أصل الإنسان في عقيدة الكلدان

 

ينتقدني بعض الأصقاء المقربين، بروح من المحبة، حول إصراري على الكتابة في مواضيع تتعلق بالتأريخ الرافديني الوثني الذي أكل عليه الدهر وشرب، وينصحوني أن أكتب، عوضا عن ذلك، بما يمليه علينا الحاضر من متطلبات ومنغصات خشية توسيع رقعة الخلافات بين ورثة هذا التاريخ حول أحقية العائدية والملكية. لهؤلاء الأحبة وللقراء الكرام أقول: كنت جاهلا بدقائق الأمور في تأريخ وادي الرافدين خلال العقود الماضية حتى جاء عصر المعلوماتية وأفاقني من سباتي، والشكر موصول لكل من كتب عن التأريخ الكلداني/الآشوري بتوثيق أكاديمي رصين أو محرّف عن الأصل أو حتى من كتب بوازع من العاطفة وتمسك بحرفية الأسماء البائدة على حساب التاريخ المعاصر. وإذ قررت ألا أبقى جاهلا إلى أجل غير مسمى ، خرجت عن صمتي باحثا عن الحقيقة التاريخية، كما يفعل غيري في العالم، في بطون الكتب الأجنبية التي تعتمد الدلائل المادية لأضع النقاط  فوق الحروف من وجهة نظر تاريخية بحتة لا علاقة لها بواقع إثني معاش، ومنها قصة آدم وحواء وقبور الكلدان وعلومهم وآدابهم. ولا شك في أن القارىء يتشوق إلى معرفة الأصول، مثلا. لا يهم إن كنت داروينيا أم متدينا، كلدانيا أم آشوريا، فموضوع الخلق ما زال يستهوينا جميعا، وإليك الحكاية من البداية في عقيدة الكلدان القديمة كما تنقلها لنا المؤرخة زينادي اليكسفنا روكوزين (1835-1924) الذي نشر كتابها عشر مرات بين سنة (1886-1905) فقط  وأودع في  264 مكتبة عالمية حتى هذا التاريخ، فضلا عن الطبعات اللاحقة حتى يومنا.

 

يفيدنا نقش مرسوم على لوح فخاري إسطواني الشكل (محفوظ الآن في المتحف البريطاني) أن قصة آدم وحواء التي يتحدث بها سفر التكوين هي واحدة من أقدم قصص التاريخ التي حصلنا عليها من الأساطير البابلية/الكلدانية المدونة. نجد في هذه الصورة رجلا وامرأة وقد جلسا على مقعدين تتوسطهما شجرة. يد الرجل اليمنى ويد المرأة اليسرى ممدودتان نحو الثمرة (المحرمة، كما تقول التوراة وتداولتها الكتب الدينية لاحقا)، بينما تنتصب حيـّة خلف المرأة. وجدنا تطابقا بين ما يرويه لنا بيروسز (بيروشا)، المؤرخ الكلداني الأول الذي شهد أحداث التاريخ، وبين ما هو مدون في النصوص البابلية الأصلية، وإليكم ما جاء في كتاب المؤلفة روكوزين:

 

من طين خلق الإنسان، ولكن بعد أن جبله بعل (الله) بدمه ونفخ فيه روحا. وهذا ما يفسر تمتع الإنسان بالعقل دون غيره من الخلائق، من جهة، ورواية الطبيعتين الإنسانية والإلهية في ملوك بابل (كما جاء في ملحمة گلگامش، مثلا)، من جهة ثانية. من العدم خرجت المخلوقات بعد أن كان الكون ماء وظلاما. وقبل أن ينتصب الإنسان على قفاه وبشكله الحالي، كان هنالك من يتشبه به من الإنس بأشكال متعددة. ظهر في الوجود الأولي بشر برأس واحد أو رأسين، بأجنحة من عدمها، بأرجل وقرون ماعز، أو بمؤخرة تشبه مؤخرة حصان. كما ظهرت إلى الوجود ثيران برأس إنسان وكلاب بذيل سمكة وأحصنة برؤوس كلاب، وكل ما جاز لك أن تتخيله من مخلوقات غريبة، كما في الأفلام. وعندما حانت ساعة الحسم، فـُرزت المخلوقات على هيئتها الحالية واختفت المخلوقات الغريبة عن الوجود إلى الأبد منذ اللحظة التي فصل فيها الإله بعل السماوات عن الأرض وأخرج خليقته إلى النور. ولإحياء ذكرى الخروج من العدم إلى النور ومن العالم الوحشي إلى عالم الإنسان المتحضر، أقيمت المعابد وسطرت على جدرانها ملاحم القضاء التام على ذلك العالم الخرافي الزائل. وجدران معبد الإله بعل – مردوخ في بابل تتغنى بهذه الأساطير الخالدة التي يشهد عليها بيروسز، راعي هذا المعبد الشهير. ومما يؤسف له، إن هذه الآثار التي بقي القليل منها طالتها يد الزمن والعبث والسرقة والتكفير، وخير مثال حي نسوقه في هذا الباب هو ما فعله أهل الموصل بآثار نينوى في القرن التاسع عشر من تخريب وتهشيم تارة، بحجة أن التماثيل الآشورية هي أصنام تتعارض وشريعة الإسلام، وسرقة المصوغات الذهبية والفضية وغيرها من النفائس تارة أخرى. ومذكرات الآثاري لايارد المحفوظة في المتحف البريطاني هي خير شاهد على ما نسوقه في هذا الباب. وتروي لنا مؤرخة الكتاب الذي بين أيدينا بعض الطرائف التي تعكس مدى التخلف الحضاري الذي كانت تعيشه مدينة الموصل آنذاك، ربما بسبب الهيمنة العثمانية التي عاثت في الأرض فسادا. وسرقة لايارد وغيره للآثار وتهريبها إلى بريطانيا وفرنسا هي، حسب اعتقادي، سرقة حضارية خدمت الإنسانية جمعاء، وستبقى ذكراه وذكرى من عمل في فريقه عطرة في نفوس الباحثين من بعده.

 

على أية حال، نعود إلى تكملة حديثنا عن النقش البابلي على إسطوانة “آدم وحواء” ونعلق على موضوعة الشجرة تحديدا. تقول المؤرخة أن الآثاريين عثروا على إسطوانات وأختام مماثلة تظهر فيها الشجرة وكأنها شجرة نخيل بابلية بدليل أغصانها التي تشبه السعف أحيانا أو شجرة السروّ الآشورية. ومهما يكن من أمر، فقد اتخذ منها الكلدان البابليون رمزا مقدسا جدا في ديانتهم لاعتبارها شجرة الحياة، ودليلنا في ذلك هو كثرة رسمها على جدران المعابد والمنحوتات والأختام التي كانت تظل معلقة على خاصرة من يـُوارى التراب، وهذا ما حصلنا عليه من مقبرة الوركاء الشهيرة، مما يقودنا إلى الاستنتاج بأن الكلدان كانوا يؤمنون بالحياة بعد الممات أيضا. وقد ورث الآشوريون عن بلاد الأم، بلاد الكلدان، تعويذة الخير هذه، من جملة الطلاسم والطقوس الدينية، بدليل أن ملابس ملوكهم كانت تزينها الشجرة المقدسة إيمانا منهم بأنها تحميهم من الشرور والأعداء، ناهيك عن إضفاء القداسة والرعوية والعظمة لشخصهم. ومن المفارقات التي ما زالت تحيـّر علماء الآثار أن آثار آشور، بعكس الكلدان، تخلو من المقابر الآشورية، باستثناء ما هو فرثي وفارسي وعثماني في العصور المتأخرة، مما عقـّد الأمر على علماء الأجناس في تحديد هوية الأعراق. وهذا ما سنتحدث عنه في مقال منفصل.

 

المصدر:

 

Ragozin, Zénaïde Alexeïevna (1886 [2008]).  Chaldea from the Earliest times to the Rise of Assyria: Treated as a General Introduction to the Study of Ancient History. London: T. Fisher Unwin. The Project Gutenberg eBook, 2008.

 

الأردن في 10/9/2010

 

 

You may also like...

1 Response

  1. ثائر ساكو says:

    لم أفهم ما تريد الوصول اليه
    هل تنوي إثبات وجود الله أم العكس
    ثم إنك تتكلم عن شجرة السرو الاشورية في أختام البابليين والكلدان علما أن الحضارة الاشورية أتت بعد الحضارتين المذكورة أعلاه

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *