هل ينقطع الحبل السري مع الوطن بعد الهجرة…؟

 

لست ممن يدافعون عن ظاهرة الرحيل عن الوطن وجعل بلاد الغربة أرضاً بديلة له، ولكن مأساة الهجرة الطوعية والقسرية أو المبرمجة هي سلاح ذو حدين ومسألة معقدة شائكة لا يمكن المرور بازقتها المظلمة على عجل والخروج بقناعة منطقية عن دوافعها المتباينة ووضع حلولاً جذرية لها دون القيام بمراجعة شاملة لأوضاع البلد وإجراء تحليلات موضوعية وإستنتاجات منطقية لأفاق المستقبل، إضافة إلى أن لكل مهاجر قصته وظروفه الإجتماعية والعائلية التي كان يعيشها، وما يطرحهُ من مبررات مشروعة من وجهة نظره الخاصة بالرغم من أن التحديات الخانقة في المجتمعات الغربية تُفقد بعض المهاجرين الشباب توازنهم من ناحية سُبل العيش وتثير مخاوف كبار السن وتجعل تأقلمهم مع المجمتع الجديد بكل سلبياته وتناقضاته مع تقاليدهم وعادتهم في غاية الصعوبة، ويزداد قلقهم حينما يدركون بأن أبنائهم وأحفادهم سيفعلون غداً ما ينتقدونه ويستهجنونه ويسخرون منه اليوم .

وبنفس الوقت ليس من الإنصاف أن نتنكر للمساعدات والخدمات التي تُقدم للمهاجرين والتي إفتقدوها في بلادهم منذ عقود وقرون، لاسيما ما يتعلق بالإستقرار والأمان والمساواة والعدالة والحرية الشخصية والعناية الصحية خاصة بالمسنين، وتقديم المعونات المالية والإجتماعية وتوفير فرص العمل والإهتمام بمواهب الطلاب ورعاية الأطفال ودعم الدارسين في الكليات والجامعات وصون كرامة كافة المواطنين والعمل على رسم مستقبل واعد لأبنائهم وغيرها من أمور.

إن للهجرة من الوطن أسباب كثيرة أذكر بعضها من وجهة نظري الخاصة والتي خبِرَها معظم أبناء شعبنا:

 1. هنالك من هاجر نتيجة التوجس من الغد المجهول والقلق النفسي اليومي الذي أفرزه العنف المتصاعد والخشية من تفاقم موجات الإرهاب الأسود وإنفلات زمام الصراع الطائفي الذي برز جلياً على سطح الأحداث خاصة بعد سقوط النظام السابق وإستحالة التنبأ بما ستؤول إليه تراكمات الظروف المعقدة في العراق وإنعكاساتها على المسيحيين وباقي الأقليات .

 2. البعض قرروا مغادرة الوطن ليحموا عوائلهم من سيف الإضطهاد المسلط على رقابهم، وهرباً من المخاطر اليومية التي كانت تواجههم وللإبتعاد عن العيون التي ترصد حركاتهم في مدارسهم وأعمالهم وتنقلاتهم ومنهم بعض رجال الكنيسة ، وتفادياً لشبح الموت الذي كان يحوم حولهم في كل حين والمتمثل بالتفجيرات والإغتيالات والإستهداف المبرمج وتهديدات بالقتل أو الرحيل عن طريق رمي ظروف بريدية في مداخل الدور تحتوي على إطلاقات.

 3. منهم من نجا من الإختطاف بمعجزة بعد أن إشترى حياته بفدية باهضة، ففر من بيته مع عائلته تحت جنح الظلام تاركاً خلفه جهد العمر وشقاء السنين من أجل الوصول إلى مرفأ أمن يوفر حياة كريمة لعائلته ويضمن مستقبل واعد لأبنائه .

4. أخرون كانوا يملكون ثروة طائلة، وحينما قارنوا حياة ومستقبل أفراد عائلتهم بمالهم، أختاروا الأول لأنهم إقتنعوا بأن المال لا قيمة له لو فقدوا أحد أبنائهم بحادث مؤسف أو عند إبتزازهم والإنتقام منهم لأسباب متعددة، وحينذاك لا يفيد الندم ولا النواح على الأطلال .

5. ونتيجة للوضع المعيشي الصعب الذي كانت تعاني منه شريحة معينة من سكنة بغداد ومحافظات أخرى منذ عقود، مثل البطالة وقلة فرص العمل وشحة متطلبات الحياة وغياب وسائل الراحة ونقص الإحتياجات اليومية وخاصة في كثير من القرى والبلدات في شمال الوطن، إضافة إلى السعي نحو تحقيق الأحلام الوردية التي تثيرها الأخبار المغرية التي تصلهم من المهاجرين القدماء، لذا غلبتهم غريزة حب الحياة والسعي نحو العيش الرغيد على مشاعر التعلق بالوطن وهو حق إعتبروه مشروعاً ولسان حالهم يقول : ” المال في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة “، وهنالك من يقول : الكرامة والحرية والامان في الغربة وطن، والخوف والتوجس والترقب في الوطن غربة .

6. أخرون برروا هجرتهم لضرورة لم شمل العائلة المبعثرة وحاجة الأبناء لبعضهم ولأبائهم، بينما غيرهم ساروا على خُطى أصدقائهم وأهلهم وأقاربهم وجيرانهم تماشياً مع مقولة ” قفزعنزٌ فقفزتْ أعناز”.

7. أما من اُطلق سراحهم من الأسر بعد سنوات طويلة مضنية من المعاملة القاسية والإهمال الصحي والحرب النفسية وغسل الأدمغة، فعادوا إلى الوطن بحالة نفسية مُتعبة، فوجدوا أنفسهم غرباء عن مجتمعهم متقوقعين داخل عائلاتهم، لا يمكنهم العمل أو الإنسجام مع من حولهم لان كل شيء قد تغير. وأحد أولائك الذين ظلمتهم الأقدار وصل إلى سان دييكو قبل مدة بساق واحدة بعد أن قضى 15 سنة في الأسر وبعدها معاناة مماثلة لمدة 7 سنوات أخرى مرت عليه دهراً على أرصفة الغربة ومحطات الأنتظار. هل من ينتقده لرحيله عن الوطن …؟

8. وقد تكون الهجرة مخطط سياسي رسمته قوى خفية تمتلك قدرات مالية هائلة وماكنة إعلامية مؤثرة، تدير العملية بحنكة ودهاء وينفذ أوامرها قادة وساسة مرتبطين بخيوط عنكبوتية تحركهم أصابع محركي الدمى، غايتها إفراغ الشرق الأوسط من مسيحييه بعد إقتلاعهم من جذورهم وتهجيرهم ليذوبوا بعد عقود في المجتمعات التي سيعيشون فيها كمكعبات جليد تُرمى في وعاء كبير، وقد تكون العملية دفع فاتورة مستحقة لأحداث تاريخية قديمة.                      

 ومهما تكن الأسباب فأن هذه الظاهرة ليست عراقية محضة، وليست وليدة اليوم، بل هي موجات هجرة متواصلة من بلدان عربية وإسلامية وإسيوية مستقرة وحتى أوروبية شرقية، حيث الملايين مشتتين في أصقاع الدنيا بعد أن حمل كل مهاجرهمومه وقدره كحقيبة مسافر ورحل بصمت نحو أهداف رسمها في مخيلته لمستقبله.

وما زلنا نتذكر المشاهد المحزنة لكثير من الألمان الشرقيين وهم يجازفون بحياتهم ويتسلقون جدار برلين ليلاً وحتى في ضوء النهار للوصول إلى الجزء الغربي من نفس المدينة وفي ذات الوطن، من أجل تحقيق عيش أفضل ومستقبل واعد .

لذا، لا يمكن لأية سلطة أو قوة مهما حاولت، أن تقف بوجه موجات الهجرة إلا بعد زوال أو تلاشي الأسباب الموجبة التي أدت إلى تسارعها في السنوات الأخيرة، وربما بعد رسم صورة جديدة للوطن أو نهاية الحلقة الأخيرة من المسلسل التاريخي المعروض أو حدوث مفاجأة ليست بالحسبان، ليعود السلام والإستقرار والامان مرة ثانية إلى أرض الأباء والأجداد، فيكون حينذاك مراجعة ذاتية فيصبح لكل حادث حديث ولكل مقام مقال ولكل زمان رجال .

أما محاولات وقف الهجرة سواءاً كانت بمجرد توجيه إتهامات أو إنطلاقاً من مشاعر الحرص والتمنيات، تشبه تهديد والد لولده، بحرمانه من الميراث ونعته بالجحود وألقاب ليست من صفاته (الأب والكل يعلمْ ذلك) إذا غادر البيت دون إذنه، بدلاً من بذل المستحيل لتذليل العقبات التي دفعته لإتخاذ ذلك القرار ومحاولة إيجاد بعض الحلول البديلة والبحث عن السبل الكفيلة لبقائه في وطنه، فهي لا تجدي نفعاً ولا تلقى أذاناً صاغية طالما الأوضاع المأساوية على حالها، لا بل حينما تظهر في السماء غيوم مكفهرة سوداء مصحوبة برعد وعاصفة هوجاء وهو يسكن في بيت لا سقف له ولا فناء . 

في زمن النظام السابق كان يُحكم على الجندي العراقي بالإعدام بسبب هروبه من المعركة أو يُعاقب بالسجن أو بقطع أذانه لتخلفه عن أداء الخدمة العسكرية، ولكن تلك العقوبات لم تردع الأخرين ولم تعالج الخلل لأن العِلم الحديث يؤكد بأن لكل إنسان قدرات جسدية وروح معنوية محدودة لا يمكنه تجاوزها مهما حاول، لذا من غير المعقول أن نطلب منه أن يؤدي عملاً شاقاً خارج نطاق إمكانياته الذاتية وفوق طاقته . والقصص كانت تُروى عن بعض الجنود الذين دخلوا معارك شبه إنتحارية في الجبهة لسنوات دون أن تهتز روحهم القتالية وتهبط حالتهم النفسية وعادوا سالمين، وأخرون كانوا يرتجفون وهم في مواضعهم في الخطوط الخلفية لضعف بنيتهم الذاتية ورِقّة البيئة التي كانوا يعيشون فيها، وربما لقلة خبرتهم في الحياة .  

وفي الختام فإني على يقين لا تراوده شكوك، بان الحبل السري مع رحم الوطن لا يمكن أن تطاله أصابع الزمان مهما بعدت المسافات وتعاقبت الأجيال ودارت الأيام، لأن خارطة العراق وبلداتنا العزيزة مرسومة على شغاف قلوبنا، وذكريات الطفولة والشباب مطرزة في طيات ذاكرتنا، وعشقنا المتناهي للحديث عنها في أحاديثنا ولقاءاتنا ومناسباتنا وإحتفالاتنا ممزوج بالدماء التي تسري في عروقنا . ” بالأمس كنا نعيش داخل أسوار الوطن، وفي المهجر أمسى الوطن يعيش في قلوبنا وخارطته نراها مرسومة على أرصفة غربتنا وجدران حياتنا “.

                                         صباح دمّان –  في  7/7/2014

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *