أنا مَنْ ضَيَّع بالأوهامِ عُمْرَه … نَسيَ التاريخ أو أُنسيَ ذِكْرُه

أحكي لنا عزيزي القارئ كيف أضَعْتَ عُمرَكَ في الأوهام؟ هل أضَعْتَهُ في البحث عن فارسة الأحلام ؟ أم في الفوز بعَقدٍ وهميٍّ في المنام؟ أم أن تكون مليونيرا وما زلت بالأنتظار؟ أم بالحصول على وظيفة وما زلت تطرق أبواب الدوائر ؟ أم بالفوز ببلد الهجرة وما زلت تقضي الساعات الطوال في طوابير أمام أبواب السفارات ؟ أم ماذا وماذا وماذا ؟

سأكون أول المتكلمين، لذا قبل أن أسمع منك سأحكي لك قصتي قصة الأوهام والحسرة، حكاية حبي المحزون والعشرة، حكاية عمري المنهار والخمرة، ساروي قصتي المُرّة، سأرويها بلا حرجٍ سأحكيها، ففيها بعض تعزيتي … ومنها كل تجربتي … خرجتُ بها من الدنيا … فيا لهفي على عمري الذي قد ضاع … ومات على هوى الأطماع … فيا حسرة.

لقد أضعتُ عمري في وهمٍ أسمه الحرص على بلادي ووطني وذلك من خلال حرصي على وظيفتي وإنجاز واجباتي، وتنفيذ أوامر وتعليمات كانت تصلني يومياً من خلال مسؤولي الوظيفي المباشر والذي كان يُمثل الوطن ومسؤولية الوطن، على الأقل من وجهة نظري، فهو الآخر مرتبط بمسؤول أعلى وأعلى وصولا إلى الوزير ومن ثم رئيس الدولة، أضعتُ عمري من خلال حرصي على عملي، وتنفيذ واجباتي على أكمل وجه، وتطلّب مني ذلك تضحية كبيرة بوقت أكبر، مقابل الخلل الكبير في بعض الواجبات البيتية ومتطلبات أمور العائلة، مما أثقل العائلة بالطلب من أهلها (الذين كانوا قريبين جدا من بيتنا) لتنفيذ تلك المتطلبات (تبضع، مراجعة طبيب وغير ذلك)، هذا الحرص في الجانب الآخر اقول أدى إلى خلل في الواجبات البيتية، ووضعها في آخر الأولويات، لقد كانت الوظيفة والحرص عليها في أول سلّم الأولويات.

إن العمل في المؤسسات والدوائر النفطيةوخاصة شركات مثل شركة نفط الشمال وشركة حفر الآبار النفطية والإستكشافات النفطية وغيرها كان يتطلب من جميع العاملين فيها بذل جهوداً استثنائية وتضحية كبيرة بالوقت والبيت وغير ذلك، تضحية أكبر مما تتصورون، تبلغ في بعض الأحيان الجود بالنفس، والجود بالنفس أقصى غاية الجودِ، لقد فقدنا أصدقاء وأعزاء عملنا معهم في نفس المواقع وذلك نتيجة خلل بسيط في أداء عمل بعض الأجهزة، العاملون في شركة نفط الشمال يتذكرون حادثة تسببت في موت مناوبة ليلية كاملة ابتدأت من العامل وأنتهت بالمشرف على العمل، حيث مرّ في أحد الأيام أحد الأطباء ليلاً وكانت بحدود الساعة العاشرة ، مر من أمام دائرة وقسم يعرفه الكثيرون في شركة نفط الشمال، وهو قسم التركيز (القديم) وهو قسم كبير جداً يتم ضخ النفط أو هو يستقبل النفط الخام المستخرج من الابار حيث يدخل في عمليات عديدة يتم هناك فص الغازات وبعض المشتقات الثقيلة قبل أن يتم تصديره إلى منافذ التصدير، وهناك نوع من الغازات يسمة بـ (الغاز الحلو) عندما يستنشقه المرء لأول مرة يشعر بحلاوته ويريد إستنشاق كمية أكبر ولا يدري بأنه يستنشق السم الزعاف، المهم لقد جلب إنتباه ذلك الطبيب موت عدد كبير من الطيور عند المنطقة القريبة من النار الأزلية الخالدة في منطقة بابا گرگر فاستنتج من ذلك بأن هناك تسرب في الغاز أدى إلى موت  هذه الطيور، فاتصل بالمسؤول الخفر، ولما لم يرد أحد على الهاتف تم الإتصال بحرس الباب الرئيسي قذهب حارس لإستطلاع الأمر ولم يعد، تم إرسال سيارة الإطفاء الخفر وكان سائقها آنذاك المرحوم عبد المجيد مذري الجنابي، فذهب ولم يعد ، تم إتخاذ الإجراءات اللازمة ولبس أقنعة الوقاية والدخول إلى المنطقة فكانت المأساة الكبيرة، الجميع موتى وكأنهم نيام، كل واحد في موقعه، الكاتب في غرفته وسائق السيارة في سيارته على مقود القيادة والأضوية المحذرة تعمل ، لم ينجو من الحادث سوى شخص واحد فقط رحغ خارج منطقة الخطر بإتجاه عكس تيار الهواء وأسمه اسطيفانوس وقيل بأنه لديه مقاومة أقوى من الآخرين بسبب كثرة شربه للكحول، ونجى من الموت بأعجوبة، كان عدد الشهداء من أجل الواجب حينها بلغ على ما أتذكر إثنا عشر شهيداً، في وقتها كنت أعمل في قسم الكهرباء في المنطقة الأولى ـ التركيز، اي في نفس منطقة الحادث،وليس في نفس المناوبة. ولا ينسى القدماء في شركة نفط الشمال العامل النقابي غازي عندما أندفع بجنون ليغلق صمام النفط بعد أن شب الحريق في تلك المنطقة وبقي معوقاً ومشوهاً حيث اثّرت النيران على وجهه ويديه وعوّقته.

من خلال هذا السرد أود أن اقول بأن العمل في هذه المنشآت لا يخلو من خطورة وتضحية كبيرة قياساً إلى عاملين آخرين في دوائر الدولة المختلفة، مثل المعلم والتاجر ودوائر الدولة الخدمية، لقد كان كل همّنا هو الحرص الشديد على إنجاز العمل بشرطين السرعة في الإنجاز والدقة في الإنجاز مع الحرص الشديد على عدم إضاعة دقيقة واحدة من الوقت، فكان كل شئ بأوانه، حيث هناك وقت للتدخين كما أن هناك وقت لتناول وجبة الطعام وغير ذلك كل الوقت للعمل، وكم مشادة وشجار حدث بسبب تلكوء عامل في إنجاز عمله، لقد تطلب منّا ذلك جهداً إضافياً، يصل في بعض الأحيان وخاصة في شركة الحفر العراقية أن تغيب عن البيت لعدة ايام بلياليها تقضيها في إصلاح عطل في موقع حفر عين زالة مثلا وقبل الإنتهاء منه تتلقى مكالمة هاتفية لوجود عطل آخر في موقع الضفرية مثلا في جنوب الكوت، فما على الموظف الفني إلا الإمتثال بحيث ينهي واجبه في عين زالة ليتحرك فوراً إلى الكوت وتلك في الشمال وهذه في الوسط وهكذا كل كادر شركة الحفر من السائق إلى المدير، الكل في حالة إستنفار تام لتنفيذ جميع الواجبات، وهذا يتطلب المبيت لعدة ايام خارج الدار وإهمال الواجبات البيتية ومتطلبات العائلة إهمالاً تاماً من أجل الواجب الأسمى ألا وهو راحة الضمير من خلال إنجاز الواجب بزمن قياسي وبأداء تام مائة بالمائة، فتحضى على رضى النفس قبل رضى المسؤول، وتقف أمامه بكل شجاعة. فكم من موظف فقد وظيفته من أجل حاجة صغيرة وضعها في جيبه وأعتبرت سرقة، ولن انسى ذلك الموظف الذي أختلس ثلاثون فلساً في سبعينيات القرن الماضي وتم إحالته إلى محكمة الثورة بتهمة الإختلاس فقد على أثرها وظيفته وسمعته وشرفه. بينما اليوم تسرق الناس مليارات وتعترف بصوت عالٍ وأمام عدسات التلفزيون وفي كل المحافل الإعلامية بأنها سرقت وما زالت تسرق وتحكم البلد، لذا يعتصرني الألم على هؤلاء وهؤلاء، ولسان حالي يقول كما قال عادل إمام عندما تمرض وذهب غلى المستشفى وتبين أنه قد بلع ليرة واحدة فقط فانفضح أمره حينها قال : لقد بلعتُ ليرة واحدة فضحتوني والذي يبلع مليارات لم تتمكن أقوى الأشعات أن تكتشفه.

أنا الذي ضيّع بالأوهام عمره حينما أرى ما كنتُ حريصاً عليه يُهان اليوم على ايدي سراق ولصوص بالأسم عراقيين، وبالفعل ذئاب خاطفةن مزقت الوطن شرّ تمزيق، ارى ذلك الوطن الذي قضينا سنين عمرنا الحلوة بالحرص عليه والسهر من أجل حمايته والعمل على رفع أسمه عالياً، ارى اليوم المجرمون وقد أشهروا خناجرهم فمزقوا أرض العراق وقطّعوا أوصاله وأعتدوا على شرفه، ولم يسلم من أذيتهم وسمومهم لا سماء العراق حيث تراها ملوثة ولا هواء العراق وماءه حيث تراهم وقد نشروا السم فيه ولا أرض العراق التي قام الطغاة بملئها بالعقارب والحياة والحيوانات الشرسة التي تفتك بشعب العراق، مزقوا العراق ارضاً وماءً وسماء، قطّعوا أوصاله بين مذهبية وقومية ودينية وطائفية وعشائرية مقيتة، وفي هذا المجال أذكر قول الشاعر : فمرحى لِكُفْرٍ يوحِّدُنا … وأهلاً وسهلاً بعده بجَهَنّمِ

لقد تصحرت الأراضي، وتفككت المعامل وتسممت المياه وقتلت السماك وتشرد ابناء الوطن، وأهين الشرفاء من ابناء بلدي، ارى ذلك اليوم الأسود وأقارن بين ذلك العمر الذي قضيته وقضاه معي كل مخلص وشريف ، فأوجه إعتذاري إلى زوجتي واولادي واقول لهم : ايها الأعزاء لستُ نادماً على كل ما فعلته، ايها الغوالي لستُ نادماً على تقصيري بواجباتي تجاهكم بالرغم من أن الله عز وجل أوصاني بكم، لا بل فَرْضٌ فَرضه عليَّ، أن أهتم بكم وأن تكونوا في أول أولوياتي، اقولها اليوم وأنا ابلغ الثامنة والستين من العمر عذراً زوجتي العزيزة وعذرا أولادي الأعزاء إن أهملتُ واجباً من الواجبات، إن لم أتمكن من إصطحابكم إلى السينمات ودور العرض او السفر للنزهة في مصايف العراق وآثاره وجمال طبيعته، فذلك لم يكن من ضعفي ولا تقصيرا مني بل لأن هناك شيئاً كان أولى منكم وهو واجبي تجاه عملي الذي هو واجبي تجاه وطني وكان ذلك فوق الجميع. لأن عزّنا من عزّ العراق، ومجدنا وفخرنا وحياتنا من رفرفة علم العراق في الأعالي، ولما زالت تلك القيَم هربنا.

ورحِمَ الله مَن قال : راحَتْ أرجال الحامض السمّاگي … وظَلّتْ أرجال بالعَصا تنساگي

نعم وكما قيل سأذكرك يا عراق لأنني غريب ومستوحش، ساذكرك يا وطني الحبيب، ساذكرك يا عراق كما يذكر الفقير مائدة الطعام الشهية، وكما يذكر الملك المخلوع ايام عزّه ومجدهِ، سأذكرك يا عراق كما يذكر الأسير الكئيب ايام حريته، سأبقى افكر بك يا عراق كما يفكر الفلاح بأغمار السنابل وغلة البيادر، سابقى أترنم بأسمكَ يا عراقمثلما يترنم الوادي بصدى رنين نواقيس الكنائس، سوف ابقى أصغي لأحاديثك يا عراق مثلما تصغي الشواطئ لحكاية الأمواج.

أعزائي القراء الكرام هذه هي قصة أوهامي، رويتها لأن فيها دمع أحلامي، فلا تستنكروا فيها، دموعي حين أجريها، فقد أوحَتْ ليَّ الأشعارً لما كنتُ أمليها … بكيتُ … ورحتُ ارويها … فيا حسرة … لقد دارت ساعة الزمنِ … فيا ماساة أحلامي … لقد ضيّعتُ ايامي … وصرتُ غلى غَدٍ دامي … على وهْمٍ بِلا أمَلِ … اياماً لستُ انساها … اصبحَتْ تاريخاً ما أحلاها … واقاصيصاً نسجناها … فجاءَتْ دَمْعَةُ المِحَنِ … لتبقى في يَدِ الزَّمَنِ … تُعَبّر عَنْ أغانينا … تتحدث عن مآسينا … لأن فيها إخوّتنا … ستبقى رمز وحدتنا … وشِعارُ عزّتنا … زذاك الذي يعزّينا.

قيل لا تحزن فوراء الغيوم شمسٌ مُشرقة .. فإلى مَ ننتظر ؟

والآن عزيزي القارئ أعطيك المجال للتعليق وتحكي لنا كيف اضعت عمرك بالأوهام كما ضيّعته أنا.

تحياتي وتقديري4/11/2018  

  د. نزار عيسى ملاخا

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *