اضطهاد الكلدان والسريان بشقّيهم قبل مئة عام / الحلقة الخامسة

 

مقتل مسيحيي نصيبين ودارا

نواصل رواية ما سطَّره الشاهد العيان المطران الجليل اسرائيل اودو في (الصفحة 76 –  83) من كتابه الذي أشرنا إليه في الحلقة الأولى من هذا المُسلسل وبتصرُّفٍ صياغي دون المساس بالمضمون، عن اضطهاد المسيحيين من الكلدان والسريان والطوائف الأخرى من مواطني الإمبراطورية العثمانية قبل مئة عام. وبما أنَّ القس حنا شوحا المُرتسم حديثاً كان في مقدمة موكب شهداء مدينة نصيبين، فقد ارتأى ماراودو أن يبدأ بكتابة نبذةٍ عنه حيث يقول: كان مسقط رأس القس حنا شوحا مدينة ماردين، فقد ولد في 2/1/1883م وسُمِّيَ باسم والده حنا ولكن اسمه في سجل العماذ فكتور، وكانت امُّه تُدعى مريم. عُرف والده المرحوم بحسن سيرته لكونه رجلاً فاضلاً تقياً يهاب الله. أرسل فكتورالى الموصل للدراسة في معهد مار يوحنا الحبيب الكهنوتي للآباء الدومنيكان، وما إن أنهى دراسته  حتى رسم كاهناً في كنيسة مِسكنته بالموصل من قبل المطران اسطيفان جبري بتخويل من مارعمانوئيل الثاني توما بطريرك بابل على الكلدان، بتاريخ 15/5/1909م مُتخذاً اسم القس حنا تيمُّناً باسم والده. وبعد رسامته عُين للخدمة في كنيسة مار هرمزد، وعُهِدَت إليه إدارة مدرسة الكنيسة، وبالإضافة الى ذلك كان يقوم بتدريس الأطفال اللغتين العربية والفرنسية يومياً وعلى مدى سنتين تقريباً.

ويُضيف مار اودو: وبناءً الى طلبه، نفذنا رغبته فأرسلناه في عام 1913م الى نصيبين، وقام هو أيضاً بتلبية رغبتنا، ففتح مدرسة للأطفال في نصيبين، وشمَّرعن ساعد الجِد للعمل بمنتهى الهمة والنشاط مدفوعاً من غيرته الرسولية معلِّماً ومبشِّراً حتى شهر ايار للعام 1915م الذي فيه تمَّ القاء القبض عليه وزجَّ في السجن.

في بدايات شهر ايار 1915م وصل الى نصيبين رجل تلكيفي قادما من أدنة ناوياً العودة الى بلدته، فحلَّ ضيفاً على راعي كنيسنا هناك القس حنا شوحا بضعة أيام متوقعا أن يلتقيَ ببعض أصحابه ليُرافقهم في طريق العودة الى تلكيف. وبينما كان يوماً خارجاً الى السوق ليُمضيَ بعض الوقت، فجلس عند عتبة باب حانوت شاب أرمني كاثوليكي مارديني الأصل يُدعى “فاهان فرنسيس برغوث” وفجأة لمحه شرطيٌّ فاعتقله، وأخذه الى القوميسير”مديرشرطة” ولماعلم القوميسير بأنَّه رجل غريب، وعرف اين يبيت ويتردَّد، أمر فوراً باستقدام الكاهن وصاحب الحانوت، وحال الإتيان بهما، القاهما والرجل الغريب في السجن مختلقا لكلٍّ منهم تهمة عقوبتها الموت. فوجَّه للتلكيفي الغريب تهمة الهروب، وللكاهن تهمة التستُّر على الهارب، وللحانوتي تهمة المُهرّب. وبعد مكوثهم في السجن لمدة اسبوع، نُقِلوا في 19/5/1915م الى ماردين وزجّوا في سجنها. ولما تمَّ إبلاغي بالخبر يقول المطران اودو: أرسلتُ إثنين من كهنتنا هما القس بولس بيرو والقس يوسف تفنكجي الى حِلمي بيك متصرِّف ماردين، ليلتمساه باسمنا للسماح للقس حنا شوحا بالمكوث عندنا وبكفالتنا لحين نقله الى آمد، إلا أن المتصرف رفض التماسنا، فلم يسعنا عمل شيء بشأنه. وبعد يومَين وفي منتصف نهار الأحد أُخرج الثلاثة من السجن وسُلِّموا لطغمة العسكر حيث طافوا بهم في الشارع الذي يتوسط المدينة وهم مقيَّدون بالحبال، وقد تجمَّع حولهم صبية المُسلمين يقرفونهم بوابل من المسبّات والشتائم، وهم يسيرون خلفهم حتى خروجهم من المدينة لم يسكتوا عن الإستهزاء والسخرية بهم. وكان يأمل البعض بأنَّ سراح الكاهن سيطلق بعد خروجهم من المدينة، إلا أنَّ ذلك الأمل قد خاب.

لم يُطاوع زوجَ أخت الكاهن المدعو يوسف مغزل قلبُه تركَ الكاهن شقيق زوجته وهو يراه مُهاناً ومعتدىً عليه من قبل العسكر، فتبعه عن بعدٍ حتى مدينة آمد ليرى ماذا سيكون مصيرُه. أما العسكر فقد قاموا اثناء الطريق بنزع ثياب الكاهن وأخذِها كغنيمة، وقبل بلوغهم بوّابة آمد، وإمعاناً في إهانته والإستهزاء به، قام العسكر بتلوين وجهه بسواد الفحم وتعليق جرس في رقبته من النوع الذي يُعلَّق في رقاب بغال القوافل، وبهذه الهيئة المُنافية لكُلِّ الأعراف أدخلوه ورفيقيه الى آمد في عِزِّ النهار، وطافوا بهم في شوارع المدينة بين هزء المتفرجين وضحكهم، وصُراخ عدد كبير من الصبية العديمي التهذيب، مُسمِعين هؤلاء البائسين سيلاً من الشتائم، مُذِرّين التراب عليهم الى جانب رَميهم بحمأة السواقي وغير ذلك من النجاسات حتى بلغوا بهم الساحة، ثمَّ ألقوهم في السجن المحشوِّ بالأرمن. وبقي يوسف صهر القس حنا شوحا في المدينة، كان يأخذ الطعام الى السجن للقس حنا صباحاً ومساءً، وفي اليوم الثالث ذهب كعادته الى السجن حاملاً الطعام، فاعتقلوه  واودعوه السجن، ولا نعلم ماذا كان مصيرُه ولا مصير القس حنا والرجل التلكيفي والحانوتيا لأرمني المسجونين معه، والمُرجح أنهم وضعوا في المجرشة التي جرشت الأرمن الذين كانوا قد زُجوا في السجن قبلهم.

ويواصل المطران اودو الحديث قائلاً: كانت مريم والدة القس حنا شوحا وشقيقاه عبدالكريم وسليم وشموني زوجة عبدالكريم يسكنون في نصيبين، وبعد إلقاء القبض على الكاهن بأيام عديدة، وهم ينتظرون بشوق وبفارغ الصبر سماع أخباره على مدار الأيام، وإذا بأعرابيٍّ يفاجئُهم بالدخول عليهم ليلاً، وكان هذا الأعرابي ومنذ زمن بعيد تربطه بهم صداقة حميمة، فقال لعبدالكريم وبصوتٍ خافتٍ: إستعِد حالاً أنت وأهل بيتك وأسرعوا بجمع ما لديكم من حاجات ومذخرات لآخذكم الى داري، فها هي الجِمال مُهيَّأة لترحل بكم، فلا تُبطئوا بل عجِّلوا للذهاب معي، إذ ما إن ينبلج الصبح حتى يُلقى القبضُ عليكم، ويقتلونكم جميعاً. فأجابه عبدالكريم: إنني أعمل جابياً لدى حاكم المدينة، وفي ذمتي جميع مستنداته، فإذا هربت أين سأحمي نفسي من شرِّه؟ أجابه الأعرابي: دع سجلاته وانجُ بنفسك وبأهل بيتك. ولما فشل الأعرابي بإقناعه، تركه وعاد الى بيته وقد أخذ منه الغضب والإنزعاج. وبالفعل فقد كان الأعرابي صادقاً في أقواله، فما إن انبلج صباح يوم الخامس عشر من حزيران 1915م، حتى داهم العسكر بيت عبدالكريم فأخذوه وأخاه سليم وضموهما الى بقية الرجال الكاثوليك المُلقى عليهم القبض قبلهما، وذهبوا بالجميع الى موضع يُدعى “خربة قورد” وتمَّ ذبحُهم جميعاً، ولم يبق حيّاً من مجموع أفراد ثلاثين بيتاً كلدانياً في نصيبين إلا أفراد بيتٍ واحد فقط ومن الأرمن أفراد بيتين لأنَّ البقية كانوا قد لاذوا بالهرب.

ويُضيف مار اودو: بعد هذه المذبحة فقد أرسل القتلة المُضطهِدون مَن يأتي ببقية أفراد العائلة المنكوبة، وفي مقدمتهم مريم والدة القس حنا شوحا وكنتها الشابة شموني إبنة ناظم افندي مدير بلدة أحباب الرجل الفاضل تقيِّ الله وأحد مشاهير الكلدان في آمد، ومعهما الطفلة الصغيرة إبنة صهرهم يوسف مغزل وهي في مطلع عامها الحادي عشر، وفي الطريق قتل العسكر مريم، وإذ كانت كنتها شموني شابة خيَّروها فيما لو أرادت أن لا تموت عليها أن تجحد دينها، ولكنَّ هذه البطلة المنورة من الروح القدس، رَدَّت عليهم بإباءٍ وسخرية: أفضل الموت مع حماتي على أن اجحد مُعتقدي، وأعيش بينكم أنتم برابرة العصر سفاكي دماء البشر الزكية. ولما لم تنفع معها كُلُّ ملاطفاتهم المشوبة بتهديداتهم، أقدموا على ذبحها وتقطيع جسدها الغظ بالسكاكين والخناجر بطريقة وحشية ورموا جثتها على قارعة الطريق. واحتفظ القتلة بالطفلة الصغيرة وجاءوا بها الى المدينة، وبعد حين رأتها “ملكه” والدتُها، فافتدتها وأتت بها إلينا، وتوثيقنا لهذه الأحداث هو نقلاً عنها. ولم تمضِ إلا فترة حتى قدم القتلة الى المدينة جالبين فرس عبدالكريم وسلَّموها لأخته ملكه الآنفة الذكر مع بعض الأثاث والمقتنيات، ولكنَّ الأمر المُستغرب جداً، تُرى، لماذا لم يقتسم القتلة تلك الأثاث والمقتنيات بينهم، في الوقت الذي لم يكن هنالك مَن يُطالبهم بها، أليس ذلك ما يدعو الى العجب؟

العصابة المجرمة من المسؤولين العثمانيين القتلة التي أجرمت بحق مسبحيي نصيبين  والقرى المجاورة لها، كانت تتألف من رفيق افندي بن نظام الدين وقداور بيك بن علي بيك وسليمان افندي مجر، وثلاثتُهم من وجهاء ماردين الغارقين تزمُّتاً بلإسلام الحاقدين على المسيحيين، أبدى لهم المُساعدة في تفيذ أفعالهم الإجرامية الحاج ابراهيم رئيس الحصن وشاكر بيك والحاج كوزي أحد رؤساء ماردين، قام هؤلاء في منتصف حزيران 1915م بتوجيه رجالهم لجمع جميع الرجال المسيحيين وإلقائهم في السجن، واستثنوا منهم اليعاقبة حيث أطلقوا سراحهم. في 28 حزيران تمَّ جمع النساء والأطفال وحُجروا في هيكل دير مار يعقوب اسقفها الأول الشهير ((  إنَّ هذا الدير يعود للكلدان استولى عليه اليعاقبة المونوفيزيون عن طريق رشوهم للمسؤولين الأتراك بمبالغ طائلة،  فانتزعوه من الكلدان وسلَّموه إليهم، وقد أشار الى ذلك البطريرك مار يوسف السادس اودو برسالته الموجهة الى مطران الجزيرة الكلداني بولس هندي في الرابع من أيار 1866م، يحثُّه ومطارنة الكلدان الآخرين في تركيا للتفاوض مع اليعاقبة المونوفيزيين لإسترداد ملكيته، وهذا هو ديدن اليعاقبة المونوفيزيين في ايقاعهم بالكلدان واستيلائهم على كنائسهم وأديرتهم منذ عهد الفرس الساسانيين)) وبعد ذلك قدم العسكرُ ففرزوا الأطفال عن امهاتهم اللائي أُخِذن الى حيث ذُبِح أزواجهنَّ وذُبِحن كما تُذبَح النعاج، فاختلطت دماؤهن بداء أزواجهنَّ الداهرة. أما الأطفال فنقلوا الى ميدان سباق الخيل وهم مربوطون بالحبال وطرحوا أرضاً، جاعلين منهم مَداساً لحوافر الخيل، حيث تسابقت في تفتيت أجسادهم الغظة التي تَمَّ إحراقها بعد ذلك.

وبعد الإنتهاء من تصفية مسيحيي نصيبين رجالاً ونساءً وصبية وأطفالاً، استدعت الهيئات العليا المسؤولين عن تلك المذابح الذين أتينا على ذِكر أسمائهم آنفاً، وأمروهم بتمشيط قرى الأشيثييين القائمة بغالبيتها على سفح جبل الإيزل بهدف القضاء على ساكنيها اليعاقبة المونوفيزيين المتكلمين باللغة السوادية، وقد علم بالمكيدة المدبرة ضِدَّهم سكان قريتين أو ثلاث قرى، فلاذوا بالفرار صوب البرية حيث سنحت لهم فرصة للنجاة، أما سكان بقية القرى فقد سُلبت كافة ممتلكاتهم من قبل المجرم  سليمان افندي مَجَر احد أعضاء عصابة القتل المار ذِكرُهم قبل أن ينالهم سيف الإضطهاد، حيث خرج وتجوَّل في تلك القرى متظاهراً بأنَّه مسيحي ويسعى الى إنقاذهم من الخطر، فانخدعوا بمظهره وكانوا من السذاجة والبساطة بحيث لم يبخلوا عليه بإغداعهم عليه مقتنياتهم  وحتى مصوغات نسائهم، وما زادهم الوثوق به هو تحدُّثه معهم بلغتهم وبين حين وحين يرسم علامة الصليب على وجهه بطريقتهم، بالإضافة الى عدد الأوشمة المختومة على ذراعيه التي أوحت لهم بأنه مقدسي أي أحد زوّار الأراضي المقدسة. وبعد انطلاء حيلته الخبيثة عليهم واستيلائه على كُلِّ ما يملكونه من ذهبٍ ومقتنيات، قفل راجعاً مصحوباً بقردو بيك والعديد من الرجال الكُرد والعرب، ولم يلبثوا أن أوقعوا بأولئك المساكين البسطاء فتعرَّضوا لمذبحةٍ دموية كبيرة، أودت بحياة معظمهم عن طريق الذبح وإلقاء جثثهم في العراء طعاماً لوحوش البَر ولكواسر الطيور.

يقول المؤلف مار اودو، بأنه كتب ما تقدَّم ذِكرُه نقلاً عن لسان الياس ماراني الأرمني الكاثوليكي، الذي استمع الى روايته ودوَّنها بأمانة. إنَّ الياس هذا كان قد سبق وأن اعتُقِل ثلاث مرّات وامتثل أمام المحكمة العسكرية في آمد “دياربكر” وفي الآخر، تحرَّرَ من السجن وعاد سالماً الى داره في نصيبين. أما لماذا لم يُستثنى يعاقبة ضواحي نصيبين من سيف القتلة على غِرار تخلُّص يعاقبة نصيبين، فكان أنَّ اهل القرى لم يجحدوا دينهم المسيحي ولم يعترفوا بمحمد نبياً كما فعل الماردينيون اليعاقبة، ولذلك تعرَّض الكثير منهم للقتل بالإضافة الى نهب وسلب أموالهم وممتلكاتهم.

وبالنسبة الى مدينة دارا، فلم يتعدَّ ساكنوها على اثنتَي عشرة عائلة مسيحية وكُلُّها من طائفة الأرمن الكاثوليك، أما بقية السكان فكانوا أكراداً، ففي العاشر من حزيران 1915م، قام أكراد دارا باقتياد أبناء مدينتهم من الأرمن الى خارج المدينة، وذبحوهم جميعهم، رجالاً ونساءً وأطفالاً ورموا جثثهم في الجب.

مقتل مسيحيي مدينة ميدِيات وضواحيها

في الصفحات (84 – 88) من كتابه الآنف الذكر في بداية هذه الحلقات، يستمرُّ المطران الكلداني اسرائيل اودو التحدُّث حول اضطهاد مسيحيي ميدِيات المدينة القابعة في صدر جبل طورعبدين، تقع الى شمال شرقيِّ ماردين على مسافة مسيرة يومَين منها. غالبية سكانها من اليعاقبة المونوفيزيين، يتكلمون لهجة سوادية، ويتعدى عددُ دورهم الألف والمِئتَين، ثمانون بيتاً من ساكني القرى المجاورة انفصلوا عنهم بعد نبذهم لمذهبهم المونوفيزي وتحوُّلهم الى المذهب البروتستانتي، أما عدد الكلدان الساكنين فيها فكان ثلاثمائة فردٍ، الى جانب عددٍ قليل من الأرمن الكاثوليك والسريان الكاثوليك.

يقول مار اودو، ولحاجة أبناء الكلدان المُقيمين في ميدِيات، لبَّينا طلبهم  وأرسلتُ لهم في صيف عام 1910م الكاهن  القس كوركيس بن يوسف عبدالأحد من آل بهلوان، كنتُ قد رسته حديثاً، ليُقدِّم لهم الخدمات الروحية وكذلك  لأفراد البيوت السبعة  الكلدانية مُضافاً إليها ثلاثة بيوت يسكنها يعاقبة مونوفيزيون، يعيشون جميعاً  مع  المجتمع الكردي في “كفر جوز” المكوَّن من 500 بيت، والقرية المذكورة هي قرية كبيرة تقع الى الشمال من ميدِيات، وقد قام بخدمتهم بكُلِّ غيرة وهمة، وقد لبّى مطلبنا بتأسيسه مدرسة في ميدِيات متكفلين نحن بنفقتها، احتوت اكثر من  اربعين طفلاً من الأطفال المُشرَّدين في الشوارع. وقد ابدى اليعاقبة رغبتهم في إرسال  أولادهم للدراسة فيها، إلا أنَّ ضيق المدرسة حال دون تحقيق رغبتهم. واستمرَّ ت  هذه المدرسة في تعليم الأطفال وتثقيفهم حتى بداية شهر حزيران 1915م الذي فيه إتَّقدت شرارة نار الإضطهاد، وفيما كانت في ماردين  يُرحَّل المسيحيون بقوافل متعاقبة، تسرَّبت إلينا أخبار متضاربة من ميدِيات، تُفيد بأنَّ قائمقام ميدِيات قد أصابته عدوى الإعتداء، فقام  باعتقال أكثر من مئة رجل كلداني وبروتستانتي وأرمني وسرياني كاثوليكي، وزجَّهم في السجن، وفي نهاية  حزيران  سيقوا جميعا الى خارج ميدِيات وقتِلوا.

وبعد ذلك دارت الدائرة على اليعاقبة المونوفيزيين، فطالبهم القائمقام بدري بوجوب قيامهم بتسليم كُلِّ ما بحوزتهم من الأسلحة، وكان ذلك كإجراءٍ تمهيدي للقضاء عليهم، فوقع الطلب عليهم وقع الصاعقة، حيث كانوا يعتقدون بأن القتل لا يشملهم، لكنهم الآن ايقنوا بأنَّ الخطر قد داهمهم، فاعتصموا في دورهم، وإذ بلغ القائمقام عدم امتثالهم لأمره بتسليم اسلحتهم، عزم على استخدام القوة ضِدَّهم، فاستدعى حنا اوسي أحد مشاهير يعاقبة ماردين الذي كان قد نظم عريضة الإسترحام  بحق يعاقبة ماردين الذين سُجنوا على غِرار مسيحيي الطوائف الأخرى،  مستغيثاً بنبي الإسلام الذي وصفه بالعظيم، فأشفقوا عليهم وأطلقوا سراحهم ( انظر في الصفحة 38 من كتاب المؤلف). ولدى مثول حنا اوسي أمام بدري القائمقام، أوفده الأخيرالى يعاقبة ميدِيات ليُقنعهم بتسليم أسلحتهم للسلطة، ولكنَّ مسعاه باء بالفشل.

وعلى إثر ذلك أرسل القائمقام  واستدعى كُلَّ رؤساء العشائر الكُردية القاطنة في ذلك الجبل، وطلب منهم مُهاجمة جميع يعاقبة ميدِيات وقتلهم لعدم انصياعهم لأوامر السلطات، ولما أحسَّ اليعاقبة بأنَّ الشرَّ قد غدا قاب قوسين منهم،  لم يضيِّع الكثير منهم الفرصة السانحة فعمدوا الى الهروب الى قريتي “بعيوندار وأنحل” الواقعتين كُلُّ منهما على أحد مُرتفعات طورعبدين واللتين يسكنهما اليعاقبة . أما القس الكلداني كوركيس يوسف بهلوان والبقية الناجية من جماعته الكلدانية فقد التجأوا الى قرية انحل وأقاموا فيها مدة سنتين. والذين لم يتمكنوا من الهرب لإنقاذ انفسهم فقد ظلوا داخل بيوتهم.

وفي منتصف تموز 1915م أحاطت القوات النظامية العثمانية بمدينة ميدِيات مدعومة بمزيج  من أبناء العشائر الكردية الحاقدة، وبدأت بفتح نيران أسلحتها على أهالي ميدِيات، وقابلها اليعاقبة المحاصرون في دورهم بنيران اسلحتهم دفاعاً عن النفس، لكنَّهم لم يصمدوا أكثر من اسبوع بسبب رجاحة كفة المهاجمين عدداً وسلاحاً، فاندحر اولئك المُدافعون الأبطال بعد أن قاوموا الأشرار حتى الرمق الأخير، فلما اطمأنَّ القتلة لصمت أصوات العيارات النارية المتجهة نحوهم من الداخل، هبوا ووثبوا على البيوت وأخرجوا جثث الشهداء سحلاً ورموها خارجاً، ثم أشعلوا النار فيها وأحرقوها. وكرّوا راجعين  الى البيوت لنهب محتوياتها  وتمشيط سراديبها بحثاً عن اللاجئين إليها من النساء والشيوخ والأطفال، فأخرجوهم وأبعدوهم عن المدينة وذبحوهم جميعاً باستثناء الرضع. وتعرَّضَ يعاقبة قرى طورعبدين “حصن كيفا، مَعصَرتا، قَلَّت، بافدا، باني، دير العمر، دير الصليب، قسبرينا وكربوران وغيرها.

< يروي صاحب كتاب (جراحات في تاريخ السريان ص94 – 108) عن كبر وسعة قرية كربوران  حيث يقول: كان غالبية سكانها من اليعاقبة المونوفيزيين ويُقَدَّر عددُ  دور ساكنيها بنحو 700، بينها خمسة بيوت تعود لمسيحيين كاثوليك، ونحو عشرين بيتاً للبروتستانت، وحوالي خمسين بيتاً للأكراد المتحدِّرين من خلفية مسيحية. كان لليعاقبة المونوفيزيين المسمين اليوم بـ”السريان الأرثوذكس” في هذه القرية مطران وسبعة كهنة. وجرت إبادة أهلها على النحو التالي  وباختصار شديد: صادف يوم عيد الدنح المقدس عندما طلب مصطفى أغا كربوران أن يقوم كُلُّ بيت من بيوت القرية بتموينه بحِملٍ من الحطب لتدفئة داره، وبسبب العيد أجَّل المطران تلبية طلبه الى اليوم التالي، فاغتاظ الأغا ولا سيما حين نقل إليه رُسُله كلاماً مُلفقاً لم ينطق به المطران، فنوى الأغا الإنتقام من أهالي القرية ومطرانهافي أقرب فرصةٍ سانحة، وجاءَته الفرصة أيام الحرب، فأمر بتحويل مجرى الماءعن القرية  الذي كان مصدر شرب أهاليها الوحيد، ولم تمُرَّ على هذا العمل الشنيع إلا ثلاثة أيام حتى قام بمهاجمة القرية فسيطر عليها وشرع بحرق بيوتها، وطالب بتسليم المطران، فخرج المطران بحسب قول شاهد عيان  يزأر بوجه الأغا يلعن دينه ومَن يتبعه، وللحال أمر الأغا عبيده أن يأخذوه الى السطح ثم يُلقوه الى الأسفل، فمات المطران  وتعرَّضَ الأهالي الى مجزرةٍ رهيبة>.

ويستطرد المطران اودو قائلاً: سألت يوماً مار كوركيس هندي الوكيل البطريركي لليعاقبة آنذاك، عن عدد القتلى من أبناء طائفته، فأجابني: سبعون الف نسمة!  إلا أنَّ الرقم مُبالغ فيه كثيراً، إذ إنَّ إجمالي عدد اليعاقبة في سوريا ومنطقة ما بين النهرين ، كان دون هذا الرقم. وللحقيقة التاريخية نقول: بأنَّ عدد قتلى اليعاقبة لم يتجاوز العشرة آلاف نفس في كُلٍّ من طورعبدين وضواحي ماردين.

مجزرة قرية كفر جوز  

كانت قرية كفر جوز قرية عامرة، غالبية سكانها أكراد يُقدَّرُ عددُ بيوتهم ب”500 بيت” بينها عشرة دور للمسيحيين، تعود سبعة منها للكلدان وثلاثة لليعاقبة، كان يُديرها المارديني “جلال رومي بن حسن المتولي ” وقد أثبت أنَّه كان أحد سفاحي الإضطهاد الظالم الذي تعرَّضَ له مسيحيو تركيا سكان البلاد الأصليون على أيدي الغزاة الموغلين بارتكاب القتل والإجرام. فعلى يد هذا المجرم السفاح جرت مجزرة ذبح هذا القطيع المسيحي الصغير والبريء المتجذر في كفر جوز منذ زمن سحيق، حيث أمر في العشرين من تموز 1915م بتجميع أفراد البيوت المسيحية عنده وكأنهم خراف مُعدّون للذبح. وإذ علم اولئك  الأتقياء الأبرياء الغاية من جمعهم، أخذوا يُشجعون واحدهم الآخر قائلين: ” فلنمُت من أجل المسيح الذي مات من أجلنا ” فهبَّ شابٌّ من بين ذلك الجمع ورفع صوته عالياً وهو يقول: أنا حَمَل المسيح! فلما سمع المجرم جلال رومي هذا الكلام، قال: مَن هو هذا المتجاهر بتسمية نفسه “حمل المسيح”؟ فقام الشاب واقترب من جلال قائلاً له: أنا هو. فأخذ الغضب من المجرم جلال مأخذه من جرأة الشاب! فسحب مُسدَّسَه وصوَّبه نحو الشاب الماثل أمامه، فما كان من الشاب إلا الكشف عن صدره متحدياً مُهدِّدَه وقائلاً: إضرب حَمَلَ المسيح ولا تتردَّد. فازداد المجرم جلال غيظاً وأطلق النار على الشاب فأرداه قتيلاً، فسقط أمام إخوته مضرَّجاً بدمائه الطاهرة وهي تتفجر كتفجر مياه النبع، وطلب الجاني بإخراج هذا الشهيد الذي كان الأول بين هذا القطيع الصغير  بالظفر باكليل الشهادة.

أما بقية أفراد القطيع رجالاً ونساءً وأطفالاً من غير الذين تمكنوا من الهرب في ليلةٍ سابقة، فقد اقتادهم القتلة الى خارج القرية، وبعد أن ساروا بهم مسيرة ساعةٍ واحدة ، وقبل أن يُجهزوا عليهم بالسيوف والسكاكين خيَّروهم بين نبذ دينهم والتحول الى الإسلام، ولكن لم يكن هناك من استجاب لرغبة السفاحين أعداء الإنسانية  المُخادعين المتعطشين الى سفك دماء الأبرياء فذبحوهم جميعاً. والعدد الإجمالي للذين قتلوا من جماعتنا الكلدان في ميدِيات وكفر جوز وباني “50 فرداً”.   أما مصير المُجرم جلال رومي، فقد فُصل من وظيفته، وصار منبوذاً وراح يتسوَّل في الشوارع منذ الصباح حتى المساء، وبالكاد يحصل على ما يسد به رمقه من فتاة الخبز، فأخذ العذاب ينخر جسده فنحل  وذبُل من الجوع، فمات وهلك، وهكذا فإن الجالس في العلاء يُهل ولا يُهمل. والى الحلقة السادسة قريباً

الشماس د. كوركيس مردو

في 20/6/2015

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *