اضطهاد الكلدان والسريان بشقّيهم قبل مئة عام / الحلقة الرابعة

 

 فرارالمسيحيين الى سنجار بسبب مضايقات الشركس

مَن هم الشركس؟ <إنَّهم أحد الأقوام القوقازية يسكنون مناطق من روسيا ويدينون بالإسلام، طردتهم الدولة الروسية لقيامهم بإثارة الإضطرابات والنعرات الدينية، فالتجأوا الى الدولة العثمانية الإسلامية المتزمتة، فأسكنتهم في المناطق المُفرغة من المسيحيين ومنها قرية صفح القريبة من رأس العين. وسخرتهم للإنتقام من المسيحيين اهل البلاد الأصليين، مُعطية لهم المجال لإرتكاب افظع الجرائم بحقهم، والكثيرون منهم لم يستقروا في تركيا، فارتحلوا الى مناطق في الشام والأردن>.

في صفحات كتابه (66 – 70) يروي المطران الكلداني مار اسرائيل اودو: بأنَّ جماعة شركسية مطرودة من روسيا لإثارتها القلاقل والإضطرابات التجأت الى الدولة العثمانية وسكنت قرية “صفح” القريبة من بلدة رأس العين، وعلى غِرار الإضطهاد الذي مارسه الأكراد ضِدَّ المسيحيين، مارسه الشركس أيضاً حيث قاموا بطردهم وإلحاق أفدح الأضرار بهم بتحريض من مُحتضنيهم الأتراك. ولكنَّ وضعهم العِدائي تجاه المسيحيين تحوَّل الى إخاء وتعاون متبادل، ومردُّ ذلك ليس حباً بالمسيحيين، وإنما سعياً للثراء من وراء تهريبهم للعوائل والأفراد المسيحيين المُختبئين خوفاً من الإضطهاد والقتل المُعلنان عليهم من حكام تركيا الجُدُد الطغاة. فهؤلاء الشركس انتحلوا صفة التجار، وبهذه الصفة استطاعوا تهريب أفراد العوائل المسيحية خفية الى سنجار لقاء أجر يتراوح بين عشرة وعشرين ليرة ذهبية لكُلِّ فرد. وكان الإتفاق يتناسب مع إمكانية العائلة بحسب عدد أفرادها، وبهذه الوسيلة أنقذ الرجال الشركس المسيحيين من مخاطرالخوف والفزع والرعب التي كانت تُحيط بهم، واعتبر المسيحيون عملهم إنسانياً جليلاً. بلغ عددُ الذين تمَّ تهريبُهم الى جبل سنجار الواقع بين الموصل ونصيبين ما يربو على المِئتي فرد. وجبل سنجار يسكنه اليزيديون ويبلغ عدد قراهم فيه اكثر من 45 قرية. وضع الهاربون أمرَ حمايتهم بعهدة الشيخ “حمو شرو” أحد شيوخ اليزيدية، فأعطاهم عهداً بذلك وبقي أميناً لعهده حتى وفاته. ومن حيث تقديم الخدمة الروحية لهم، فقد كان يؤديها القس يوسف تفنكجي، الذي استطاع اللحاق بهم  بعد فترة من وصولهم هناك. ولكن هؤلاء الهاربين من جحيم الظالمين، المَّ بهم في خريف سنة وصولهم 1915م الى جبل سنجار مرض قاتل عُرف بمرض “الرعشة” فقضى على ما يُقارب العشرين منهم.

في صيف عام 1916م تضاعف إجلاء المسيحيين من قيليقيا، حيث بلغ عددُ المُرحَّلين الى منطقة دير الزور والشدادي للسكن فيها ما يُناهز السبعين الف فرد منفي، وبادر العرب الى إنقاذ حياة عددٍ كبير من النساء اللواتي كُنَّ قد تخلَّفنَ عن زميلاتهنَّ المنفيات الأخريات نتيجة ما أصابهنَّ من تعب وإرهاق، فجأوا بهنَّ الى جبل سنجار، وسلَّموهنَّ للمنفيين المُقيمين هناك وكان عددُهنَّ أكثر من ثلاثمِئة منفية وهنَّ ذابلات السحنات، هزيلات الأبدان، منهوكات القِوى، فقامت المجموعة النسائية الأولى من زميلاتهن بالإهتمام بهنَّ، مُوفِّرنَ لهنَّ الطعام والكثير مِمّا يحتجن إليه للحفاظ على حياتهنَّ بعد مُعاناتهنَّ تلك المصائب الصعبة.

ومن الجدير أن نُدوِّن إحدى أهم المصائب التي كادت تؤدي الى القضاء على هؤلاء المسيحيين وهم في منفاهم بجبل سنجار وفي حماية الشيخ اليزيدي الشهم “حموشرو” فنوجزها بما يلي: لقد أرسلت الزمرة الجديدة والمتزمتة الحاكمة في تركيا قوة قوامها ثلاثة أفواج عسكرية اتخذت مواقعها في سفح جبل سنجار، وبادر قائدها الى إرسال رسالة تهديدية الى الشيخ “حمو شرو” قائلاً له: <أرسل لي جميع المسيحيين المُحتمين بك وكُلَّ ما بحوزتهم من الأسلحة، وإن لم تنفِّذ الأمر، سأقوم باقتحام موطنك وأجعله خراباً وأحرق قراك كُلَّها> فردَّ الشيخ شرو على القئد قائلاً: < عهداً قطعتُ للمسيحيين المضطهدين الذين قصدوا اللجوء الى جبلنا بأن أحافظ عليهم جميعاً، فلن انكث بعهدي هذا، وأُقسِمُ باسكيمي هذا بأنني لن أسلِّم حتى واحداً منهم> ( لدى اليزيديين جماعة شبيهة بالرهبان عند المسيحيين، تُطلق على نفسها “الفقراء” يرتدون اسكيماً ذا زيق دائري مطعماً بالسواد أو مائلاً الى السواد، يصل طولُه حتى الركبتين، ويكون موشحاً من الأعلى بقطعة قماش يُسمّونها “العتيقة” وبهذا الإسكيم يحلفون أغلظ الإيمان، ولا ينزعونه حتى يبلى تماماً، ولدى موت صاحبه يجُعَلُ كفناً له، حيث يُكفن به ويُدفن). وكان الشيخ “حمو شرو” من أتباع تلك الجماعة.

إنَّ ما اتصف به هذا الشيخ من عزة النفس وسموِّ الأخلاق وما أبداه من المحبة تجاه المسيحيين المُضطهدين في تلك الفترة العصيبة من الزمن الرديء، ليقف اللسان والقلم عاجزَين عن وصفها. فقد وضع نفسه في خطر، وتحمَّل جُرماً فرض عليه من أجل الحفاظ على حياة اولئك اللاجئين العُزَّل. لقد حاول هذا الرجل الصالح مُجابهة اقسى العتاة في العالَم المُسلمين الذين يدَّعون عبادة الله “الأوحد” ويقومون بمنتهى الوحشية الخالية من أدنى القيم الإنسانية بالقضاء على مواطنيهم المُسالمين المسيحيين (ابناء البلد الأصليين) بمُختلف فئاتهم وأجناسهم، رجالاً ونساءً وشباباً وأطفالاً وحتى الرضع منهم، وبكُلِّ صلافةٍ ووقاحة يُحاولون تبرئة أنفسهم من افعالهم الشنيعة التي اتسمت بالسفالة! أليس ادِّعاؤهم عبادة الله نفاقاً في الوقت الذي يقومون بارتكاب افظع الجرائم من قتل وسلب ونهب دون أدنى رحمة وشفقة؟

لقد أقرن الشيخ “حمو شرو” قسمَه اليمين بالفعل، حيث حمل السلاح هو وأبناء عشيرته، وبالرغم من قلة عددهم قياساً الى القوات التركية المُعتدية، فقد عقدوا العزم على مُجابهة الظالمين، ونزلوا لقتال الأتراك وفي سن الفيل نصبوا لهم كميناً، حيث كانت القوات التركية مُزمعة أن تمر. ولما رأى الشيخ بأن القوات التركية المُهاجمة أقوى تسليحاً وأكثرعدداً بما لا يُقارن مع عدد جماعته، وأنَّ مقاومتهم لها لن تصمد طويلاً، رغم إنزالهم خسائر كبيرة بها، قرَّر الإنسحاب هو وجماعته والعودة الى قريتهم. ثمَّ اجتمع بالمسيحيين الذين تحت حمايته وقال لهم: أحبائي، اسرعوا بالخروج، فإنَّ قوات الشر قادمة، ولن يكون بإمكاني توفير الحماية لكم كما وعدتكم، بسبب عدم قدرتنا على هزيمة الأتراك. فنزل كلامُه كالصاعقة على مسامعهم، ووقع الرعب والفزع في قلوبهم، فبادروا الى الفرار تاركين كُلَّ شيء  متوجهين الى الناحية الشمالية من الجبل. وكانت القوات العثمانية تواصل تقدمها وقد سيطرت على نيربا دون أن تلقى مقاومة جادة، ثمَّ صعدت الى الجبل واستولت على قرية الشيخ “حمو شرو” فسلبوها ثمَّ أحرقوها. ونزلت قوات الشر التركية الى سفح الجبل ثانية متفادية انتقام اليزيديين. أما المسيحيون فقد تبدَّدوا وتبعثر شملُهم بين العرب، فمنهم مَن اخذهم بعض الأعراب الى بغداد لقاء أجر قدره ثلاث ليرات ذهبٍ للشخص الواحد، وآخرون عادوا الى نصيبين. وبعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، عاد السواد الأعظم منهم الى دورهم في ماردين وذلك في نهايات خريف عام 1918م.

يقول المؤلف مار اسرائيل اودو، بأنَّ روايته لهذا الحدث دوَّنها عن لسان العائدين الى ماردين الذين اضطروا للهروب الى جبل سنجار من جرّاء معاناتهم المُرة التي أذاقهم إياها الأتراك غزاة بلدهم ومغتصبوه العتاة الظالمون، وأذكر البعض منهم على سبيل المثال فقط: الياس شوحا، هرمزد تمرز، جرجيس حنكو، حبيب مالويان، فرجو كسبو والقس يوسف تفنكجي وعدد كبير غيرهم، أقوالهم صادقة لأنهم شهود عيان، ولم ينطقوا إلا بالحقيقة.

مجموعات نسائية من ارضروم ومدنها وضواحيها

يروي المطران ماراسرائيل اودو في كتابه (اضطهاد المسيحيين… ص 71 – 76) بأن قافلة كبيرة جداً من النساء يُناهز عددُهنَّ العشرة آلاف إمرأة عدا الفتيان والصبايا والأطفال والرضع والشيوخ والعجزة، وصلت الى ماردين يوم الأحد الرابع من تموز 1915م. أنزل هؤلاء المسيحيون المضطهَدون في موضع يقع الى الغرب من ماردين يُدعى “نبع عمر أغا”.  في بداية ترحيل هذه المجموعة عن موطنها، كان عددُ أفرادها يتجاوز الخمسين ألفاً كما قيل لنا. إلا أنَّ عدد هم أخذ بالإنحسار أثناء رحيلهم حتى بلوغهم مشارف ماردين. وسببُ هذا الإنحسار كان الخطف الذي تعرَّضَ له عددٌ كبير جداً من النساء الشابات والصبايا الحسناوات، وما لاقاه الكبار والصغار من الشقاء والتعب المُضني حيث أودى بحياة الكثير منهم للموت، وما إن عَلِم الماردينيون المُسلمون بوصول هذه المجموعة حتى خرجوا بمختلف فئاتهم ومشاربهم، اغنياؤهم وفقراؤهم، رجالهم ونساؤهم وحتى مسؤولي ماردين الحكوميين، لم يكن خروجُهم للسخرية والشماتة والتلذذ بمشاهدة منظر تلك البائسات المرذولات المُقبلات على الموت المحتوم والمُهين فحسب، بل للخطف والسلب والإستحواذ على كُلِّ ما يروق لهم من كسوة وملابس ونقود ومجوهرات إن وجدت ولم تُنهب من قبل مُضطهديهم لدى إلقائهم القبض عليهم. فهجموا كالذئاب المسعورة على خراف الحظيرة، متوغلين بين صفوف ذلك الحشد من المُرَحَّلات، وكُل يختار ما يحلو له دون رادع أو خوف، فمنهم مَن خطف صبايا وبنات جميلات، وآخرون استحوذوا على  نساء ماجدات ينتمَينَ لأُسر وعائلات كريمة ذات نسبٍ ومشهورة، ولكن الخطف جرى بنوع خاص للشابات الحسناوات الوقورات. فكان ذلك غزواً اسلامياً  لم يُكبِّد الغزاة جهداً أو عناءً، حيث عادوا بغنائمهم فرحين الى دورهم، وكأنهم قد امتلكوا كنوز الدنيا.

وفي الآخر شرع العسكر بفرز تلك المجموعة المنكودة المُعَدَّة للذبح الى مجموعات أصغر وبمُعدَّل الف فردٍ لكُلٍّ منها، ثمَّ يسوقون مجموعة بعد اخرى نحو الكهوف والمغاور القريبة والبعض منهنَّ الى الأجباب والشعاب، فيذبحونهنَّ ويرمون بجثثهنَّ فيها. لم يكن للتذمُّر إليهنَّ سبيل، ولا للضجر والمَلَل دليل، بل إنَّ ألسنتهنَّ باسم المسيح كانت تنطق ولا تمَلُّ، وهذا ما اعترف به العديد من من السفاحين الذين بهنَّ الذبحَ انزلوا. لقد احمَرَّ تراب الجهة الغربية من ماردين لإرتوائه بالدم الطاهر المسفوك من رقاب الأطفال والشيوخ والرجال والنساء العفيفات، واكتظت الكهوف والمغاور والأجباب والشعاب بأكداسٍ من الجثث العارية المُعرَّضة للشمس، لصبايا عذارى ونسوة مؤمنة ومُحبة للمسيح الفادي اللواتي تقبَّلن الموت بسرور وفرح، وهنَّ يُقبلن على فصل رؤوسهن عن اجسادهن بسيوف جلاديهن. أما مَن تبقى من أفراد ذلك الحشد، فقد اقتادهم العسكر الى دير مارافرام للسريان الكاثوليك، وتمَّ حشرُهم في باحات الدير، وكانوا في حالة سيئة قد أخذ منهم الجوع والعطش مأخذه، فانبرى مسيحيو ماردين الى مؤاساتهم مقدمين لهم الطعام والشراب، ومخففين عنهم بعضاً من آلامهم ومعاناتهم ولو لحين.

ولم يبقوا في الدير إلا يومين حيث أخرجوهم في منتصف نهار كانت حرارة الشمس فيه على أشدِّها، واقتادوهم الى قرية غارس أو”غوس” التي تقع الى الغرب من ماردين بمسافة ثلاث ساعات سيراً على الأقدام، وفي تلك المنطقة قضوا عليهم جميعا، ورموا جثثهم في المغاور والشعاب والأخاديد. وحيث إن الكثيرات من النسوة اللواتي كان المادينيون قد خطفوهنَّ واخذوهنَّ الى دورهم، جاءَنا البعضُ منهنَّ وروينَ لنا كيف تمَّ تهجيرهنَّ من مناطق أرضروم وترحيلهنَّ وكيف ظهر القنصل الألماني بين صفوف القتلة العثمانيين، وكما دونّا المرحلة فيما سبق،(ولم يُخفِ الأب يعقوب ريتوري في كتابه (مسيحيون بين أنياب الوحوش) اتهامه للألمان مراراً عِدة، بأنَّ دورهم في دفع العثمانيين الأتراك الى اقتراف جرائم الإبادة الجماعية ضِدَّ الأرمن والمسيحيين الكلدان بشطريهم الكاثوليك والنساطرة والسريان الآراميين بشقيهم الكاثوليك والمونوفيزيين كان قذراً جداً) وممّا فات علينا تدوينه، أعلمتنا به النسوة المسبيات من قبل الماردينيين حيث قلنا لنا: وعندما وصلنا الى تخوم ولاية آمد”دياربكر” وجدنا ذواتنا وكأننا أدخِلنا في كور الإختبار، حيث تمَّ سلبُ مقتنياتنا وخطف أطفالنا واغتصاب العديد منا وقتلهنَّ، ولما حطَّت قافلتُنا في بطاح إحدى القرى التابعة لتلك الولاية، هجمت علينا امرأة شرسة جداً واخترقت صفوفنا، وكلبوءة جائعة افترست سبعَ نساء منا خنقاً، وخرجت وهي مُتبجحة بعملها الوحشي وفرحة بالفرصة التي سنحت لها لفعل ذلك!

المجموعات النسوية الأربع

ويسترسل المطران اودو بالحديث في (الصفحة 74 – 76) من كتابه المؤمأ إليه بأنَّ مجاميع نسوية من آمد “دياربكر” أخذت تتدفق الى ماردين في الخامس عشر من تموز 1915م وقد حُشرنَ في عرباتٍ مع أبنائهنَّ، وما إن وصلنَ قرب المدينة، حتى هبَّ مُسلمو مدينة ماردين وأحاطوا بهنَّ ناوين سلبهنَّ وخطفهنَّ كما اعتادوا، الى جانب قيام البعض منهم بأعمال مشينة تدفعهم إليها أهواؤهم الشريرة. ولم يلبث مقتادو المجموعة القتلة أن أدخلوها الى الكنيسة بُرهة من الزمن، ليس لنيل قسطٍ من الراحة بسبب ما عانته أثناء الطريق، وإنما انتظاراً لوصول المزيد من القتلة والسفاكين للإنضمام إليهم في تنفيذ مهمة إراقة فيضٍ آخر من دماء تلك النساء العفيفات والصبايا والبنات العذارى الطاهرات. فقاموا بفرز ذلك الحشد النسائي الكبير الى مجموعات حيث اقتيد بعضهنَّ الى دارا، والبعض الآخر الى ويرانشهر، والباقي منهنَّ سيق الى رأس العين، وتمَّ ذبحهنَّ جميعاً ولم تنجُ حتى واحدة منهنَّ!

المجموعة الأولى

كان للقس سليمان كوجك اوسطا أحد كهنتنا الكلدان الآمدي الأصل شقيقٌ واحدٌ ووالدة عجوز، وإذ كان محجوزاً ضمن هذه المجموعة، استطاع بطريقةٍ ما الخروج من الكنيسة والقدوم إلينا. وبناءً الى طلبه قدَّمنا للمتصرف استرحاماً بشأن إطلاق سراحه وسراح عائلته، متشفعين بالأمر الصادر من الجهات العليا القاضي بعدم التعرُض لأيٍّ من أبناء الطوائف المسيحية غير الأرمنية، إلا أنَّ المتصرِّف رفض الطلب مُدَّعياً بوجوب تقديم الطلب الى الدكتور رشيد الذي أرسلهم الى ماردين. وفي ذات الليلة سيقوا الى دارا وذبِحوا ضمن المجموعة، أما ولدا شقيق القس سليمان فقد كانا قد اختطفا من قبل بعض أهالي ماردين المُسلمين واستُعبِدا، وبعد حين من الزمن أُعتِقا، وأُرسلا الى آمد عند عمِّهما القس سليمان. (لقد أنيطت بالقس سليمان مُهمة الوكالة البطريركية في بغداد والقاهرة، ثم رقي الى الدرجة الأسقفية في الموصل من قبل البطريرك مار عمانوئيل الثاني توما في الثامن من ايلول عام 1939م، وعيَّنه وكيلاً بطريركياً على الأبرشية البطريركية، ولكن العمر لم يمتد به بعد رسامته اسقفاً إلا أقل من ثلاثة أشهر، حيث توفي في الرابع من كانون الأول لنفس العام، ودُفن في كنيسة مِسكنته بالموصل).

المجموعة الثانية

يقول المؤلف مار اسرائيل اودو: وبعد سبعة ايام من القضاء على المجموعة الأولى، وصلت الى ماردين المجموعة الثانية المؤلفة من مختلف الطوائف المسيحية، وفي صباح اليوم التالي وإذا بواحدٍ من أفراد العسكر يُفاجيئني بالدخول الى غرفتي وهو مدجج بالسلاح، وبلهجة الآمر قال لي: إنَّ امرأتين من المجموعة التي وصلت مساء أمس، قد أنجبتا في الليل، وبحسب أوامر سيدي، أتيت بهما وبولديهما الى ههنا لتمكثا عندك حتى يوم الأربعين، وحينذاك سآتي وآخذهما. فقلت له: أيها السيد، لا يوجد لدينا مكان لإيواء نساء ههنا. فردَّ وبذات اللهجة الآمرة، هنا وفي هذه الغرفة التي أنت فيها، تُسكنهما معك. ولما ردَّ عليَّ بهذا الكلام الفض، قلتُ له: أين هما؟ قال: إنهما موجودتان في الباحة، وغادر تاركاً اربعة أفرادٍ من عسكره لحراستهما. فأوعزت أن تُخصَّصَ لكُلٍّ من المرأتين غرفة لوحدها. وبعد مرور أربعين يوماً حضر رئيس العسكر وبصحبته طبيب عسكري وسألا عن المرأتين، فقلت لهما إنَّهما كلدانيتان، فقال لي: أثبِت ذلك بسندٍ يؤيِّد ذلك واختمه لدعم إدِّعائك، وإلا سآخذهما هما ورضيعيهما، وما إن أنهيت كتابة السند حتى طلبت من الخوري عيسى أن يختمه، ثمَّ سلَّمته لرئيس العسكر، وبعد استلامه للسند قال لي: سنتحقق من صحة إدِّعائك، وإذا ظهر خلاف ذلك، سنأتي ونأخذكم جميعاً ولن يكون مصيركم سوى الذبح!

 فقلت حققوا ما استطعتم، إنهما كلدانيتان، إحداهما زوجة سعدو جولاغ التي قتلتموه وتُدعى حَبّو. ولما اقتادها عسكركم هي وابنها الطفل البالغ من العمر أربعة أعوام، داهمه المرض وهو في الطريق نتيجة الإرهاق والخوف والتعب، فأُدخِل الى مستشفى البروتستانت في ماردين، فلاقى حتفه. وكان إبنُها الكبير المدعو عبد المسيح قد جُنِّد كبقية زملائه وتعرَّضَ للقتل في الحرب. وبخصوص المرأة الثانية فكانت زوجة جبرائيل فيلو الكلداني ومن أصل أرمني ومعها أولادها الأربعة. وهكذا تمَّ إنقاذهما ورضيعيهما، وأُعيدَتا الى داريهما. وذِكراً للحقيقة نقول: بأن رئيس افراد الحراسة المُكلَّف بالحفاظ على سلامة الإمرأتين، تبيَّن لنا بكونه رجلاً فاضلاً وتقياً، وأحد أبناء مدينة سيواس، بعكس أبناء ماردين من الإسلام الذين لم يكتفوا بغدر أبناء مدينتهم وأصدقائهم المسيحيين فحسب، بل ساهموا بشكل كبير في اضطهادهم وإراقة دمائهم الزكية دون رحمة وشفقة، يدفعهم جشعهم للإستيلاء على أملاكهم وعقاراتهم!

الشماس د. كوركيس مردو

في 5/6/2015

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *