أنخيدوانا الأكدية أول شاعرة في تاريخ البشرية / الجزء الثاني: إيضاحات ومقتطفات شعرية

 

قلنا في الجزء الأول أن المقطع الأول من إسم (أنخيدوانا)، كان بالفتح أم بالكسر، لا فرق، يعني “الكاهنة العظمى” (أو”المعظـّمة”) أو “الراعية” للشؤون الدينية وغيرها، ولكننا وجدنا أن المقطع الأول من إسم شاعرتنا له دلالات أكبر بكثير من المعنى التقليدي المتعارف عليه آنذاك. وأهم ما يحمله من معنى هو أنه كان لقبا يكنى به ملوك أوروك (الوركاء) القدماء لأن تنصيبهم ملوكا كان يقتضي اختيارهم بمباركة رجال الدين قبل كل شىء وإقامة احتفالات رسمية بمناسبة الجلوس على العرش. وربما لأنه لقب ذكوري أيضا، إختارته (أنخيدوانا) بدلا عن لقب “زرو” الأنثوي الذي كان يمنح للكاهنات من قبلها. وهذا يعني بأنها كانت تعلم تمام المعرفة بأن هذا اللقب يمنحها سلطات دستورية سياسية واسعة إضافة إلى مركزها الديني، ناهيك عن مسؤوليتها الاعتبارية في تعزيزحكم والدها في سومر. ويضاف إلى هذه المعاني معنى أسمى، فهو فضلا عن كونه يشير إلى الجاه والسلطة والنفوذ والنجاح، فقد كان عنوانا للقداسة والخير بنظر عامة الشعب خلال حياة حامله وبعد مماته. ولذلك أقيمت الأضرحة لحاملي اللقب في المعابد لتظل القداسة والبركة قائمة إلى أبد الدهور، إذ تقدم النذور وترفع الابتهالات لهم طمعا في الخير والبركة والشفاعة. ويبدو أن هذه الطقوس أضحت تقليدا لدى الأديان المتعاقبة، خاصة المسيحية.

 

قلنا في الجزء الأول أيضا بأن (أنخيدوانا) هي أكدية المولد وسومرية الثقافة لأنها عاشت معظم حياتها في بلاد سومر ودفنت في المقبرة الملكية، وتحديدا المعبد  الذي يطلق عليه إسم (گيبارو)، علما أن والدتها، (تشلوتم)، سومرية الأصل ونـُقشت كتاباتها بالخط السومري. ومهما حامت الشكوك حول محل ولادتها، فدمها أكدي ملكي وتنتمي لسلالة أكدية – سومرية دامت خمسة قرون بعد وفاتها. كما رجـّحنا لأسباب منطقية بأنها تسنمت رئاسة المعبد في وقت مبكـّر من حياتها، وهذا ما تؤكده الباحثة في تاريخ سومر وأكد (ميگان بومر) رغم زعم بعض المؤرخين، ومن بينهم الإعلامية الأمريكية (باتريشا ماكبروم) من جامعة كاليفورنيا – بيركيلي من أن (أنخيدوانا) تسلمت منصبها في عهد متأخر. وقد يستند هذا الزعم إلى حقيقة أن شاعرتنا استمرت في منصبها على مدى إثنتين وعشرين سنة في ظل حكم أخويها (ريموش) و (مان – إشتوشو) بعد وفاة والدها، ولكن تناسى هؤلاء بأن حاكم الوركاء المنحط أخلاقيا تمرد على والدها وأقصاها من منصبها لأنها كانت بمثابة سفيرة تحاول التقريب بين اللغتين السومرية والأكدية بين العامة، ومد الجسور بين المذاهب الدينية والعادات المتناظرة بين الأقوام في بلاد سومر وأكد. ورغم ظلم الحاكم الذي قارعته (أنخيدوانا) بكافة الوسائل، ومنها الهجاء في شعرها وتبجيل شفيعتها (إنانا) في معظمه، عادت إلى وظيفتها واستمرت بها، ربما حتى وفاتها في عهد  إبن أخيها (نرام سين) الذي تسلم قيادة دفـّة الإمبراطورية. والجدير بالذكر، فإن (نرام سين) شيـّد الكثير من المعابد في مراكز المدن والبلدات الجنوبية وعيـّن فيها بناته وأخواته كاهنات رئيسيات، مما يعني أن الدين والدولة كانا يسيران في خطيين متوازيين ومتداخلين في آن واحد. ما لا نعلمه حتى لحظة كتابة هذه السطور هو عدد السنين التي أمضتها أنخيدوانا في موقعها الرسمي، ولكن نخمـّن بأنها ليست أقل من ثلاثة عقود بأي حال من الأحوال.

 

قد يتبادر إلى ذهن القارىء سؤال عن صاحب الخط السومري على الرُقم الفخارية التي عثر عليها في مقبرة أور الملكية، فنقول: رغم أن (أنخيدوانا) كانت تتمتع بثقافة عالية وأنضجت الشعر السومري الذي يعود عهده إلى مئات السنين، إلا أنها لم تخط قصائدها بأناملها، وإنما عـُهد بها إلى الكتبة المختصين بالتدوين والنسخ. معظم تراتيلها منقوشة بالخط السومري، ولكن أسلوب نظم الشعر في اللغتين السومرية والأكدية متشابه جدا، إذ يجمع المتخصصون في الأدب الرافديني القديم على غياب الجناس والقافية والبحور من القصائد والتراتيل الدينية وحضور مشهود للغة المجاز، خاصة الاستعارة. إخترت لكم في هذا الجزء المقتضب من الدراسة نموذجين مقتطفين من قصائد شاعرتنا الأسطورية (أنخيدوانا) وحاولت قدر المستطاع ترجمتهما شعرا عربيا:

 

1. النفي من مدينة أور

 

 ناديتني لأسكن المعبد المقدس،

گيبارو،

فلبيت النداء، أنا الكاهنة العظمى،

أنخيدوانا.

حملت سلـّة الطقوس ورتـّلت ترتيلا،

وما تغنيت باسمك سوى تبجيلا.

نـُفيت ورُميت بين حثالات البشر،

فأضحى العيش من غيرك كدرٌ في كدر.

يحـُلّ النهار بضوئه مرتعبا،

من ظلام يلفـّني،

ومن نور ألبسه الظلام سوادا،

وحجبته حبات رمل عصفت بها الرياح.

جفّ ثغري الباسم وبات التلعثم مباحا،

وغدا وجهي الجميل ترابا.

 

2. لعنة الوركاء

 

من أكون أنا في بلادٍ همـّها وغمـّها بطنها،

وبعدها رُقاد؟

من أكون أنا،

والوركاء أضحت معقلا للعصيان،

وجحودا بنعمة الآلهة بعد فلتان؟

أسألك، أيها الإله (آن) أن تهدي القوم،

وإلا مزّق جمعهم إربا إربا.

أدعو الإله أنليل أن تحـُلّ عليهم لعنته،

وأن يدع الطفل في مهده وحيدا يئنّ

من غير أم عليه تتحنـّن.

سيدتي، وضعت قيثارة الحزن عند مرافىء العداء،

وتموضعت فوق الصخور.

وعندما يسمع أهل المدينة أغنيتي،

يتقاطرون نحوي وكلهم فداء.

 

 

الأردن في 18/9/2010

 

 

المصادر:

 

Boomer, Megan (2008). Priestess and King: Representations of Power and Gender in the Akkadian Royal Family, MS, pp. 1-19.

Meador, Betty De Shong (2000). Inanna Lady of largest Heart: Poems of the Sumerian High Priestess Enheduanna. Austin: University of Texas Press.

Roberts, Janet (2004). Enheduanna, Daughter of King Sargon: Princess, Poet, Priestess (2300 B. C.). Transoxiana 8.

 

 

 

أنخيدوانا الأكدية أول شاعرة في تاريخ البشرية

الجزء الأول: مقدمة تعريفية

بقلم: الأستاذ الدكتور دنحا طوبيا كوركيس

 

أن – هيدو – أنا ، أسم أنثوي أكدي مركب عـُرّب بصور مختلفة على المنابر العربية الثقافية الشحيحة التي توفرت لدينا، فظهر رسمه على هيئة “أنخدوانا، أنخيدوانا، إنخيدوانا، إيهودينا”، ومن معانيه “سيدة أو زينة السماء (القمر)”.  يتألف الإسم من خمس مقاطع سومرية: إن، هي، دو، أن، نا. وتعني “إن” الكاهنة العظمى (أو بالأحرى الكاهنة الراعية لشؤون المعبد والخدم والحشم والزراعة وتربية الأسماك والحيوانات في محيط المعبد المترامي الأطراف). أما “هيدو” فتعني “زينة”، بينما “أنـّا” هي النسبة إلى السماء أو إله السماء (القمر). إخترت في هذه الدراسة لفظة ” أنخيدوانا” بعد قلب الهاء خاء تماشيا مع الرائج من اللفظ. صاحبة هذا الإسم هي إبنة سرگون الأكدي (المعروف بإسم شروكين أيضا)، ويقال أنها كانت الوحيدة بين إخوتها. تضع الدكتورة جوان ويستنهولز تاريخ حياتها بين (2300 – 2225 ق.م.) في حين أن مكتشفها في مقابر أور الملكية، عالم الآثار السير ليونارد وولي، يضح ولادتها ووفاتها بين (2285 – 2225)، علما أن تاريخ حكم والدها الذي يتراوح النصف قرن يختلف عليه علماء التاريخ، فهناك من يحصره بين (2296 – 2240)، وقسم آخر بين (2334 – 2279)، وآخرون بين (2334 – 2290). يذهب البعض إلى القول بأن سرگون عيـّن إبنته رئيسة لكهنة معبد إله القمر (ما يناظره اليوم برئيس الوقف) في بلاد سومر في أواخر حكمه، ولكن هذا القول يناقض استراتيجية والدها المبدئية في إقامة إمبراطورية ذات حكم مركزي يضم أكثر من خمسين ولاية أكدية – سومرية، أولا، وفي تطمين أهل بلاد سومر على حرصه في استمرارية شعائرهم الدينية التقليدية، ثانيا، وفي إضفاء هالة دينية على شرعية حكمه، ثالثا، وتبرير مركزية حكمه القائم على خلق جسر من التفاهم بين الدين والدولة، رابعا. ولإرساء هذه الدعائم في السيطرة على زمام الأمور في الإمبراطورية المترامية الأطراف تحت شعار “الموت لمن يعادينا”، نرجح بأن تعيين أنخيدوانا كان مبكرا، وليس متأخرا.

 

قد يأخذك العجب لو قلنا بأن أنخيدوانا ما زالت حية بشحمها ولحمها على أقراص  فخارية محفوظة في متحف جامعة بنسلفانيا. كتب عنها الكثير وترجمت أشعارها إلى الإنكليزية والألمانية (الصور الحقيقية والمراجع والمصادر في ذيل المقالة)، وأن جمعية بريطانية تأسست حديثا بإسمها. ترى ما حقيقتها؟ هي امرأة تقدمت على كل رجالات الأدب ونسائه في التاريخ البشري، بل وهي الأولى التي خاطبت قرائها بضمير المخاطب وأعلنت عن إسمها وهويتها دون لبس في الوقت الذي نعلم بأن معظم الأدب السومري مجهول الهوية، ومنه ملحمة گلگامش. وهذا الأمر يدحض كل النظريات التي تشكك بشخصية أنخيدوانا التي نسخت أعمالها الشعرية وتراتيلها لمئات السنين من بعدها. أنخيدوانا الأميرة ليست سومرية كما يروج البعض لها، وإنما أكدية. وهذا الوهم ناجم بسبب انتقالها من أكد إلى مدينة أور السومرية لتولي المسؤولية التي أناط بها والدها، من جهة، ولأنها إبنة غير شرعية (كما يشاع) لأم سومرية، من جهة ثانية، بل أن البعض راح يلقبها بـ “العاهرة القديسة” على غرار مريم المجدلية. ومهما كثرت الأقاويل حولها، فإنها االكاهنة العظمى والشاعرة والزوجة، وسيدة زمانها، ولم تناظرها سيدة أخرى في تاريخ الأدب الأوروبي سوى الشاعرة الأغريقية (سيبفو) بعد مرور 1700 سنة. والأنكى من ذلك، أنها سبقت كتابة ملحمة گلگامش بـ (800) سنة، ولذلك يصفها  الناقد والمترجم والمولع بأدبها الدكتور وليم هالو بـ “شكسبير الأدب السومري”. وقد ترجم أعمالها فريق متخصص من جامعة كاليفورنيا – بيركيلي نثرا ثم قامت بصياغة الترجمة شعرا سلسا إلى الإنكليزية الباحثة في آداب بلاد الرافدين (بيتي دي شونغ ميدر). يغلب شعرها الذي يجمع بين التراتيل والقصيدة الشعبية (ما مجموعه 45 عملا إبداعيا) طابع الصراع والمعاناة والنشوة والمدح والهجاء بسبب إقصائها عن مركزها السياسي – الديني بعد وفاة والدها بعقدين من الزمن، كما يعكس صورة المرأة ومشاعرها وشخصيتها الحقيقية في تلك الحقبة الزمنية. وسيتضمن الجزء الثاني من هذه السيرة أحدث ما قيل فيها حتى سنة 2010 وترجمتي العربية عن الإنكليزية شعرا لبعض من أبيات قصائدها، وإليكم منها رباعية من قصيدتها المؤلفة من 153 بيتا أختتم بها الجزء الأول:

 

مزهوة بنصري كنت ذات مرّة،

ونـُفيت من معبدي على حين غرّة،

كالخـُطـّاف مرغمة من نافذة تسلـّلتُ،

بعد عمر بين رائحة البخور أفنيتُ.

 

الأردن في 15/9/2010

 

المصادر الرئيسية المعتمدة:

 

McHale-Moore, Rhonda (2000). The Mystery of Enheduanna’ Disc. Journal of the Ancient Near Eastern Society 27, pp. 69-74.

Meador, Betty De Shong (2009). Princess, Priestess, Poet: The Sumerian Temple Hymns of Enheduanna. Austin: University of Texas Press.

http://www.angelfire.com/mi/enheduanna/

http://www.angelfire.com/mi/enheduanna/Enhedwriting.html

http://www.angelfire.com/mi/enheduanna/Enhedbibliography.html

http://www.gatewaystobabylon.com/myths/texts/enheduanna/enhedwriting.htm

http://www.zyworld.com/DrBernardSButler/Enheduanna.htm

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *