متى سنرمي الحجارة من تحت لساننا ؟

                     

          يُحكى أن قسيساً ورعاً كان يدير شؤون الكنيسة في إحدى البلدات في شمال وطننا العزيز ، وكان مخلصاً ومتفانياً في أداء واجباته الدينية وخدمة أبناء رعيته ومد يد العون لكل محتاج إنقطعت به سُبل العيش . ومن خلال مواعظه بعد قراءة الإنجيل ولقاءاته اليومية بأبناء البلدة كان يرشد وينصح بعض الضالين واللاهثين خلف ملذات وإغراءات الحياة المعاصرة من أجل تقويم سلوكهم وتنظيم علاقاتهم الإجتماعية مع الأخرين وإنارة الجانب المظلم  الذي إستوطن نفوسهم،ظناً منه أن الشر قد أغواهم وأن رسالته المسيحية تحتم عليه العمل على خلاصهم من حبائله.

بمرور الزمن كثرت همومه وتتغلغلت مشاعر اليأس في أعماقه ، وعلى أفكاره هيمن الخوف من المجهول والتوجس من المستقبل على مصير بلدته وكنيسته حينما أدرك أن الجهود التي بذلها مع بعض الأبناء ذهبت أدراج الرياح ولم تظهر بوادر إيجابية في سلوكهم اليومي، بل على العكس أمسى بعضهم أكثر تعلقاً بقشور الحضارة، فإستهانوا بكل القيم والأخلاق وتجاوزوا كافة التقاليد والأعراف ، الأمر الذي جعله في مواقف مثيرة ، يخلع ثوب الوقار خلال لحظات غضب عابرة ، ويخرج عن طبعه المألوف فيخاطبهم بكلمات قاسية وعبارات جارحة ، تتعارض مع طبيعة لغة الحوار الهادئ وثقافة التسامح والرعاية الأبوية التي يجب أن يتصف بها الكاهن حينما يكرّس حياته لخدمة رعيته .

 وكالعادة إنتشرت أخبار ذلك القسيس حتى طرقت سمع رئيس الكهنة الذي تقع تلك البلدة ضمن مسؤولياته ، وأراد التأكد بنفسه من صحة الخبر ، فقرر الذهاب إلى تلك البلدة في أحد أيام القيض الشديدة الحرارة دون إشعار مسبق . وعندما دخل إلى ساحة الكنيسة إستقبله القسيس بحرارة وترحاب ، ثم رافقه إلى غرفته الخاصة ليأخذ قسطاً من الراحة بعد رحلته الشاقة . وبعد تبادل أطراف الحديث في شؤون الكنيسة والرعية ، أخذ المطران يعاتبه وينتقده على أسلوبه  المرفوض دينياً وإجتماعياً في تعامله مع بعض أبناء البلدة ، كيف لا وهو واعظ الكنيسة والقدوة الذي يدعو المؤمنين لمقاومة دسائس إبليس وفتح قلوبهم لنور المسيح .

 أخذ رجل الدين يدافع عن نفسه قائلاً ” إن كثيراً من أبنائنا يا سيدي المطران تناسوا أحاديث الإنجيل وتعاليم الأباء والأجداد ، فحادوا عن طريق الخير والصواب وإستمروا في ضلالهم ولهثهم وراء بريق المال ، ولم يجدِ نفعاً معهم العتاب الهادف والنصائح المخلصة التي باتت تستفز غرورهم وعنادهم ، وأخرون لم يتوقفوا عن إرتكاب ما يحلو لهم من حماقات وأفعال مخجلة لا تخطر على بال ، دون مراعاة لثوابت مجتمعهم وسمعة أبناء جلدتهم ومسؤوليات وجهاء بلدتهم . تلك النزوات جعلني يا سيدي أفقد أعصابي في لحظة غضب شيطانية ، وأرتكب أثماً أندم عليه ، فألتمسُ بعدها المغفرة من ربي وأصلي لكي يشد من أزري لتجاوز هذه المحنة التي تهز كياني . “

 ومن خلال الجدال الساخن حول الموضوع ، خطرت على بال ذلك المطران الجليل فكرة ذكية كعلاج وشفاء للقسيس من حالته الحرجة ومعاناته الروحانية ، فطلب منه بعد إكمال واجباته الدينية كل يوم وقبل خروجه من الكنيسة ، أن يضع حَجرة صغيرة (بْسقه) تحت لسانه ، لكي تذّكّره دوماً بتعهده وتصبح رقيبا عليه تمنعه من السقوط في أحضان الخطيئة حينما يواجه موقفاً مشابهاً يثيرأعصابه ويفقد السيطرة على لسانه .

 وبينما كانا يناقشان في جانب أخر من الحديث شؤون سكان البلدة وكيفية معالجة الأفة التي أفسدت بعض النفوس ، دخلت إمرأة نحيفة طاعنة في السن وإلتمست القسيس أن يذهب معها للصلاة على مريضة وحيدة لها مشرفة على الموت في دارها ، وإدعت بان صلاته وشفاعته قد تشفيها من علتها . كانت الزائرة بمثابة ملاك رحمة نزل من السماء لينقذ القسيس من المأزق الذي كان يحاول التخلص منه ، فوافق على الفور وإستأذن للمغادرة ، ولكن المطران وجد  أن من واجبه الديني أيضاً مرافقته إلى بيت المريضة .

إنطلق الثلاثة سوية ، وأخذت المرأة الكبيرة وكأنها في مقتبل عمرها ، تسير وتسير في دروب ملتوية وأزقة ضيقة والقسيس خلفها والمطران يتبعهما ، ثم أخذت تتسلق طريقاً ترابياً وتهبط أخراً وهما يجريان في أثرها ويلهثان حتى أخذ العرق يتصبب من كل بقعة من جسديهما بعد أن أضناهما المسير الطويل وأشعة الشمس الملتهبة .

 كان المطران احياناً يمسك بتلابيب القسيس ليمنع نفسه من السقوط وليساعده في إكمال المشوار ، حتى وصلت المرأة أخيراً إلى نهاية القرية ووقفت أمام دارها . دقائق مضت حتى تمكن رجلا الدين من اللحاق بها بعد مشقة  وجهد كبيرين حيث كانا يتوقفان للإستراحة كل بضعة خطوات وكاد يغمى عليهما عدة مرات من شدة الإعياء .

 وقف المطران والقسيس في باحة الدار الصغيرة بعض الوقت يلتقطا نفسيهما وهما في حالة يُرثى لها ، بينما وقفت المرأة العجوز تراقبهما عن كثب وتنتظر من القسيس إنجاز واجبه . بعد لحظات إتجهت إلى حجرة صغيرة ذات سقف واطئ ، تفصلها عن وسط الدار ستارة قديمة بالية , فكشفتها وقالت له “هنا ترقد المريضة يا سيدي” ، وأردفت قائلة ” أبونا ، هل تستطيع أن تتلو صلاتك من هنا أم تقف بالقرب منها لتكون شفاعتك أكثر قبولاً ؟ “

تقدم القسيس يتبعه المطران وبلهفة أطلا بنظرهما إلى الداخل لمشاهدة المريضة . كانت دهشتهما لا توصف حينما وقع بصرهما على (( معزةٍ)) مريضة تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة ، مستلقية على فراش من القش وقد أغمضت عينيها وأحنت رأسها من شدة مرضها . ومن هول المفاجئة تراجع المطران والقسيس بسرعة إلى الخلف وأخذا ينظر أحدهما إلى الأخر وقد غمرتهما مشاعر من الذهول والغيض والإنفعال .

وبعد صمت مربك محير، قال القسيس وهو يتكلم بصعوبة بالغة ” ألم أقل لك يا سيدي المطران أن بعض أبناء قومنا بتصرفاتهم المُعيبة وأفعالهم الغريبة يجعلونك أحياناً تفقد أعصابك وتتفوه بكلمات دون إرادتك ورغماً عنك، وما فعلته هذه المرأة اليوم هو غيث من فيض ” فأومأ المطران برأسه بحسرة وأسف وهو لا يكاد يصدق حقيقة ما جرى ولا يدري ماذا يقول… وبعد تأمل للواقع ومحاكاة مع الضمير والوجدان نظر إلى القسيس الذي كان واقفاً أمامه كمتهم ينظرإلى القاضي الذي سيصدر عليه قرار الحكم ، وهمس بصوت خافت حزين ” ستبقى هذه الحادثة في ذاكرتي طويلاً ، والان أقول لك بكل قناعة وإيمان : إرمي الحجارة من تحت لسانك وقل ما تشاء ” 

                                                   10 / 10 / 2010

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *