هَلُـمّوا يا مُباركي أبي رِثوا الملكوت – بقلم الشماس د. كوركيس مردو

يا لها من صفةٍ سامية وجميلة < مُباركي أبي > سيطلقها يسوع على بعض الناس. وهنيئاً لهم بالإرث الثمين الموعود لهم به < ملكوت السماوات > تُرى، هل لنا أن نعرف مَن هم هؤلاء المُباركون؟ وما هو ذلك الإرث الذي سيرثون؟ ليس مِن شَكٍّ بأن اولئك المباركين هم الذين أخلصوا لدعوة يسوع، فأحبَّهم لأنَّهم أرضوا قلبه بعملهم اقتداءً به ولم يزيغوا عن طريق هو افتتحها! كما ليس مِن رَيبٍ، بأن الملكوت الذي وعدهم به هو مُشاركة يسوع بمجده. وهذا هو الإرث الذي ينتظره جميعُ المؤمنين بالمسيح الحافظين لوصاياه! فاتِّباع يسوع يُحتِّم علينا أن نُضطهَد كما اضطهِد ونُكرَّم كما أُكرِم! < وليس عبد افضل من سيِّدِه >

ما أكثر اولئك العابثين بالدعوة المسيحية سعياً منهم لتتطابق مع حساباتهم وتتلاقى مع أبعادهم! ولكنَّ يسوع ترك لنا طريقته إرثاً لنا < إخلاء الذات > مَن اهلك نفسه مِن أجل يسوع يجدها ومَن طلبَ الخلود لنفسه يُهلكُها. وهذه الطريقة اعتمدها أبناء المسيحية في بداياتها الأولى كطريقةٍ جديدة للحياة لأنها تُشدِّد على واقع المسيحية الفعلي ايماناً وثماراً. وإنَّ اروع مثال يُعبِّرعن هذه الطريقة ما قاله يسوع: < انتم مِلحُ الأرض > إذ المعروف عن الملح بأنَّه من اكثر العناصر تأثيراً وضرورة في المواد الغذائية للحياة، من حيث حفظه للأطعمة وصيانتها من الفساد، إضافة الى إعطائها نكهة ألذ. ولذلك ضربه المسيح مثلاً لميثاق دائم لعدم الفساد او الإنحلال فصار” للملح عهدٌ “.

لذلك وصف الرب المسيحيين بأنهم ملح الأرض، لأنهم يُعطونها معنىً وطعماً. المسيحية تمنح البشرية هويتها الحقيقية، وبدون المسيحية لا طعم للبشرية ولا هوية أمام الله وفي التاريخ. المسيحيون الحقيقيون أداة لحفظ العالم وإعطائه الطعم والهوية. المسيحية رسالة ومسؤولية كُلِّ مسيحي، ويا لها من خسارة إذا لم يلتزم بها او فقدها، وعبَّر يسوع عن جسامة هذه الخسارة بقوله: < وإذا فسُد الملحُ فبماذا يُمَلَّـح >. فالسِرُّ في الملح هو نهج حياة المسيح الرب ذاته وأتباعه من بعده. الملح يزول مفعوله إن لم يذب ويختفي. وإذا لم تذب دقائق الملح وتختفي تُصبح كالزوان في القمح وكالحصى في الطعام.

بمجرَّد اتِّباعنا المسيح وتمثُّلِنا به نرث طريقة إنكارالذات وبذلِها، يُسيءُ التصرُّف مَن يعمل لتبرير نفسه او للظهور. مَن انعدم الجرأة لطلب الذوبان والإختفاء في الكنيسة، فإنَّ جهوده لا تبني مهما بذل وقدَّم، لأنَّه يُجزّيء، ولذا علينا أن نقرِّر، ومثل هذا القرار يحتاج الى الإيمان والتصميم، بأن < لا لنا يا ربُّ لا لنا بل لكَ المجد > و < كُلّ ما فعلناه إنما نحن عبيدٌ بطالون >.

الكنيسة هي مؤسسة يسوع الرب، ونحن اعضاء في جسد الكنيسة، فأية طريقة اخرى في العمل ضمنها هي هدم. إذا بنينا لذاتنا انتقصنا من جسم الكنيسة، وإذا أخلينا ذاتنا بنينا جسد الكنيسة. كانت هناك في الكنيسة حبات ملح لتملِّح لكنها لم تَذُب فتحوَّلت الى حصىً أفسدت الطعام بدل أن تُملِّحَه، فنغَّصت حياة الكنيسة. كانت الإضطهادات التي عصفت بالكنيسة سيِّئة جداً، ولكنَّ سوءَها كان أقلَّ ضرراً مِمّا أساءَت إليها الشقاقات الداخلية الناتجة عن حب الذات في الإستحواذ على المراكز والسلطة والكراسي!! مَن يعمل في طريق إظهار الذات تاركاً الطريق المؤدي الى السعد يوماً في الملكوت، وإن ذاق لذة الظهور، ولكن شتّان ما بين الطريقين.

ماذا يتبادر الى أذهاننا عندما يكثر الفعلة في كرم الرب “الكنيسة” أيدلُّنا ذلك الى توفر طعام أفضل لأنَّهم ملح،  وهذا هو المنشود! أم لا سمح الله نُفاجأ بنشوب الصراعات بينهم لأنَّهم حَبّات تبحث عن كياناتها وليس عن الخدمة،  وإن جرى ذلك تحت شعارات الخدمة والعمل! وهل إنَّ الهيئات كُلَّها تذوب عملاً في خدمة الكنيسة، أم أنَّ الكنيسة تُستخدَم لتكوين هيئات؟

ليست الكمية المُهمّة في الخِدمة، بل النوعية لأنها هي التي تُثمِر! ليس رميُ الكثير من الملح هو المهم، بل الأهم هو أن يذوب الملح فيُعطي طعما لذيذاً للمأكل. إذا كانت حبّات الملح غير قابلة للذوبان تُصبح غير ضرورية بل مُضِرّة! إذا كُنا نسعى الى خلق كيانات في الكنيسة، فلن نُعَدَّ بعد ملحاً ويحق طرحنا خارجاً، أما إذا كان لنا استعداد لإفناء كياننا فنكون أهلاً للخدمة، وبذلك يختفي الكُل وتظهر الكنيسة.

عندما مدحنا يسوع بقوله لنا < أنتم ملح الأرض > فبقبولنا لهذا المديح نرث الملكوت! وما أجمله من ملكوت نظهر فيه في الخفية والكنيسة في العلانية < لنا أن ننقص وله أن يزيد > كنهج المعمذان. لا تأتي جرأة إخلاء الذات إلا من الإيمان الحقيقي واقتفاء آثار يسوع، وهذا يجعلنا ملح الأرض! (المقالة مستوحاة من كتاب <السائحان بين الأرض والسماء> – الله والإنسان- ج 2.

الشماس د. كوركيس مردو

في 27/7/2015

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *