مُعجزة الخبز والسمك الأولى ( 2 )

< فلما سَمِعَ يسوع بمقتل يوحنا المعمذان، انصرف من هناك في سفينةٍ الى مكانٍ قفر يعتزل فيه. فعرف الجموعُ ذلك فتبعوه من المدن سيراً على الأقدام فلما نزل الى البَرِّ رأى جَمْعاً كثيراً، فأخذَتْه الشفقة عليهم، فشفى مَرْضاهم > (متّى14: 13 مر6: 30-31 لوقا9: 10-11).

ليس من شَكٍّ بأنَّ يسوع تأثَّرَ من المصير الذي انتهى إليه المُرسلُ الإلهي يوحنا المعمذان على يد هيرودس الذي وصفه الربُّ يسوع بالثعلب، عندما أخبره بعض الفريسيين بأنَّ هيرودس يسعى الى قتله (لوقا13: 33). فقرَّر يسوع مُغادرة منطقة الظلم والذهابَ الى منطقةٍ قفراء راغباً بذلك ايضاً في إعطاء بعض الراحة لتلاميذه بعد عودتهم من مُهمَّة تبشير بني اسرائيل، لأنَّ الجموع الآتية والذاهبة كانوا من الكثرة بحيث لم تكن تُتاح لهم الفرصة لتناول الطعام (مر6: 30-31 لوقا9: 10) فغادروا كفرناحوم مستقلّين سفينة الى مكان منعزل في أرض لبيت صيدا شرقي بحيرة طبرية (لوقا9: 10) حيث لا سوق هناك لشراء الطعام ولا تتوفَّر أيَّة وسيلة للحصول على الطعام من خلالها!، لم يكن هذا الإنعزال  خوفاً من الثعلب هيرودس إذْ يعلمُ يسوع بأنَّ يَدَه لا تستطيع الوصول إليه، لأنَّه ليس بالإمكان أنْ يهلك نبيٌّ في خارج اورشليم (لوقا13: 33) ويُشيرُ قول يسوع هذا الى َمدى حزنه على وضع اورشليم وقساوة قلوب أبنائها، فدفعه هذا الوضع للإنصراف الى منطقةٍ قفراء كأنَّه انطلاقٌ الى الجماعات الأممية الشبيهة بالبرية المُقفرة ليُقيم فيها فِردوساً له لأنَّ الأمة اليهودية رفضته فهي على شاكلة هيرودس قاتل المُرسَل الإلهي يوحنا المعمذان.

ولكنَّ الجموع عَلِمَتْ برحيله هو وتلاميذه الى منطقة الإعتزال، فأسرعوا بالتوَجُّهِ إليها من مختلف المدن والقرى سيراً على الأقدام وكانوا الأسبق في الوصول إليها. كانت هذه الجموع تَكُنُّ ليسوع حُبّاً كبيراً ويُفردون له اعتباراً عالياً جداً وهم يأملون بأنَّه سيُحقِّق رجاءَهم ويكون ملكاً أرضياً ومنقذاً زمنياً لهم من مستعمريهم الرومان. فلما نزل يسوع الى البَرِّ رأى جمعاً كثيراً قد سبقه الى هناك، فأشفق عليهم وشفى جميع مرضاهم. (مر6: 32- 34 ولوقا9: 10-11). ولو دقَّقْنا بأمر انصراف يسوع في سفينة نرى فيه تأكيداً للمبدأ الذي طالبَ المؤمنين به بأن يهربوا من الشر ولا يُقاوموه، وهذا ما فعله بتركِه للمكان الذي فيه  قُـتِل يوحنا المعـمذان من قبل هيرودس انتيباس، كما سبق أن قام يوسف البار بتهريبه وأُمه وهو طفلاً مِن أمام هيرودس الكبير والد أنتيباس، وبالعمل بهذا المبدأ أوصى تلاميذه عندما أرسلهم بمهمة تبشير بني اسرائيل في حالة تعرُّضِهم للمضايقة < وإذا طاردوكم في مدينةٍ فاهربوا الى غيرها > (متّى10: 23). ونحن أيها الإخوة القراء، فإذا ما حَلَّت بنا تجربة، فإنْ لم نتمكَّن مِن تجنُّبِها، علينا أن نكون شجعاناً في تَحَمُّـلِها، أما إذا كُنّا قادرين على تجىُّبِها ولم نفعل فهذا يُعَدُّ نوعاً مِن التهوُّر غير  مقبول!

إشباع الخمسة آلاف

(متّى14: 15-21 مر6: 32-44 لوقا9: 12-17 يو6: 1-15)

إنَّ هذه المُعجزة (إشباع الخمسة آلاف) هي المُعجزة الوحيدة ولأهميتها البالغة دَوَّنها كتبةُ الإنجيل الأربعة، وتُعدُّ إشارة الى مُجترحِها المُشبِع المسيح الرب الذي به يستغني المؤمِنُ عن العالَم كما تُعَدُّ رمزاً لسِرِّ الإفخارستيا الذي به يُطعِمُنا السيدُ جسدَه على شكل خبزٍ ليُشبعَ نفوسَنا من الجوع الروحي. وهي الدليلُ الناصعُ لسخاءِ الرب ومن طبيعته صُنْع الخير بلا مَلَلٍ ولا نفاذَ لكنوزه الوافرة، ومدى غِناه لا يُمكن سبرُ غوره، ومهما سَخا بالعطاءِ لا يفتقِـر! وإذا امتنع عن العطاء لا يزيدُه غِنىً!.

ويبدو أنَّ تلاميذ الرب لم يكونوا قد استوعـبوا حقيقة صفات أبيهم السماوي (متّى5: 45-48) فأجابوا سيدهم الرب بالمنطق البشري العاجز عن إطعام مثل هذا العددِ الكبير من البشر سائلين إياه صَرفهم ليتدبَّروا أمرهم. وهنا يتضح بجلاء عجزُ الإمكانيات البشرية أمام الإنجازات الإيمانية. يُخبرنا البشيريوحنا قائلاً < فرفع يسوع عينيه، فرأى جَمْعاً كثيراً مُقبلاً إليه. فقال لفيلبس: “مِن أين نشتري خبزاً ليأكُلَ هؤلاء؟” وإنّما قال هذا ليمتحِنَه، لأنَّه كان يعلم ما سيصنع. أجابه فيلبس: لو اشترينا خبزاً بمائتَي دينار، لَما كفى أن يحصل الواحدُ منهم على كِسرةٍ صغيرة. > (يو6: 5-7) الربُّ يسوع بسؤاله أظهر حجم المُشكلة بالمقام الأول، ثمَّ بَيَّن لفيلبس مدى ضعفِ إيمانه بالرغم مِن مُعاينتِه الكثيرَ من المعجزات الخارقةِ التي اجترحَها سيدُه ولا زال ضئيلَ الثقة، فأراد يسوعُ بسؤالِه أن يزيدَ مِن ايمان فيلبس بعد أن يُشاهدَ المُعجزة، وعليه فعلينا أن نسمو بإيماننا واضعينَ كافة إمكانياتِنا البشرية بين يَدَي المسيح رَبِّنا مُلتمسين بركته! ويُرجَّح أنَّ الحديث الذي جرى بين الرب يسوع وفيلبُّس الذي أشرنا إليه للتَوِّ كان قبل الحديث الذي رواه متّى وسنأتي إليه الآن.

< وعندما حَلَّ المساء … > (متّى14: 15).

وعندما حَلَّ المساءُ، تقدَّم إليه تلاميذُه وقالوا له: ” المكان قفر وقد فات الوقت، فاصْرِفْ الجموعَ ليذهبوا الى القرى فيشتروا لهم طعاماً ” تُرى، ما هذا الإرتباك أيها التلاميذ؟ هل غابَتْ عن بالكم أعمالُ مُعلمِكُم العجيبة وأنتم تُشاهدونها بأعيُنِكم؟ كيف سمحتم لأنفسكم لتكونوا عُرضةً لإمتحان سيدكم؟ بطلبكم منه صرف الجموع القادمة إليه سيراً على الأقدام لتصرف النهار كُلَّه مُصغية الى تعاليمه ومتقبلة لأعمال محبته! حَقّاً ما أضعفنا عندما ننظر الى أُمور الخدمة بحسابات بشرية، وننسى أنَّ الرب الحاضر بيننا قادر على فعل كُلِّ ما تعجز عنه الطبيعة! حتى إذا كُنّا في منطقةٍ قفراء وكان الوقت مساء، فإنَّ الربَّ المُرافق لنا قادر أن يُشبِعَ جموعنا، فيا لقلَّة ايماننا!.

لِنَعُد الى موضوع المُعجزة، فقال لهم يسوع: ” لا حاجة بهم الى الذهاب.اعطوهم أنتم ما يأكلون” فقالوا له: “وليس عندنا هَهُنا غيرُ خمسة أرغفةٍ وسمكتَين”. فقال: “عليَّ بها”. ثمَّ أمرَ الجموع بالجلوس على العُشب، وأخذ الأرغفة والسمكتَين، ورفع عينيه نحو السماء، بارك وكسر الأرغفة، وناوَلها تلاميذَه، والتلاميذُ ناولوها الجموعَ. فأكلوا كُلُّهم حتى شبِعوا، ورفعوا ما فَضَلَ مِنْ الكِسَر: إثنتَي عشرة قفَّة مُمتلئة. وكان الآكلون خمسة آلاف رَجُل، ما عدا النساء والأولاد. وتمَّ جَمعُ ما فَضُلَ من الكِسر بامر يسوع قائلاً: لِئلاّ يضيعَ شيءٌ منها، وهذا يعزوه البشير يوحنا رمزاً للافخارستي مُشيراً الى وفرة المواهب السماوية الفائضة لإشباع المؤمنين (يوحنا6: 12) وفي ذات الوقت أراد إعلامهم بأنَّه أحياناً قادرٌعلى إطعامهم إذا اقتضت الحاجة، ومن ناحيةٍ أخرى بَيَّنَ لهم بأنَّه لن يُطعِمَهم عن طريق المعجزات بل عن طريق الوسائل الإعتيادية، وهذا ما يُحتِّم عليهم الإحتفاظ بالكِسَر.

إنَّ هذه المُعجزة تُعطينا درساً بأنَّ “عمانوئيل” الذي تنبأ عنه إشعيا النبي هو المسيح الذي حَلَّ بيننا وتصَرَّف كما يليق بتدابير الله الكاملة. ولهذا قال السيدُ لتلاميذه أعطوهم أنتم ليأكلوا، رغبةً منه لجعلهم شركاء في العَمَل، وآنيةً فَعّالة لتوزيع بركات الله للشعب العاجز، وبذلك قدَّم دليلاً كافياً مُعلناً حقيقة مَنْ هو! فالربُّ يروم دوماً أن يُبارك الشعبَ المؤمن ويطلبَ مِنه الوثوق به لأنَّ قلبَه حنون وغناه عظيم، وعلينا أنْ نستمدَّ منه العون بالإيمان بغضِّ النظر عن الظروف والأحوال. وكما يقول بولس رسول الأمم < تبارك الله أبو رَبِّنا يسوع المسيح، فقد باركنا بكُلِّ بركةٍ روحية في السموات بالمسيح > (أفسس1: 3) < صَعِدَ الى العُلى فأخذ أسرى وأعطى الناسَ العطايا > (افسس4: 8). فالسماءُ هي السخية والأرض بوار، إذاً فلنُوَجِّه نظرنا الى السماء!

1 – ألا يُمكن أن يكون قولُه هذا قد صَدَرَ عن فَرْطِ محبَّته لتلاميذه الذين أمضوا معه زمناً مُنصتين الى أقواله المُحيية ولامسين أفعالَه السامية، أن يُنجزوا هم هذا العمل بقوة ايمانهم لإشباع تلك الجموع؟ كم كان يشتهي أن يرى ذلك وهو متواجد بينهم!.

2 – ألا يُمكن أن يكون راغباً في الوقوف على مدى إمكانياتهم الإيمانية وقابلياتهم الموهوبة، فيُقدِموا على تقديم ما لديهم مهما كان قليل العدد وغير كافٍ للإشباع؟ لا شكَّ أنَّه هو المُقيت لشعبه، ولكنَّه يُطالب الشعبَ ليساهم بما لديه ايضاً، حتى وإن كان خمسة أرغفةٍ وسمكتين، وبذلك لا يُريدنا أن نبخل بتقديم القليل الذي نملكه، لأنَّه سيُشبِع الكثيرين ويفضل منه الكثير، كما فضل من الأرغفة الخمسة والسمكتين إثنتا عشرة قُفة مملوءة! فالرب يسوع أراد لتلاميذه أن يُبادروا لتقديم القليل الذي كان لديهم لينالوا مِن لدُنِه ما يُقدمونه لجموع الشعب، فيشهدون بأنفسهم على عمل بركته.

3 – كان تلاميذ الرب مِثالاً للكنيسة المستقبلية التي سيبنيها الرب على الصخر بطرس، ويستخدمها لإشباع أولاده المُنتمين إليها، وفي حالة افتقارها واحتياجها يُغنيها المسيح مؤسِّسُها فهو الواهبُ وهو المُباركُ والمُقَدِّسُ، ويُنجزُ عملُه هذا من خلال جسده المتمثِّل بأعضاء الكنيسة. فمثلاً تقوم الكنيسة بمنح المعموذية عن طريق الماء والزيت ومن خلال الصلوات ، فيتقبلها العريس الرب واهباً طالبي العماذ البُنُوَّة لله والعضوية في كنيسته المقدسة، فيُصبحون أُناساً جُدُداً على صورته ومثالِه مُجدَّداً. وعلى هذا النحو يتقبَّل الله عن طريق الأسرار كُلِّها أُموراً سهلة جداً يَهَبُ من خلالها هباتِه المجانية التي لا تُثَمَّـن.

الشماس د. كوركيس مردو

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *