغ يسوع التلميذين تحذيراً من استمرار شكِّهما فيه بعد ما سمعاه وعايناه ” طوبى لمَن لا أكون له حجر عثرة ” أي طوبى لمَن لا يشكُّ فيَّ. وكان قصد يسوع من قوله ذلك للتلميذين أن لا يشُكّا فيه مطلقاً إذا سمعا إهاناة اليهود له أوشاهداه مُعلَّقاً على خشبة الصليب.

أقوال يسوع عن يوحنا المعمذان

” ولما انصرفا، أخذ يسوعُ يقول للجموع في شأن يوحنا: ماذا خرجتم الى البرية لتنظروا؟ أقصبةً تهُزُّها الريح؟، بل ماذا خرجتم لترون؟ أرَجُلاً يَلبَس الثياب الناعِمة؟ ها إنَّ الذين يلبسون الثيابَ الناعمة هم في قصور الملوك. بل ماذا خرجتم لتَرون؟ أنبيّاً؟ أقول لكم: نعم، بل أفضل مِن نبيٍّ. فهذا الذي كُتِبَ في شأنه: ” هاءَذا أُرسلُ رسولي قُدّامَك ليُعِدَّ الطريقَ أمامَك “. الحقَّ أقول لكم: لم يظهر في أولاد النساء أكبَرُ من يوحنا المعمذان، ولكنَّ الأصغر في ملكوت السموات أكبَرُ مِنه. ” (متَّى11: 7 – 11). (لوقا7: 24 – 28).

قال يسوع هذا بصدد يوحنا المعمذان شهادةً له، لكي لا يظنَّ أحدٌ بأنَّ شكّاً ساور المعمذان في حقيقة يسوع المسيح، وشهد يسوع بحقِّ يوحنا المعمذان بعد مغادرة تلميذيه لِئلاَّ تُأول أقوالُه الى غير حقيقتها كمجاملةٍ له أو لتلميذيه. ونفى يسوع أن يكون يوحنا كقصبةٍ تهزُّها الريح، لأنَّ يوحنا لا يهتمُّ بالمديح وإن تلقَّى الكثير منه من البشر، ولا يُثيره الذم ولم يبالِ بالألم الذي أذاقه إياه هيرودس المتغطرس بدون ذَنبٍ، فظلَّ ثابتاً في مُهمَّته التي أُرسِل مِن أجلها، غيرَعابيءٍ بمصارعة الأرواح الشريرة ومتصدِّياً لكُلِّ التعاليم الغريبة، منادياً الناس لسلوك طريق التوبة ليعودوا الى الحق الذي تجاهلوه، مُوبخاً إياهم على ابتعادهم عن سلوك الطريق المستقيم. شاهدوه يعيش حياةً بسيطة متمثلة بملبسه الخشن المنسوج من وبر الإبل وبطعامه الذي كان الجراد والعسل البري، دون أن يسعى الى الأفضل، لإمتلائه من الروح الذي نصره على كُلِّ الأفكار الدنيوية الشريرة.

أفضل مِن نبي

وصف يسوع يوحنا المعمذان بأفضل من نبي إذ إنَّه الوحيد الذي بشَّر الملاك بمجيئه دون كُلِّ أنبياء العهد القديم ” قال له الملاك: لا تخف يا زكريا، فقد سُمع دعاؤك وستلدُ لك امرأتك أليصابات ابناً فسَمِّه يوحنا ” (لوقا1: 13) ” لأنَّه سيكون عظيماً أمام الرب … ويمتليء من الروح القدس وهو في بطن أُمِّه ” (لوقا1: 15)” فما إنْ وقع صوت سلامِكِ في أُذنيَّ حتى ارتكض الجنين ابتهاجاً في بطني ” (لوقا1: 44) ” ها أنا مُرسِلٌ رسولي فيُعِدُّ الطريق أمامي ” 0ملاخي3: 1) كافة الأنبياء تنبأوا عن المسيح، إلا أنَّ يوحنا المعمذان فأعدَّ الطريق للمسيح بشكل مُباشر وعلني، جميع الأنبياء اشتاقوا ليروا المسيح ولم يحظوا، لكنَّ يوحنا رآه وعمَّذه!

لم يظهر في أولاد النساء أعظم من يوحنا المعمذان

كيف لا يكون الأعظم مَن أُرسِل ليُعِدَّ الطريق أمام المسيح ويقوم بتعميذه! ويشهد بأنَّه  ” حمل الله الذي يرفع خطيئة العالَم ” (يوحنا1: 29 و1: 36) وهي شهادة حَقٍّ أدّاها حتى الموت. وحين جاء إليه تلاميذه إثرَ جدال بينهم وبين أحد اليهود مُحرضينه ضِدَّ عمل يسوع الناجح والذائع صيتُه، رَدَّ عليهم قائلاً: ” ليس لأحدٍ أن يأخذ شيئاً لم يُعطَهُ من السماء. أنتم بأنفسكم تشهدون لي بأني قلتُ لستُ المسيح، بل مُرسَل قدّامَه ” (يوحنا3: 27 – 28) وأطلق جُملةً عظيمة ” لا بُدَّ له مِن أن يكبُر. ولا بُدَّ لي مِن أن أصغُر. إنَّ الآتيَ من عَلُ هو فوق كُلِّ شيء والذي مِن الأرض هو أرضيٌّ … ” (يوحنا3: 30 – 31) يوحنا بخلاف جميع الأنبياء الذين تنبأوا عن المسيح ولكنَّهم لم يحظوا برؤيته، بينما هو رآه وعمَّذه وشهد شهادة حقٍّ له، وهو الوحيد الذي أدرك سِرَّ الأقانيم الثلاثة يوم تعميذه ليسوع ولهذا نال الأفضلية على الأنبياء على لسان يسوع! كما أنَّ يوحنا المعمذان عاش حياة النسك والزهد مثل ايليا، وعلى نظير ايليا الذي لم يَخشَ آحاب وايزابيل، كذلك لم يخشَ يوحنا المعمذان هيرودس وهيروديا “فإنْ شئتُم أن تفهموا، فهو ايليا المُنتظر رجوعُه ” (متَّى11: 14).

بالجهاد يؤخذ ملكوت السموات

” دامَ عهدُ الشريعة والأنبياء حتى يوحنا، ومِن ذلك الحين يُبشَّرُ بملكوت الله، وكُلُّ امريءٍ مُلزم بدخوله. ” لوقه16: 16) ” فمنذ أيام يوحنا المعمذان الى اليوم ملكوت السموات يؤخذ بالجهاد، والمُجاهدون يختطفونه. فجميع الأنبياء قد تنبَّأوا وكذلك الشريعة، حتى يوحنا فإن شئتُم أن تفهموا فهو ايليا المنتظررجوعُه. مَن كان له أُذنان فليسمع! “(متَّى11: 12-15) فملكوت السموات منذ زمن يوحنا المعمذان والى الآن وحتى القادم من الزمان يُغتصب والمغتصبون يفوزون به، لأنَّ الناموس وجميع الأنبياء عن المسيح صاحب الملكوت تنبأوا حتى يوحنا. يقول بولس الرسول: “جاهدتُ الجهاد الحسن” يبدأ الجهاد بغصب الإنسان لنفسه لأنَّها ميّالة لفعل السوء فيعمل على عدم ارتياد الأماكن التي تتكاثر فيها الخطيئة ويتجنَّب مُعاشرة السيِّئين، ولكبح الجسد عن إرضاء لذاته على المرء عدم الإفراط في تلبية رغباته من المآكل اللذيذة ويستعين بالصلاة والصوم جهدَ طاقته، لأنهما يجلبان له النعمة التي تجعل من حرمانه لأهوائه لذة داخلية بتغلُّبه على رغبات جسده، وبذلك يكون قد قطع شوطاً كبيراً نحو الإقتراب من ملكوت السموات، فالتحكم برغبات النفس والجسد السلبية يُساعدنا ويُحررنا من استعباد الخطيئة.

على الأرض يبدأ ملكوت السموات والمعمَّذون والتائبون يدخلونه، لأنَّ المعموذية تجعلهم أبناءً لله وليس أولادَ رجال ونساء. يوحنا ولدته امرأة كسابقيه من الأنبياء ولذلك صنفه يسوع بالأعظم بين مواليد النساء، ولكنَّ الأصغر في ملكوت السموات أعظم منه، وهذا الأصغر هو ابن الله المولود بالمعموذية ويعيش حياة التوبة والتواضع ويُعَد أعظم من يوحنا. كان يوحنا كاملاً في بِرِّ الناموس، أما أبناء الله بالمعموذية ولا سيما المتواضعون، فقد نالوا البِرَّ بدم المسيح فثبتوا في المسيح، لذلك هم الأعظم من الثابتين في بِرِّ الناموس. يسوع لم ينتقص من مَنزلة الأنبياء، وإنَّما أراد إظهار سموَّ وعظمة الحياة الإنجيلية بمقارنتها بالحياة الناموسية التي لا تُضاهيها مطلقاً لأن المُجاهدين من خلال الناموس مهما بذلوا من جهدٍ يبقون مواليد النساء، بينما المعموذية هبة الله الكبرى في العهد الجديد ترقى بنا فوق اللحم والدم وتمنحنا البنوة لله.

تحدَّثنا حتى الآن عن يوحنا المعمذان مستعرضين حياته الأرضية ومُهِمَّته الرسولية، وسنواصل الحديث عمّا غفلنا عن ذَكره. فقد تجلَّت عظمتُه بما أفرزته مناداتُه وتعاليمُه من تأثير كبيرعلى الكثيرين من معاصريه فجنحوا الى مُمارسة التوبة سعياً لإغتصاب ملكوت السموات، وراح اليهود يتزاحمون حوله مُعلنين عن توبتهم طالبين الإعتماذ على يديه مكفرين عن خطاياهم ومصححين سيرتهم. مَثَّل يوحنا المعمذان نهاية العهد القديم وبداية العهد الجديد، هو اختتم رسالة الأنبياء، ومنذ أن ابتدأ بخدمة تعميذ التائبين انفتح باب الملكوت السماوي لإستقبال المؤمنين بيسوع المسيح، لأنَّ التوبة قد طهَّرت قلوبَهم فأصبحوا أنقياء القلب ويستحقون معاينة الله أي معرفة المسيح، ومَن عرف المسيح وقبله بصدقٍ يُعاهد نفسه على عدم ارتكاب الخطيئة ويُحاول الإتحاد بالله للفوز بملكوت السموات عطية الله المجانية إلا انها لا تُمنح للرخاة في الإيمان والمتهاونين. ولكن عندما فتح المسيح الفادي باب الفِردوس الموصد أمام البشر، دخله أبرار العهدين القديم والجديد ومنهم يوحنا المعمذان فغدا رئيس كُلِّ المؤمنين باستثناء القديسة مريم العذراء والدة يسوع الفادي!

الشماس د. كوركيس مردو

في 7 / 2/ 2017 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *