ليتضامنَ المسيحيون لدرء المخاطر المتوقعة

                        أصبح واضحا للرأي العام الرسمي والشعبي محليا واقليميا وعالميا ما يتعرض له المسيحيون في العراق على أنها جرائم أبادة جماعية تُرتكب بحقهم وبالاخص في مدينة الموصل جراء الاحداث الاخيرة على يد الارهابيين من المسلمين المتطرفين .وقد نفذ الارهابيون ما سعوا اليه من تهجير المسيحيين وسلب ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة باستخدام أبشع الاساليب وأحقرها ،ونتج عنها التحطيم المعنوي والنفسي والاجتماعي والاقتصادي والصحي ،تلك التأثيرات التي تُعد هي الاخرى جرائم تنص عليها القوانين الدولية .لم ينته السيناريو لحد الان ،فمن المتوقع تَعرُض المسيحيون في بلداتهم وقراهم المحيطة بمدينة الموصل الى كارثة ستكون أكثر دمارا وسوءاً  وبؤساً وشقاءاً من التهجير والسلب ،وذلك عندما يحاول هؤلاء المجرمين توسيع رقعة سيطرتهم الجغرافية بأتجاه سهل نينوى حيث الكثافة السكانية العالية لشعبنا ، في ظل الصمت الدولي وتلكؤ الامم المتحدة غير الطبيعي تجاه الاحداث. ومن هنا جاء عنوان المقال في التأكيد على مفهوم ( المخاطر المتوقعة ) طالما هناك غموض في تفسير الاحداث ،الامر الذي يقودنا الى القول بأن المسألة هي أكبر مما نتصورها محليا لوجود أيدي خفية تُحرك الدمى الارهابية .فيحتم على المسيحيين وكل من موقعه سياسيا وكنسيا ومدنيا وفكريا أن يتحمل المسؤولية للبحث عن وضع التدابير الوقائية فيما أذ تطورت الاحداث في سهل نينوى نحو الاسوء.
   فما هو المطلوب من كل واحد بحسب مؤهلاته وقدراته  في المرحلة الراهنة ؟ وبدوري وضمن سياق أختصاصي سأضع تفسيرا لآهمية التضامن الاجتماعي في ضوء نظرية المثير والاستجابة في التعلم ولكي نتعلم جميعنا .
يتكون كل مجتمع من مؤسسات متنافسة في الظروف المستقرة والطبيعية ،وتحتوي على افراد يتميزون بخصال ومفردات متباينة بحكم قانون ( الفروق الفردية )،وهم في وضع التنافس أيضا ،وقد تحصل بينهم الاختلافات في المواقف الاجتماعية والسياسية والدينية ،وهذه حالة طبيعية أذا لم تتحول الى صراع ونزاع أجتماعي .لكن ستختلف الحالة عندما يتعرض المجتمع الى أخطار خارجية ،فحينئذ يتطلب الوضع تحول السلوك الفردي الى السلوك الجمعي الذي يتميز بالعقل الجمعي ليوحد الافراد لدرء المخاطر عنهم. ولكن متى تتم هذه الحالة ؟
    لبناء أية علاقة أجتماعية أو نشوء أية ظاهرة أجتماعية لا بد  أن تتضمن ( المثير والاستجابة ) ،والمثير هو حادث أو منبه أو محرك يحدث في البيئة المحيطة بالانسان ويوقظ في نفسه الاحساس والمحاولة  لقيام بفعل من الافعال لحدوث الاثارة الداخلية في النفس البشرية ، كشعور الانسان الحاجة الى الطعام وشعوره بالخطر أو الخوف ،وعلى أثر هذا الشعور يحاول الفرد الاستجابة لذلك المثير ،فالاستجابة هي ردة فعل باسلوب وسلوك ما عندما يتعرض الفرد للمثير .
وتطبيقا لذلك يعتبر حدث تعرض المسيحيين في مدينة الموصل الى الاضطهاد مثيرا أو منبها لهم ،فيضطرون الى أتخاذ الاجراءات والتدابير الوقائية لابعاد الاثار المتوقعة من الفعل ،فيكون ما يتبنى من سلوكيات وردة فعل هي بمثابة الاستجابة للمثير ،ويتطلب في مثل هذه الحالات الشديدة الخطورة والمصيرية ،أن لا تكون ردود الافعال أنفعالية ومتشنجة وعشوائية وفوضوية ،بل يتطلب التنسيق والتدبير ،وسوف لم يتحقق التدبير ما لم تتوفر فرصة التضامن الاجتماعي .
فالتضامن الاجتماعي حاجة ملحة ومشتركة بين افراد المجتمع ،وهي حاجة الدفاع عن النفس ،ولا يتيسر تحقيقها ألا في الحياة المشتركة. ويأتي التضامن بسبب عجز الفرد من الصمود أمام التحديات المتمثلة بالارهاب .ولما كان الافراد مختلفين فيما بينهم في قدراراتهم ومواهبهم ،فلابد هنا الحاجة الى التضامن الذي يعد أتفاقا مع الغير من الذين يختلفون عنه ماديا وأجتماعيا ومعرفيا وقياديا .وهو مسؤولية الجميع كل بحسب امكانياته ،وهو أيضا التزام عاطفي وقيمي برموز تتصل بالهوية العامة والثقافة المشتركة ،فالذي يتحلى بالتضامن ويندفع اليه ،له شخصية مفعمة بالمشاعر الانسانية والحس الاجتماعي .
أن درجة التضامن تعتمد على طبيعة الجماعة والمؤسسات السائدة في المجتمع التي تؤثر تأثيرا مباشرا على أنماط سلوك الفرد ،فيظهر التضامن عندما تكون :
المقاييس والقيم مشتركة 
وجود مصالح مشتركة 
ألتزام الفرد باخلاقية وسلوكية جماعته 
أن هذه المقومات متوفرة تماما عند المسيحيين العراقيين ،فالقيم الاجتماعية ومقاييس المفاهيم العامة مشتركة بين الجميع تحت تأثير البيئة الجغرافية والاجتماعية الواحدة والتاريخ المشترك ،والقيم الدينية ،وطالما أنهم يبحثون سوية الى سبل الحياة الكريمة والعيش بسلام وأمان ورخاء وفي ظل عدالة أجتماعية ، فأن مصالحهم مشتركة أيضا ،وكذلك الفرد المسيحي ملتزم بأخلاقية وسلوكية جماعته الدينية ولا يمكنه التخلي عن تلك المبادىء التي تلقاها أثناء التنشئة الاجتماعية .ومن رصد للأحداث ومتابعتها تبين جليا بوجود مظاهر التضامن بين أبناء شعبنا المسيحي ،ومن أبرزها : تعاون الكنائس بمختلف الطوائف لتجاوز الازمة والمتابعة المستمرة من رجال الدين  ،وأندفاع أبناء البلدات والقرى المسيحية لفتح أبواب بيوتهم أمام أخوانهم المهجرين من الموصل ، وحملة التبرعات من قبل المسيحيين في دول الانتشار ،وما المسيرات الاحتجاجية التي يؤدونها في المدن المختلفة وأخص بالذكر مسيرة مدينة عينكاوة الا تعبيرا للشعور بمسؤولية التضامن لغرض اعلام وتحريك الرأي العام الرسمي والشعبي بالوضع المأساوي لمسيحي العراق.
ماذا يحقق التضامن الاجتماعي ؟
 للتضامن الاجتماعي مردودات كثيرة فهو : يخفف من حدة التوتر النفسي وآثار الارهاب التي يتعرض لها المسيحيون ،ويؤدي الى التآزر والتحالف والاتفاق على الرأي ،وثم الاتجاه نحو الاندماج والانضمام تحت راية واحدة ،ومن نتائجه تجديد الطاقة بعدما يخمد الحماس وتضعف الهمم ، ويدفع الافراد للتحرك بعيدا عن الانانية والعمل بأكثر من عقل ،كل بحسب مؤهلاته وأمكاناته .وثم أستعادة الثقة العامة لمواجهة الازمة .
  ولكي نحقق تضامناً أفضل في المرحلة الراهنة ونحن أمام توقعات توسع نطاق الارهاب باتجاه بلدات شعبنا المسيحي في سهل نينوى يتطلب :
     التركيز على المصلحة العامة لكي تعلو على المصلحة الشخصية من قبل منظمات المجتمع المدني والاحزاب السياسية والكنائس في هذه الظروف القلقة .
    التماسك والتضامن عموديا ، ابتداءً من مراكز صنع القرار في القيادات الكنسية والسياسية .
    الالتفاف والتعاون مع الكنيسة وتقدير وتقييم المحاولات الرائدة التي يقدمها رؤوساء الكنيسة ،وفي مقدمتهم أبينا البطريرك مار لويس روفائيل الاول ساكو بطريرك الكلدان ، وغبطة البطريرك مار أغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك  ،والاساقفة الاجلاء للجهود التي يبذلوها في طرح قضية شعبنا للرأي العام الشعبي والرسمي عبر زياراتهم الميدانية ولقاءاتهم الاعلامية والرسمية دوليا ومحليا لتحريك المشاعر الانسانية  تجاه محنة مسيحي العراق .
  الكف والابتعاد عن أثارة النعرات الطائفية والقومية والاتهامات الشخصية بين الاحزاب السياسية لشعبنا من مكوناته الاثنية الاشورية ،الكلدانية ، السريانية ونبذ حالة القال والقيل والتشكي والتذمربينهم.
ألتزام الوسائل الاعلامية التي يديرها أبناء المكونات الثلاث من المواقع الالكترونية والصحف اليومية بعدم نشر أي موضوع أو تعليق يثير هذه النعرات لانها لاتخدمنا بالذات في المرحلة الراهنة .
 التنسيق لاجراء اللقاءات مع صناع القرار في الدول المتقدمة لتوخي الفوضى والارتباك والالتباس عند الاطراف المعنية .
التأكيد وبل التشديد على الحماية الدولية المؤقتة لشعبنا المسيحي في مناطق تواجده بكثافة والمعرضة الى المخاطر المتوقعة في كل يوم وبل ساعة في سهل نينوى لتكون حاجزا أمنيا بين بلداتنا ومصادر الارهاب في مدينة الموصل .
التركيز على التعاون مع حكومة أقليم كوردستان طالما أصبح التواجد الكثيف للمسيحيين ضمن الحماية العسكرية الكوردية ،وتقدير وتقييم الدور الذي يبذله الاقليم رئاسة وحكومة في حماية المسيحيين وما تصريح  الرئيس مسعود البارزاني المعبر عن الحس الانساني تجاه المسيحيين ( أما أن نحيا سوية أو نموت سوية ) الا رسالة واضحة للعالم على مدى الوعي الكامل لحقوق الانسان في أقليم كوردستان ،والرغبة الحقيقية في العيش المشترك بسلام وأمان ونبذ العنصرية.
التنسيق لتوفير البدائل من البنى التحتية التي أفتقدتها التجمعات السكانية المسيحية في سهل نينوى بسبب حجبها من الموصل .
ألتزام المسيحيين العراقيين في دول الانتشار تجاه الازمة والمخاطر التي تعرض له أخوتهم في العراق على المستوى المالي وطرح القضية في المحافل الدولية، والتأثير على الرأي العام .

 

د . عبدالله مرقس رابي
باحث أكاديمي

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *