اضطهاد الكلدان والسريان بشقّيهم قبل مئة عام الحلقة الثانية

 

ننقل بتصرُّفٍ صياغي دون الإخلال بالمضمون أحداث اضطهاد الكلدان والسريان بشقيهم  السريان المونوفيزيين الأرثوذكس والسريان الكاثوليك عن شاهد عيان المطران الكلداني ماراسرائيل اودو في كتابه الموسوم:

(اضطهاد المسيحيين من الكلدان الكاثوليك والكلدان النساطرة “الآثوريين” والأرمن في ماردين، سعرد، آمد، الجزيرة، نصيبين والرها وغيرها عام 1915م في تركيا/ ترجمة. الشماس خيري فومية/ مشيكَن- أميركا 2009م)

ففي (توطئة الكتاب اعلاه ص 9- 10) يقول المؤلف ماراسرائيل اودو: بأنَّ اضطهاد المسيحيين “أبناء الطوائف المسيحية” في ماردين باستثناء اليعاقبة “السريان الأرثوذكس” منهم في باديء الأمر، بدأ يوم الثالث من حزيران عام 1915م ولم تخمد نارُه حتى نهاية تشرين الأول من العام ذاته. ويُضيف: لم اسخِّر قلمي لأدوِّنَ هذا السِّفر، إلا على ما رأيته بأم عيني وسمعته باذني من الحقائق، مُبتعداً عن الإطالة ما استطعتُ. أما عن الذي دوَّنته نقلاً عمّا رُويَ لي، لم أقبله ولم أدَوِّنه إلا بعد البحث والتمحيص الدقيق، مُسجِّلاً لكُلِّ حادثٍ سببه.

مآل الوجبة الثانية

يتحدَّث المطران مار اسرائيل اودو في الصفحة (40 – 44) بعد نقل الوجبة الأولى من المؤمنين باستثناء “اليعاقبة الذين أطلق سراحهم” والقضاء عليهم جميعاً بشكل بربري بشع كما أسلفنا، امتلأ السجن من جديد بوجبةٍ ثانية من مؤمني مُجمل الطوائف المسيحية باستثناء اليعاقبة، بلغ عددُهم ثلاثمائة وتسعة أشخاص يتألفون من عِلمانيين وشمامسة شيباً وشباناً بضمنهم أحد عشر كاهناً، أربعة منهم أرمن كاثوليك وسبعة  سريان كاثوليك. وفي غسق يوم الإثنين 14/6/1915م رُبِطوا بعضهم بالحبال وبعضهم بسلاسل حديدية، كُلُّ اربعة منهم يُشكِّلون مجموعة، واقتادوهم مُهانين في الطريق المؤدي الى آمد “دياربكر” وهم حفاة وعطاش وجياع، وقد نال منهم الوهن من جراء التعب والإضطراب، فسقط عددٌ منهم في الطريق، وحين يُشاهدم السفاحون الرعاع ساقدين على الأرض لا يتردَّدون في إطلاق الرصاص عليهم فيُردونهم قتلى، ثم يسحلون جثثهم ويرمونها على قارعة الطريق. وما إن وصلوا الى موضع يُدعى شيخان يقع في منطقة بوتان في تركيا، حتى كدَّسوهم في مغارة يستخدمها الرعاة لإيواء مواشيهم، كانت متراكمة بالأزبال، فأمضوا الليل فيها ساهرين ومصلين طالبين من الله أن يُعينهم في محنتهم معترفين أمام الكهنة الذين كانوا ضمنهم استعداداً للشهادة.

وفي الغلس دخل الجلادون عليهم، وفرزوا من بينهم 84 شخصاً، اقتادوهم الى جبل شهيا وهناك تمَّ ذبحُهم كالخراف، ولدى بزوغ الشمس أخرجوا الباقين وذهبوا بهم نحو الموضع المُعيَّن لذبحهم، وقبل القضاء عليهم، طلب المسيحيون ماءً لكي يرووا عطشهم، فسمحوا لقسم منهم بالنزول الى النهر ليشربوا، فانتهز البعض منهم الفرصة للهرب، فكان ردُّ فعل القتلة إطلاق النار على جميع من كان قرب النهر، فاستشهد 15 فرداً منهم من بينهم القس جبرائيل الأرمني، أما القس حنا السرياني فقدأصيب بجروح، وعلى إثر ذلك مُنع الباقون من شرب الماء.  وفيما كان الجلادون يتهَيَّأون للإجهاض على نحر الباقين، وإذا بهم يتفاجأون بقدوم كوكبة مؤلفة من عشرة فرسان قادمة من آمد، ومن بعيد نادى قائدُها بأعلى صوته قائلا: لا تؤذوا أحداً، فقد صدر الأمرُ بالعفو عنهم! وحال وصول الفرسان استلموا المسيحيين الباقين على قيد الحياة من اولئك الطغاة، وعادوا بهم الى آمد واودعوا السجن. وإذ كانت قِواهم قد أنهكها التعب والجوع والعطش افترشوا الأرض بدون وعي وهم قاب قوسين من الموت. وما إن وصل خبر وجودهم في السجن الى إخوتهم الآمديين، حتى هبّوا إليهم مُسرعين مذهولين مادين إليهم يد العون والمساعدة والمؤاساة، ومقدِّمين لهم الماء والأطعمة والأفرشة، ليس بوسعنا تقدير أهمية مساعدات الآمديين لإخوتهم الماردينيين طوال فترة بقائهم  مسجونين في آمد.

إنَّ ما حدا بحاكم آمد الدكتور رشيد لإرسال تلك الكوكبة من الفرسان لإنقاذ الوجبة الثانية من مسيحيي ماردين، البرقية التي بعث بها إليه مسؤولو ماردين، يُعلمونه بالقضاء على الوجبة الأولى من مسيحيي ماردين المتكونة من جميع الطوائف، وأنَّ وجبة ثانية توازيها قد تم جمعُها، وهم في طريقهم للذهاب بها الى شيخان والقضاء عليها. اغتاظ الحاكم رشيد لدى تلقيه تلك البرقية، فأرسل على الفور تلك الكوكبة من الفرسان التي منعت ايذاء مسيحيي الوجبة الثانية، فاستلمتهم من أيادي السفاحين وجلبتهم الى آمد. وبعد عِدَّة أيام أُخرج هؤلاء السجناء الى باحة سجن القلعة، فقدِم الحاكم رشيد لتفقد هذه المجموعة المؤلفة من كهنة وشيوخ وشبّان من مختلف الطوائف، كانوا في حالةٍ يُرثى لها، ارجلهم متورمة من تأثير القيود التي كُبِّلت بها، ولم يكن باستطاعتهم المشي إلا بصعوبة بالغة، وكانت سحناتهم باهتة. تأثر الحاكم رشيد لرؤيته إياهم بهذه الحال المُزرية، فأمر بإطلاق سراح “غير الأرمن” وإعادتهم الى بيوتهم سالمين، وأن لا يُقبَض إلا على مَن يقوم بالتحريض على أعمال الشغب، إذ كانت غايته إبادة الأرمن. ووصل المُطلق سراحهم الى ماردين سالمين يوم السبت 29 حزيران 1915م. ومن العائدين لم يمتد العمر بشماسَين كلدانيَين هما عبدالمسيح خرموش واسكندر تمرز، إذ داهمهما المرض من جرّاء ما عاناه في الطريق. وكذلك توفي الفتى الكلداني إبن الشماس توما سلام ذي السادس عشر ربيعاً بسبب الهلع الذي استحكم به. قد يُنظر الى ما قام به الحاكم رشيد بأنه بذلك عمل معروفاً بإطلاقه سراح مَن بقي سالماً مِن مسيحيي الوجبة الثانية من غير الأرمَن، لكنَّه لم يلبث أن انتقى وجهاء المسيحيين وأشرافهم من كافة الطوائف وقد هدَّهم العوز وظلم الأشرار، حيث سُلِّموا الى أيدي القساة لتعذيبهم والإستهزاء بهم، وبعد الإمعان في إذلالهم، كان نصيبهم الظفر بإكليل الشهادة لجهادهم البطولي بعدم الرضوخ الى نزوات الحقد والبغضاء العامرة بهما قلوب رشيد ورؤسائه ضِدَّ المسيحيين الأبرياء، فكانا دافعاً لهم للقضاء على المسيحيين واستئصال شأفتهم من بلادهم الأصيلة. إنَّ مُجمل الكهنة السريان الكاثوليك الذين استشهدوا في الوجبتين الأولى والثانية كان عددُهم ستة.

اقتياد زمرة البنّائين

يروي المطران اسرائيل اودو في(الصفحة 48 – 49) بعد استشهاد قسم كبير من مسيحيي الوجبة الثانية من المسيحيين الماردينيين وإعادة القسم المتبقي الى آمد ثم الى مدينتهم ماردين كما تقدم ذِكرُه آنفاً، جرى إلقاء القبض على زمرة البنّائين الذين كان يربو عددُهم على المِئتَين والخمسين فرداً. فرزوا من بينهم مائة وخمسةٍ  وثلاثين، وأصعدوهم الى القلعة الواقعة خارج مدينة ماردين، وهناك عُذِّبوا بقساوةٍ  وحُشروا في سجن صغير خالٍ من فتحات التهوية، وهم جوعى وعطشى ومُرهقون، وكاد الحَرُّ الشديد يخنقهم، فطلبوا أن يُخرجوهم الى خارج قاعة السجن ليتنفسوا قليلاً، فلم يكن مَن يرأف بحالهم، وطلبوا ماءً ليرووا عطشهم ولم يُعط لهم، فعَنَّ لهم أن يُرشوهم بالنقود، فزوَّدوهم بالمء ليشربوا، وسمحوا لعددٍ منهم ان يناموا في الهواء الطلق، وبعد ارتياحهم من ذلك العذاب لبضعة أيام، أخرجوهم من ذلك السجن، وفيما هم نازلون من القلعة وإذا بالضربات تنهال عليهم كالمطر، فترنَّح واحدٌ منهم يُدعى جرجس يهبايا من هول الضربات فسقط على الأرض، وتألَّب حوله المُشعوذون وأشبعوه رجماً حتى فارق الحياة، وبعد حين جاء أقاربُه فحملوا جثته ودفنوها. أما الباقون فساروا بهم حتى وصلوا الى منطقةٍ تُدعى “اقصر” وهناك هجمت عليهم جموع من صعاليك قرى ريشميل وقفالة وأخلاط، فأوقعوهم على الأرض وراحوا يرفصونهم بأرجلهم حتى سُحق عددٌ منهم وماتوا، ورُمِيَت جثثُهم في الجب، والذين تبقوا من هذه المجموعة اقتيدوا الى موضع آخر وذبحوا جميعاً وألقيت جثثُهم في أحد الأخاديد، وقد نجا شاب واحد من المرميين في الأخدود يُدعى الياس جرجس باعجوبة، حيث بقي في ذلك الأخدود قرابة شهر!

ترك  قتلُ البنائين تأثيراً كبيراً في حقل العُمران، وهذا ما لاحظه آمرُ حامية المدينة “خِدر كوميري” حين رأى بأن أشغال البناء قد تعطلت، وأنَّ استمرار قتلهم سيؤدي الى إبادتهم، فبادر الى استدعاء عددٍ منهم ومن ضمنهم “لولي كيسو” البنّاء الماهر جداً في فن العمارة، وتحدَّث إليهم مُتملقاً: < إنكم ستُقتلون جميعكم، أما أنا فأتمنى ومن صميم قلبي بقاءَكم على قيد الحياة، لكنَّ الأمرَ ليس بيدي، فرأفة بكم فكَّرت بطريقةٍ بشأن نجاتكم وهي أن تُنكروا ديانتكم وتعتنقوا ديانتنا ظاهرياً، وفي الخفاء تُمارسون شعائر ديانتكم >. انخدع اولئك البناؤون فوافقوه الفكرة. حينئذٍ أخذهم عند حاكم المدينة، فأشهروا إسلامهم، وتأكيداً على ذلك فقد رفعوا سبّابتهم واعتمروا بعمامةٍ بيضاء اسوة بالمُسلمين،  وتردَّدوا الى الجامع تأكيداً للشعب بأنَّهم قد أسلموا فعلاً، حيث كانوا يُصلون على غِرارهم، ويصومون أصوامهم. ولم يكتفِ آمر الحامية بذلك، بل سخَّرهم لبناء المنارة الجميلة القائمة بركن المسجد المُسمّى “جامع الشهيد” الكائن بجوار منزله، وقد استغرقهم بناؤها بها مدة عامين وبدون أجر. ويضيف المطران اودو: < وللحق نقول: لا يوجد لتلك العمارة مثيل من حيث جمالها وهيئتها في كُلِّ تلك الأنحاء. أما إذا مَرُض أحدٌ منهم، كانوا يدعون لزيارته الكاهن روفائيل الطاعن في السن، وهو كان يُرشدهم خفية، وكذلك كان يفعل مع عوائلهم حيث لم يكن بوسعِهم الذهاب الى الكنيسة.

ولدى وضع الحرب العالمية الأولى أوزارها ودخول قوات الدول المنتصرة الى العاصمة اسطنبول في تشرين الثاني 1918م كان محمد مخلص بيك رحمن يشغل منصب وكيل الحاكم، وكان لديه ميل نحو المسيحيين وحُبٌّ لهم، أرسل مَن يأتي بتلك الزمرة من البنائين إليه، ولدى مثولهم أمامهم أمرهم بنزع الأغطية عن رؤوسهم والعودة الى ديانتهم، وبعد يومَين يقول المطران اودو: جأوا عندي فقبلتهم بفرح وسرور ومنحتهم الحَلَّة، فشملهم هم وعوائلهم فرحٌ عظيم، وكان عددُهم أربعة وعشرين رجلاً، لا نرى ضرورة لتدوين أسمائهم هنا.

ابتزاز القوميسير ممدوح لنساء وأقرباء الشهداء

في (الصفحة 51 –57) يروي المطران اودو، بأن القوميسير ممدوح “مدير شرطة” المار ذِكرُه في متن الحلقة الأولى، وبعد أن أعلِن العفو عن المتبقي من الطوائف المسيحية عدا الأرمن. دفعته نزواتُه وشراهتُه للمال الحرام، ففكَّر بسلب وابتزاز نساء الرجال المسيحيين الذين استشهدوا، ولكي ينجح في مقصده الشرير، استعان برجل يعقوبي يُدعى حنا بن نصري هدايا، مانحاً إياه صلاحيات التحرّي والتصرُّف في اختيار نساء العوائل الثرية. فكانت اولى ضحاياه السيدة منصورة زوجة جرجس ترسيخان أحد أبناء طائفتنا الكلدانية، حيث قال لها: استعِدي أنت وأبناؤك للإلتحاق بزوجك، لأنَّه أرسل في طلبك، وسوف أمهلك يومَين أو ثلاثة لتفتدي نفسك وأولادك. فكِّري ماذا تختارين؟ أجابته المرأة العفيفة التقية، وقد أجمعت قواها: سأعطي ما يأمر به سيدي وبحسب إمكانيتي. قال لها (200 ليرة ذهب) أجابته قائلة: هذا المقدار من الذهب غير متوفر لديَّ في الوقت الحاضر. أمهِلني حتى أبيع ما عندي من حانوتنا كي أدفع ما طلبته مني، وإذا أردت ضماناً، سأعطيك المتيَسِّر عندي. فجمعت كُلَّ ما لديها ولدى حماتها من المصوغات الذهبية والمجوهرات والأحجار الكريمة وأعطتها له، وكانت قيمتها تُساوي أكثر من (50 ليرة ذهب) وبعد أيام جاء وأخذ منها (200 ليرة ذهب) ولما طالبته بإعادة ما أعطته من ضمانات، تظاهر بافتعال غضب وراح يُعربد مُسمعاً إياها كلمات بذيئة وقاسية ثم غادر.

وبعد خروجه من لدن منصورة الفاضلة، توجَّه المُجرم ممدوح برفقة عميله حنا بن نصري الأرعن الى دار رزق الله كزي الكلداني، وطلب منه زوجة أخيه منصور بحجة إرسالها إليه، بينما منصور كان قد استشهد ضمن الوجبة الأولى، لكنَّ رزق الله نقده 40 ليرة ذهب فأخذها وانصرف، وفي الطريق رأى أنَّ المبلغ قليل، فعاد إليه ثانية وثالثة وابتزَّ منه ضعف المبلغ الأول. ثمَّ أرسل مَن يُحضر إليه الكلدانيين جرجس شوحا وابن عمِّه الياس اللذين كانا من ضمن الوجبة الثانية، وعادا الى داريهما بسلام إثر إصدار الحاكم رشيد العفو عن الباقين أحياءً. فقال لجرجس شوحا، سلِّم لي زوجة أخيك جبرائيل لأخذها وأطفالها الى زوجها “بينما كان زوجها قد استشهد ضمن الوجبة الأولى” وقال لإلياس: اريد أن تُسلِّمني زوجتي شقيقيك عبدالأحد وفريد وأطفاليهما “فيما كان شقيقا الياس قد استشهدا ضمن الوجبة الأولى”، فأعطاه جرجس 100 دينار اقترضها بفائدة، ونقده الياس مِئتي دينار. وإذ علم بأنَّ الياس ثريٌّ عاد اليه بعد أيام قليلة وطالبه بمزيد من المال مُدَّعِياً بأنَّ المبلغ الأول كان قليلاً. فرأى ألياس بأنَّ جشع ممدوح لا يقف عند حَد، وسيبتزَّ كُلَّ ما يملكه، ترك داره وفرَّ الى جبل سنجار، ومكث هناك حتى استقرَّ الوضع فعاد الى داره. إنَّ الياس بن نيقولا كان من أشراف الكلدان، وكان شقيقاه الشهيدان وسيمَين جداً ومثقفين جداً. وابتزَّ ممدوح من وجيهين بروتستانيين هما نصري سفير وملكي شنخور مِئتي ليرة ذهب، وابتزَّ من أبناء طائفة السريان الكاثوليك 1000 ليرة ذهب، ومن دير مار افرام العائدلهم 500 ليرة ذهب، ناهيك عن شتى الودائع والأمانات المودعة من قبل الأرمن في الدير، فطغى ممدوح وتبختر بتلك الكمية من الذهب. وقد ذكر الأب ريتوري في كتابه (مسيحيون بين انياب الوحوش … ص 37) بأن ممدوح استولى على 4000 آلاف ليرة ذهبية مُخبَّاة في حشية اسرة خاجدريان وحدها! أما الذين طلب منهم الذهب ولم يُعطوه كبيت معمار باشي وبيت دوقماق من أبناء طائفة السريان الكاثوليك، فقد صودرَت دورهم وبيعت وطُردوا.

مقتل المجموعة الأولى من النساء

بعد مقتل الوجبة الأولى من الرجال والقسم الكبير من الوجبة الثانية كما مَرَّ ذِكرُه في الحلقة الأولى والحلقة الثانية هذه، أصدرت لجنة الإعدامات أمراً صارماً بقتل النساء وأطفالهن بدون شفقةٍ ولا رحمة، إضافة الى الرجال الذين لم يُعثر عليهم ضمن الوجبتين الأولى والثانية. وبتاريخ الثالث عشر من تموز 1915م وبناءً الى هذا الأمر فُرضت حراسة مُشدَّدة على 30 داراً من دور وجهاء الأرمن المُستهدف اغتيالُهم، حيث حُذِروا بعدم مغادرة دورهم ولا استقبال أيِّ زائر او ضيف، وأُبلغت النساء بأن يستعِدنَ للإلتحاق بأزواجهنَّ المنفيين بنواحي حلب. ولم تمضِ إلا ثلاثة أيام على هذه الإجراءات حتى داهم العسكرُ تلك الدور في غلس يوم الخميس الخامس عشر من تموز، وأخرجوا أهاليها واقتادوهم خارجاً عن طريق البوابة الشرقية لمدينة ماردين المعروفة “ببوابة صور”، وبدأت العملية بإخراج عائلة اسكندر آدم، فعائلة جنانجي، فعائلة كسبو، فعائلة مالويان وعائلة كرمة وهكذا دواليك حتى أتوا الى عائلة بوغوص، فوجدوا أن جميع نسائها وبناتها متشحات بلباس أبيض وبيد كُلِّ واحدَةٍ منهنَّ سراجاً موقداً وهنَّ على أُهبة الرحيل. انتابَ العسكرَ استغرابٌ من مشهدهِنَّ، فسألوهنَّ قائلين: هل أنتُنَّ ذاهبات الى العرس بهذه الحلي؟ أجابتهم كبيرتُهنَّ قائلة: علينا استقبال العريس بالشموع لندخل الى وليمته في الملكوت التي لا تفنى ولا تزول. وبعد أن أخرجوا النساء المُقرَّر اغتيالهنَّ، ذهبوا بهنَّ خارج بوابة صور، وكان برفقة هذه العوائل الكاهن العجوز اوانيس وعددٌ غير قليل من الرجال والشباب والفتيان والأطفال.

قاد هذه الكوكبة ستون عسكرياً من المُشاة والفرسان، يُساعِدُهم عددٌ كبير من زعماء المدينة ورؤسائها، وقد كان هدف هؤلاء ليس مُساعدة العساكر وإنما سلب ونهب حُليِّ النسوة وقتلهنَّ. وصلوا بهذه الكوكبة الى مشارف تل الأرمن، وكان ضمن هذه الكوكبة تيريزا والدة الشهيد المطران اغناطيوس مالويان، ولكونها امرأة مُسنة فقد هدَّها التعب ولم يَعُد بإمكانها إكمال المسير، وإذ رآها العساكرعلى هذه الحال، أخذوها جانباً عن الطريق مسافة مرمى سهم وقتلوها هناك، فكانت اولى شهيدات تلك الكوكبة الطاهرة. وحيث أن التعب أنهك المجموعة جداً، قرَّر القتلة أن تبيت في القفر تلك الليلة تحت الحراسة. وما إن انبلج صبحُ يوم السبت السابع عشر من تموز، وإذا برئيس العساكر يصرخ بهنَّ صرخة مدوية قائلاً: إنهضنَ على عجل واستعِدنَ للرحيل، ولما وصلنَ الى شارع تل الأرمن، هجم عليهنَّ الأكراد المُجتمعون هناك، مُختطفين البنات والبنين من أحضان همهاتهم، فتصدّى لهم الحرس شاهرين اسلحتهم، عندذاك تفرَّقوا وابتعدوا. ولما بلغوا مشارف قرية عبد الإمام، كان إبن ابراهيم باشا من عشيرة ميلليني ورجاله، وعثمان أغا مُختار قرية عبد الإمام وأهاليها بانتظارهم، فهجم هؤلاء أيضاً  بدورهم كالوحوش، فانتزعوا الرضع من على صدور امهاتهم واختطفوا الأطفال والصبايا، وراحوا ينتقون ما يحلو لهم من الشابات الحسناوات والصبيان الظرفاء، وقد قام إبن ابراهيم باشا بخطف السيدة روزا زوجة شفيق بن اسكندر آدم وسبع نساء اخريات. فاستدارت رزوا نحو العسكر ووجَّهت إليهم كلاماً مُعبِّراً وبصوت جهوري قائلة: أما حكمتم على جميعنا بالموت؟ فلماذا تسمحون بخطفنا من قبل هؤلاء الأوباش؟ فتأثر آمرُ الحرس لكلامها، وأمر بإعادتها وزميلاتها من أيدي إبن ابراهيم باشا وعصابته. أما مُنيرة زوجة فتح الله شللمه إبنة الخواجه يونان، فقد امتنعت بشدة أن تتبع الأرجاس، فمسكها الشيخ طاهر الأنصاري المارديني، واقتادها عنوةً الى مكان قريب من ماردين، وطلب أن ينال منها مأرباً أثيماً، فانتهرته بشدَّةٍ وعنف، فمال الى ملاطفتها متملقاً وداعياً إياها لنبذ ديانتها لتحيا، فكان زجرُها وانتهارُها له أشدَّ من المرة السابقة، حينها استبَدَّ به الغضبُ وانهال عليها بالضرب المبرح حتى فارقت الحياة. فغدت هذه السيدة النبيلة والزوجة الطاهرة الباسلة شهيدة العِفة والدين.

أما عن ما جرى لبقية المجموعة، فقد حُشروا في بقعة قريبةٍ من الوادي حتى شروق الشمس، حيث بدأ القتلة المُجرمون بنزع الملابس عن الرجال والشبان مبتدئين بالكاهن اوانيس العجوز، ثم الباقين ومنهم بطرس جنآنجي، وابن نعوم جنآنجي، فتح الله شللمه، شكر كسبو، بولس مخولي، بوغوص وحتى آخر واحدٍ منهم، واقتادوهم نحو الوادي القريب من ذلك المكان، ودعوهم الى جحد دينهم، وإذ لم يُلبي أيٌّ منهم هذا المطلب الغاشم وأصروا على مسيحيتهم.أجهزوا عليهم كالوحوش الكاسرة وقتلوهم جميعاً وألقوا جثثهم في الوادي. فلما شاهدت النسوة ذلك المشهد المُرعِب ارتعدن من هوله، وعلمن بأن موعد قتلهنَّ قد زَفَّ، فتصاعدت من أفواههنَّ أصوات الصراخ والبكاء المرير والندب الحزين، واشتدَّ ذلك حين هجمت عليهن زمرة من الأكراد كالذئاب الخاطفة، ليخطفوا ما كان قد بقي من الأطفال والرضع في أحضان امهاتهم، فأخذت تلك الأمهات تُشدد عزائم بعضهنَّ البعض، والأكراد الأشرار بعد أن عرّوهنَّ من ملابسهنَّ، أخذوا يسوقونهن نحو الوادي، وكما اعتاد هؤلاء الأرجاس، فقد دعوا تلك النسوة الى جحد دينهنَّ، وعندما لم تَثبُط عزيمة أيَّة واحدةٍ منهنَّ للوقوع في شَرَك السفاحين، ذُبِحنا ورُميت جثثهنَّ في الوادي، وقبل رَميهم راح المجرمون بنبش  شعر رؤوس تلك النسوة المُجنى عليهنَّ، علَّهم يجدون مصوغاً ذهبياً أو جوهرة في ثناياه. وهكذا قضوا على كُلِّ ذلك الحشد من النساء العفيفات، النقيات، الماجدات اللائي فضلن الفوز باكاليل الظفر، فلهنَّ يليق المدح والإكرام.

أما قصة الصبايا والرُضع الذين اختُطِفوا من قبل رجال إبن ابراهيم باشا وأهالي قرية عبد الإمام قبيل استشهاد امهاتهم، فقد رواها عثمان أغا مُختار قرية عبدالإمام، في أحد شوارع ماردين وأمام تجمُّع كبير من الناس مُعترفاً علناً قائلاً: أمر يافور الشركسي بجلب جميع الصبية والرضع أبناء الأرمن الذين اختطفوا في قرية عبد الإمام، فجيءَ بهم إليه وكان عددُهم أربعون طفل وطفلة، ثم أوعز بأن يجلبوا أخشاباً كثيرة وأحطاباً يابسة، وما إن أتوا بها وكوَّموها، حتى أضرم النار فيها، وبعد أن استعرت النار جيداً أمر بإلقاء اولئك الصبيان والرضع في لجتها المُلتهبة. ولدى سرد عثمان أغا لوقائع هذا المشهد المروع علَّق قائلاً: < الى هذا اليوم لم ينقطع صوت وصراخ وبكاء وأنين اولئك الصبية والرضع من أذنيَّ. فالويل لنا! الويل لِما عاينته أعيُننا >. ويستطرد المطران مار اودو قائلاُ: أما قصة ما جرى لتلك الكوكبة من النسوة منذ إخراجهنَّ من ماردين وحتى ذبحهنَّ، فقد كان توثيقي لها نقلاً عن لسان امرأة من عائلة بوغوص تُدعى أمينة، كانت قد نجت من براثن الموت باعجوبة، إذ بعد تعرُّضها للضرب من قبل القتلة كبقية النسوة، ظنوها قد ماتت مثلهنَّ، فرموها جانباً وغادروا. وتلعب الصدفة أحياناً دوراً لا يخطر على البال، ففيما كان رجل من أهالي قرية عبد الإمام يبحث بين الجثث عن حاجةٍ قد تُفيده، سمع صوت انين مشوبٍ بتنهُّدات، فدنا نحو مصدر الصوت، وإذا به يخرج من فم امرأةٍ عارية مضرَّجةٍ بدمائها، وما إن أحسَّت بوقع أقدام إنسان، حتى استغاثت به متوسلة وهي تقول: ارحمني يا سيدي، حباً بالله، فأشفق عليها فسترها بعباءَته وحملها الى داره، وراح يعتني بها حتى شُفيت واسترَدَّت عافيتها وقواها. وبعد أن خمدت نار الإضطهاد، أخذها الى دارها في ماردين وواصلت حياتها من جديد. تمَّت هذه المجزرة الرهيبة يوم السبت السابع عشر من تموز 1915م وكان عددُ شهدائها يربو على المئتين وستين شهيداً من الرجال والنساء والأطفال. والى الحلقة الثالثة قريباً

الشماس د. كوركيس مردو

في 7/5/2015

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *