إنها حكاية علم / بقلم محمد مندلاوي

 

الأمة الكوردية من الأمم الأوائل، التي رفعت الأعلام، كرموز وطنية وقومية، بدأً من الميديين الكورد الذين أسسوا في القرن السابع قبل الميلاد إمبراطورية مترامية الأطراف، وكان لهؤلاء الميديون الكورد عَلَم خاص كرمز وطني لدولتهم،و وسم أرضيته بسيفين متقاطعين وفي وسطهما سهم. ذكر هذا العلم العلامة (محمد مردوخ) في كتابه ( تاريخ كورد و كوردستان) ص (35). وعند إعلان كاوه الحداد الثورة على الملك ضحاك، جعل من صدريته المصنوعة من الجلد راية جمع تحته الثائرين على الحكم، وبعد انتصار كاوه الحداد، أصبحت هذه الراية فيما بعد علماً وطنياً لدولة إيران، باسم (درفش كاوياني) أي، علم كاوه، الذي وسم وسطه بشمس تنبعث منها أربعة إشعاعات بأربعة اتجاهات، وهذه الإشعاعات ترمز إلى الجهات الأربع، شرق وغرب وشمال وجنوب. وظل هذا العلم الكاوياني خفاقاً على سارية إيوان كسرى في المدائن، العاصمة الصيفية للدولة الساسانية، حتى آخر يوم من عمر هذه الدولة العادلة، التي عرف ملكها بالعادل (كسرى العادل)، والتي سقطت عام (651م) على أيدي الأعراب، القادمون من شبه الجزيرة العربية. ومن جملة الغنائم التي وقعت بأيدي الغزاة في معركة القادسية، باستثناء النساء والأطفال المسبيات، العلم الكاوياني، الذي كان تزينه، حسب أقوال المؤرخين الإسلاميين، مجوهرات ثمينة قدرت في حينه بمليون سكة ذهبية. وبعد اندحار الدولة الساسانية في العراق، أخذ الغزاة العلم المزين بالمجوهرات الثمينة إلى الخليفة عمر بن الخطاب، حيث تذكر لنا كتب التاريخ، أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، تعجب أيما إعجاب، حين رأى المجوهرات الثمينة التي ترصع العلم الكاوياني. وحسب قول المؤرخ أبو علي البلعمي (ت996م-) أمر الخليفة عمر بن الخطاب بخلع المجوهرات من العلم، ومن ثم أمر بإشعال النار فيه. ومن الذين ذكروا هذا العلم، المؤرخ والمفسر الكبير محمد بن جرير الطبري (839- 923م) في كتابه (تاريخ الأمم والملوك) يقول: “أن علم كاوه، كان من جلد النمر، بعرض خمسة أمتار، وطول سبعة أمتار” وأشار لهذا العلم أيضاً، المؤرخ والجغرافي، أبو الحسن المسعودي (896- 957م). وذكره كذلك، المؤرخ عبد الرحمن بن محمد بن خلدون (1332- 1382م). لا ننسى أن الدول والكيانات التي تأسست على أنقاض الدولة الساسانية الكوردية، اقتبست منها نظامها الإداري والمالي والعمراني الخ. أدناه صورة تخيلية للعلم الكاوياني المرصع بالمجوهرات الثمينة.

وفي العصر الإسلامي، أن أشهر علم كوردي، هو ذاك العلم الذي حشد تحته جيشه الكوردي وحرر به القدس والأقصى معاً، هو علم الملك الناصر (يوسف بن أيوب) الملقب بصلاح الدين الأيوبي (1138- 1193م) وكان لون علمه أصفر، من المرجح أنه اختار اللون الأصفر لعلمه كامتداد للشمس التي كانت سائدة في الأديان الكوردية القديمة. واليوم ترى هذه الشمس المقدسة بكل وضوح، في العقيدة الإزدية التوحيدية، حيث يتوجه الإنسان الإزدي الكوردي في كل صباح، نحو إطلالة الشمس وإشراقها، ليؤدي طقوسه الدينية. وفي العصر الحديث اتخذ الآخرون من غير الكورد، نسر السلطان صلاح الدين الأيوبي، الذي اكتشف في قلعته بالقاهرة، شعاراً لدولتهم. وفي عهد حكم الرئيس المصري جمال عبد الناصر وضع نسر صلاح الدين الأيوبي في وسط العلم المصري. بلا شك، لم يقم عبد الناصر بهذا العمل حباً بصلاح الدين فقط، بل لتذكير الدولة العبرية به، كرمز يذكرها بتحرير فلسطين على يد ذلك الكوردي الذي لولاه لكانت الأمة العربية والعقيدة الإسلامية في خبر كان. ومن الأعَلام التي رفرفت في سماء كوردستان، علم إمارة سوران في جنوبي كوردستان في القرن التاسع عشر، وكذلك علم إمارة إيلام (عيلام)، تلك الإمارة الزاگروسية في شرقي كوردستان، التي دامت خمسة قرون، حتى قضى عليها رضا شاه بدعم من بريطانيا في العشرينيات القرن الماضي، وألحقها قسراً بالكيان الإيراني. وما العلم المرفرف في سماء إقليم كوردستان اليوم، ألا امتداداً لتلك الأعلام الكوردية التي رفعها الكورد كرمز وطني وقومي، بدأً من الدولة الميدية ومروراً بالدولة الساسانية ومن ثم، الأيوبيون والإيلاميون والدول والإمارات الكوردية الأخرى، التي أعقبت هؤلاء، والتي أسسها الشعب الكوردي، كعلم مملكة جنوب كوردستان التي أسسها الملك (محمود الأول) في العقد الثاني من القرن العشرين. وعلم جمهورية أرارات عام (1927- 1930). وعلم جمهورية كوردستان عام (1946) ورئيسها (قاضي محمد).. والعلم الكوردستاني الخفاق في غربي كوردستان اليوم. وفي العصر الحديث، أبان انبثاق الدول الحديثة، وإنشاء منظمة عصبة الأمم، وفيما بعد منظمة الأمم المتحدة، أصبح هناك قانون خاص يسمى بقانون العلم، أما الشعوب التي لا زالت ترزح تحت نير الاحتلال، ترفع أعلامها التاريخية التي اعتمدتها تلك الشعوب في مسيرة حياتها، كالعلم الكوردستاني الذي تطرقنا إلى جانب من تاريخه منذ أن رفعه في دولة ميديا إلى يومنا هذا. إن الأعلام المعتمدة عند الشعوب العالم بأسره، يجب أن تكون ضمن مواصفات محددة في العرض والطول، ودرجة ونسبة اللون والرموز التي تحملها، على سبيل المثال، علم كوردستان، المعتمد عند عموم الشعب الكوردي في كوردستان الكبرى، والذي يرفع اليوم فوق سارية برلمان إقليم كوردستان، ورئاسة الإقليم، والحكومة الكوردستانية، متكون من ثلاثة ألوان – حقيقة أن الأبيض ليس لوناً، لكن الشائع، و وفق المفهوم الحسي لمعرفة الألوان يعد لوناً- وموسوم وسطه بشمس مشرقة، كرمز لشمس السومريين الكورد، تنبعث منها إحدى وعشرون إشعاعاً، ترمز لعيد رأس السنة السومرية، الذي صادف الحادي والعشرون من آذار، يوم الاعتدال الربيعي، وتساوي الليل والنهار. وما عيد نوروز الذي يصادف ذات التاريخ، ويحتفل به أحفاد السومريين في عموم كوردستان، ألا صورة من صور ذلك العيد السومري الكوردي، حيث امتزج تاريخه مع تاريخ ثورة كاوه الحداد الذي صادف نفس التاريخ، وبدأ منه التقويم الكوردي، الذي هو الآن (2713). أما من حيث اختيار السنة الميلادية وشهرها الثالث، وهو شهر آذار، واليوم الحادي والعشرون اعتمده الكورد نتيجة متغيرات حضارية وتاريخية شهدها العالم في العصور القديمة، وخاصة بعد ميلاد السيد المسيح، الذي اتخذ التقويم الميلادي اسمه من ميلاده، حيث أن الغالبية العظمى من دول وشعوب العالم، اعتمدت هذا التقويم، لتنظيم شؤون بلدانها، وتُذيل به جميع الاتفاقيات الدولية الخ. بينما القلة القليلة، بقيت متمسكة بتقويمها القومي، وثلة أخرى، اتخذت لنفسها من التقويم الديني الذي فرضها ظروف تاريخية معروفة وقائعها للجميع و ينظم هذا التقويم الآن حياتها اليومية، على سبيل المثال وليس الحصر، أن دولة إيران، كان التقويم السائد فيها منذ (1925) هو التقويم الهجري الشمسي، ألا أن شاه إيران محمد رضا بهلوي ألغاه عام (1976) واعتمد فيما بعد ما سمي بالتقويم الشاهنشاهي، ألا أنه أمام الضغط الجماهيري الرافض لهذا التغيير اضطر الشاه إلى إلغائه عام (1978) واعتماد التقويم الهجري الشمسي ثانية، الذي أصبح بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام (1979) تقويماً ينظم شؤون الجمهورية الإسلامية، وبدأ الإيرانيون وفق هذا التقويم الإسلامي، يحتفلوا بعيدهم الوطني، ألا وهو عيد نوروز، ولم نرى أحد من الإيرانيين اعترض على التقويم الهجري الشمسي، كتقويم غريب جاء من ثقافة غير إيرانية، يخالف التقويم الإيراني الوطني القديم. بخلاف هؤلاء الإيرانيون، رأينا في الأيام الماضية، أن نفر من الكورد الجنسية، اعترض على واحد وعشرون إشعاعاً التي تحيط بشمس التي في علم كوردستان كرمز لتاريخ يوم واحد وعشرون من آذار، العيد القومي للشعب الكوردي. أما من حيث قياس ومكونات العلم الكوردستاني كما في جميع أعلام دول العالم هو كالآتي، يكون الحجم اثنان على ثلاثة 2/3 أي اثنان عرض وثلاثة طول، وقياس شمسه من رأس الإشعاع التي في أسفلها إلى رأس الإشعاع التي في أعلاها، يكون 1.0 وقرص الشمس بدون الإشعاعات، يكون  0.5. كما تعلم عزيزي القارئ، أن لدرجات الألوان أرقاماً تعرف بها، فاللون الواحد له عدة درجات وأرقام، كاللون الأحمر في علم كوردستان رقمه “P M S “032 واللون الأخضر ” PM ” 354 S والأصفر الذي هو لون شمسه P M S “116”. إن الأحرف الإنجليزية “P M S” تعني اختصاراً “نظام بنتون ماتشينج- Pantone Matching System”. الذي اعتمده  الدكتور(بيژن الياسى) في مقال خاص له عن “حجم و أرقام” ألوان علم كوردستان.

3.0                                                                                         ز3

2.0

وفي العصر الحديث، خلد شعراء الكورد، علم كوردستان، الذي يجمع تحت ظله عموم الشعب الكوردي في كوردستان الكبرى. ومن هؤلاء الشعراء، خالد الذكر، شاعر الكورد و كوردستان (قانع) نظم قصيدة عصماء عن العلم الكوردستاني قبل “ثمان وسبعون سنة”، تحديداً عام (1945) بعنوان (ئاڵاکم – عَلَمي) يقول فيها:

ئه ی ئاڵای به رزى سێ ڕه نگی جوان ..                                                                                      هه ر شه كاوه بێ، تا ئاخر زه مان ..                                                                                             تۆ يادگارى سه لاحه دينى ..                                                                                                    خوا كۆمه كت بێ، چه نده شيرينى..

الترجمة: أيتها الراية الخفاقة بألوانها الثلاثة الزاهية، فلترفرفي حتى قيام الساعة، إنك من بقايا صلاح الدين، الرب معك، كم إنت جميلة.

ويقول فيها أيضاً:

سووريت نيشانه ى شه هيدانمانه..                                                                                               سه وزيت نيشانه ى ده خڵ و دانمانه..                                                                                       سپیت نيشانه ى ئاشتى ى وڵاته..                                                                                           ڕۆژی، ڕووناکی ڕێگه ى نه جاته..

الترجمة: لونك الأحمر رمز شهدائنا، ولونك  الأخضر رمز الزراعة واخضرار الوطن، والأبيض الناصع رمز السلام في كوردستان، وطريق الخلاص في اليوم المشهود.

ويقول في نهاية قصيدته العصماء:

ئيتر هه ربژی ئاڵای كوردستان..                                                                                                هه ر پايه داربێ، تا چه رخى ده وران.

الترجمة: فليبقى علم كوردستان، خفاقاً حتى آخر العصر والزمان. أأمل أني وفقت في الترجمة. وفي عام (1945) أيضاً، ذكر العلم الكوردستاني وألوانه الثلاثة، الشاعر الكوردي المعروف (هێمن) في قصيدة وطنية بعنوان (دايكى نيشتمان- الوطن الأم).

كما أسلفنا في سياق المقال، قبل أيام قليلة، قال قائلا… أن ألوان العلم الكوردستاني ليس لها معنى، ولا ترمز إلى شيء محدد، نحن لن نرد على هؤلاء… لأن شاعرنا الخالد (قانع) كأنه كان يعلم يأتي من بعده من يشكك بهذا العلم المقدس، فلذا كتب قصيدته العصماء وعرَّف فيها مكونات العلم الكوردستاني وكانت كصفعة قوية ومؤلمة على وجوه أصحاب تلك الأقلام الهدامة. حقاً أنه رداً مفعماً بالكوردايتى على أعداء ثالوثنا القومي المقدس “العلم، ونشيد ئه رقيب، وعيد نوروز الأغر”. وللشاعر قصيدة أخرى عن حدود كوردستان عنوانها (سنووره كه م – حدودي) لا شك، أن العلم والمعرفة كان رؤى شاعر. ليعلم ذلك المشكك النكر، أن الإشعاعات الإحدى والعشرون التي تنبعث من الشمس التي في وسط علم كوردستان، ترمز إلى عيد نوروز، العيد القومي للشعب الكوردي في الحادي والعشرون من آذار، يوم الاعتدال الربيعي، وتساوي الليل والنهار، حين تدخل الشمس في أولى البروج الإثنا عشر، وهي برج الحمل، وعندها تبدأ الربيع وتساوي الليل والنهار ب (12) ساعة لكل منهما. وبه تبدأ السنة الكوردية في شهر “خاكه ليوه” الذي يصادف 21 آذار. وهذا يدل على أن التقويم الكوردي الذي يبدأ في هذا اليوم، هو التقويم الصحيح والسليم. ولا ضير أن اختار الكورد شهر آذار من السنة الميلادية للاحتفال ببدء سنتهم الجديدة حين تدخل في (21) منه الشمس في برج الحمل، ويبدأ عنده الربيع الذي تنقشع فيه ظلمة الشتاء القارس، ويبدأ دفء الأرض واخضرارها، وكذلك تساوي الليل والنهار. تماماً كبداية كل شيء الذي يبدأ من الصفر، وها هو السنة الكوردية تبدأ من الصفر. كما السنة الميلادية المعتمدة عند غالبية دول العالم، التي تبدأ ( يوم ميلاد) السيد المسيح كذلك السنة الكوردية تبدأ يوم ميلاد الفصل الأول من الفصول الأربعة، ألا وهو فصل الربيع، إيذاناً بميلاد عام جديد، حيث تكون الشمس فوق خط الاستواء الذي يلتف حول الكرة الأرضية أفقياً ويقسمها إلى قسمين شمالي وجنوبي، وتساوي عنده الليل والنهار.

على ضوء ما تقدم، نقول لكل من تسول له نفسه، أن يشكك بالأصالة الكوردية، هذا هو علمنا الوطني الكوردستاني، الذي هو امتداد لتلك الأعلام الكوردية القديمة التي أشرنا لها أعلاه، ومكوناته مستنبطة من وحي تاريخنا العريق، وسيستمر هذا العلم مرفرفاً في سماء كوردستان، حتى استمرار الحياة على هذا الكوكب، وسننشد في ظله و بصوت عالي، نشيدنا القومي (ئه ى رقيب) “كوردستان هي ديننا وإيماننا” وسنحتفل، ونبتهج تحت ظل هذا العلم الخفاق، بعيدنا القومي الأغر، ألا وهو عيد نوروز، عيد المحبة والأخوة. وفي كل عام حين يحل هذا العيد المبارك، ويوقد الشعب الكوردي المسالم شعلته الوهاجة، إيذاناً ببدء السنة الكوردية الجديدة، يبعث مع لهيبها رسالة حب وأخوة، إلى شعوب الأرض قاطبة، و يتمنى لها، أن تعيش في محبة و سلام دائم.

مَثَل كوردي: ” الدنيا وردة، شمها وناولها لأخيك الإنسان”

 محمد مندلاوي

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *